الفيلم البولندي "تغيرات" (2003) كان من بين أربعة عشر فيلماً في المسابقة الرسمية لمهرجان تورينو في دورته الأخيرة, وكان أكثر الأفلام تميزاً. يفتتح الفيلم بمشهد ليلي تقترب فيه الكاميرا من منزل شبه منعزل في إحدى الضواحي, يغلفه الهدوء من الخارج في صورة يتوقع معها المشاهد أن ما سيراه داخله سيبعث على السكينة والسلام. في تلك الليلة يأتي شخص غريب عن المنزل "ستاوت" (أداء جاسيك بونيجياليك نتعرف من خلاله الى أهل المنزل نفسه, الأم وبناتها الثلاث باشيا واندا ومارتا. هذا الشخص ليس غريباً فقط لكونه زائراً جديداً, ولكن لأن شخصيته وسلوكه يتسمان منذ البداية بالغموض وفي أحيان أخرى بالجرأة الوقحة. ثم نعلم أن ستاوت مرتبط بواندا وأنه جاء يطلب يدها من الأسرة, لكن عندما يقدم نفسه لا يجد أي استجابة طيبة من أي منهن, وندرك أن عدم تقبلهن لستاوت ليس فقط لكونه شخصاً غريب الأطوار, أو لأنه كما يقال "شخص له ماض", لكن لكونه رجلاً, يدخل إلى عالم من النساء هو على شفا حفرة من الانهيار, عالم يحافظ بالكاد على توازنه الهش ولا ينقصه سوى وجود ذلك الشخص ليتهاوى تماماً وهذا ما حدث بالفعل. عزلة أم فعلاقة هؤلاء النساء بالرجال لم تكن أبداً إيجابية, وكانت تكتنفها المشكلات. الأم تعيش في عزلة منذ فترة طويلة لأنها لم تستطع إقامة علاقة صحيحة مع زوجها ومن ثم الاحتفاظ به, وخلف قوة شخصيتها الظاهرية تختفي سنوات طويلة من الضعف والوحدة. ابنتها باشيا تعاني من مرض السكري ولديها طفلة لكنها لم تفصح أبداً عمن هو والدها. أما مارتا أصغر شقيقاتها فمتزوجة لكنها على رغم ذلك تعاني الاحباط الجنسي إذ يرفض زوجها شهوتها العارمة للجنس, والنتيجة إنهما لم يلتقيا في الفراش لما يقرب من عام كامل. وما يزيد حياتهما توتراً أن الزوج لا يرغب في الانجاب, حتى واندا لم تستطع تحقيق علاقتها بستاوت نتيجة كراهية اسرتها له. حلول ستاوت على المنزل من دون سابق انذار وفي ليلة ممطرة مظلمة لا نرى منها سوى ضوء البرق أو نسمع فيها إلا دوي الرعد جاء أقرب إلى القدر المشؤوم الذي يحل بانسان, أو مكان, فيحدث به الكثير من التغيرات. وبالفعل يدخل ستاوت هذا المنزل وينزل به الشقاق ويقيم الحواجز النفسية بين أفراد الأسرة ويغير, هذا الهدوء السطحي الزائف إلى حال من الفوران الجامح, أي أنه باختصار يقلب أحوال ذلك المنزل رأساً على عقب. في كثير من مواقفه وسلوكياته, بخاصة بغموض نظراته وابتسامته الماكرة, يبدو لنا ستاوت كالشيطان (لاحظ تقارب اسمه واسم فاوست, وأيضاً ندرة هذا الأسم نفسه), لكن في الوقت ذاته يمكننا أن نعتبره كالملاك أو المخلص والمنقذ إذا ما أمعنا النظر في الوجه الآخر لتلك المواقف والسلوكات, وربما كانت هذه التركيبة الخاصة لشخصية ستاوت الجزئية الزاوية الأهم في بناء الفيلم. اعتمد ستاوت في سلوكه هذا على الإغواء بحسيته وفحولته وجاذبيته الجنسية الواضحة, وعلى الأسرار الكبرى التي يعرفها عن افراد هذه الأسرة وكشفها في الوقت المناسب أو الوقت الذي يريده من دون أن نتحقق على وجه الدقة من الدوافع أو الأهداف التي يسعى إليها من وراء ذلك السلوك الذي كان أقرب إلى الانتقام أو الحقد, عدم وضوح هذه الدوافع والأهداف تناسب وفكرة الملاك - الشيطان التي مثلها ستاوت مما أعطى للفيلم بُعداً أكثر عمقاً. وفي الليلة التي يصل فيها ستاوت يلتقي واندا في فراشها بشهوانية وإثارة, ويقوم عن عمد بتمزيق الحاجز البلاستيكي الرقيق الذي يفصل بين فراش واندا ومكان مبيت مارتا حتى تراهما, بخاصة وأنه كان يدرك افتقادها لمثل هذه الممارسات. عندما ترفض الأم بحسم فكرة انتسابه للعائلة بسبب ماضيه والتفاوت الطبقي يقوم بالتهكم عليها وكشف ماضيها وتصلبها أمام بناتها, مما يضعها في موقف لا تحسد عليه, ويضع علاقتها مع بناتها على المحك. فابنة مثل مارتا لم تأخذ وقتاً طويلاً في قرارها بالتمرد على القيود والالتزامات الأسرية. عندما تمادت باشيا في انتقاد تصرفاته والتحدث عن ماضيه كشخص انتهازي عانى منه الكثيرون من قبل, يقوم بمواجهتها في مشهد صاخب يكشف فيه أمام اسرتها عن سرها الكبير, عن والد الطفلة الذي يتضح أنه زوج مارتا شقيقتها