لا شك في أن المنجز الابداعي المتفرد للفنانة زينب، والمكانة الكبيرة التي حظيت بها في نفوس المتلقين العراقيين والعرب علي حد سواء، اضافة الي مواقفها الوطنية المشرّفة هو الذي دفع المخرج طارق هاشم لأن يضعها في نُصب اهتماماته الفنية، وهواجسه المُلِّحة، ويكرّس لها فيلماً تسجيلياً يتناول فيه جوانب محددة من تجربتها الفنية، كما يرصد في الوقت ذاته وقائع تشييعها ودفنها في مغتربها الأخير في السويد. وبالرغم من أن الفنانة زينب فخرية عبد الكريم لها رصيد فني كبير في أكثر من حقل ابداعي الا أن هذا الفيلم المعنون زينب لم يركّز الا علي ثلاثة أعمال فنية لها وهي فيلم سعيد أفندي اخراج كاميران حسني، وبطولة يوسف العاني وزينب، وفيلم الحارس اخراج خليل شوقي، وبطولة زينب ومكي البدري، ومسرحية النخلة والجيران اخراج قاسم محمد، وبطولة الفنان خليل