فتصاب بأزمة سكري شديدة وتموت. تفجير نهائي في مشهد آخر يجمع ستاوت بواندا ومارتا وزوجها داخل شقة مارتا يفجر ستاوت موضوع العلاقة الباردة بين مارتا وزوجها فينشب نقاش حاد وجارح, وهنا تدرك واندا علاقة مارتا بستاوت, تلك العلاقة التي حاولت مارتا رفضها في البداية لكنها لم تستطع الصمود أمام ستاوت بكل مواصفاته, الرشاقة والوسامة والفحولة والجاذبية التي صنعت منه رمزاً "للجنس" وكانت في أَمَسّ الحاجة إلى هذا الرمز, على رغم التلميح في نهاية الفيلم بإمكان استغلال ستاوت لهذه الحاجة. كمشاهدين, من المؤكد أننا سنحنق على ستاوت لأنه السبب في موت باشيا, من ناحية أخرى يمكن أن نرى أنه قد أراحها من مرضها وأزماتها المتكررة ومن سرها الكبير الذي كان جاثماً على صدرها طوال الوقت, كما أراح ابنتها من العيش مع أم مريضة دائماً لم يكن في استطاعتها تلبية احتياجاتها كطفلة تعيش في جو أسري عادي. ومن المؤكد أيضاً أننا سندينه لإقامة علاقة مع أخت خطيبته, لكن في الوقت نفسه منح ستاوت مارتا شيئاً أساسياً في حياتها, شيئاً كانت محرومة منه وكانت في حاجة شديدة إليه لكي تسير حياتها بصورة طبيعية, بخاصة وأن احتياج مارتا لستاوت كان أكبر من احتياج واندا إليه وهي لم تتأثر كثيراً بابتعاده عنها. عند مشاهدتنا الفيلم سنجد أننا تلقائياً نتذكر بعض الأفلام الأخرى التي تتقارب في مناخها وطرحها وشخصياتها, سواء من قريب أم بعيد, مع فيلم "تغيرات" مثل الفيلم البريطاني "الخادم" 1963 لجوزيف لوزي الذي يعرض العلاقة الجدلية بين الخدم والأسياد, وحقد هذا الخادم على الأسرة الراقية وتمكنه من فرض وجوده عليها خصوصاً بعد أن عاشر كلاً من الأم والابنة وحتى الابن. ومثل "ثيوريما" 1968 لبازوليني, أو "الأخوات الثلاث" لتشيكوف. بداية كبيرة بهذاالعمل يقدم لوكاس بارشيك (29 عاماً) أول أفلامه السينمائية الذي أظهر من خلاله قدرته على تقديم لغة سينمائية لا تقل في مستواها عن لغة كبار المخرجين العالميين, عرف كيف يتعامل مع الإضاءة والتوليف والصوت وحركة الكاميرا وأداء الممثلين ليقدم صورة بصرية لا تنقصها الدقة الفنية والحس الجمالي أو دلالات الأفكار المراد إيصالها, وليمنح فيلمه مناخاً خاصاً وأجواء ضرورية لموضوعه خصوصاً مشاهده الليلية واختياره لفصل الخريف الممطر التي تتوافق غيومه وكآبته مع طبيعة أحداث الفيلم وشخصياته. كذلك تبدّت قدرته في إدارة ممثله الرئيس إذ جعله ينفذ الصورة التي رسمها له في مخيلته وطبعها على الورق بدقة متناهية, فاستطاع أن يخرج منه تلك النظرات التي تعبر عن أكثر من معنى في آن, من ناحية أخرى صوره في أول ظهور له من الخلف وهو يتقدم باتجاه المنزل ليأخذ ظهره الذي بدا ضخماً معظم الكادر ليبدو فعلاً كالنذير الشؤم الذي ينقض على المنزل, كما كان يضعه دائماً في منطقة مسيطرة من الكادر في حال ظهوره مع آخرين مما يؤكد قدرته على التحكم في الجميع. عند لقاء ستاوت واندا ومارتا وزوجها, ذلك اللقاء الذي واجه الأربعة فيه بعضهم بعضاً ونشب بينهم نقاش حاد كان بارشيك يحرك الكاميرا في شكل أفقي "PAN" من شخصية إلى أخرى أثناء ذلك النقاش الحاد وبحدة النقاش وسرعته نفسيهما, لم يعتمد وسيلة الانتقال أو التقطيع من وجه إلى آخر, لكن ظلت الكاميرا تتحرك بين الوجوه يميناً ويساراً من دون قطع مما جعل المشاهد يشعر وكأنه داخل هذا الحدث, داخل الغرفة نفسها, ومن ثم جعله المخرج فاعلاً وليس متلقياً سلبياً فحسب. قبل "تغيرات" قدم بارشيك فيلمين للتلفزيون حصل إحداهما "أنا انظر إليك ياماري" (2001) على جائزة من مهرجان مانهايم هايدلبرغ الألماني في العام نفسه. درس بارشيك السينما في أكثر المعاهد السينمائية البولندية والأوروبية قوة واحتراماً وهو معهد "لودج" الذي كان تخرج فيه مخرجون كبار مثل رومان بولانسكي واندريه فايدا وكريستوف كيسلوفسكي وآخرون. في مهرجان تورينو حاز "تغيرات" على جائزة أفضل فيلم من لجنة التحكيم الدولية لنقاد السينما (فيبرسي). الحياة اللبنانية في 10 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
بارشيك يبعث الروح في السينما السوداء على الطريقة البولندية القاهرة/ أيمن يوسف |
|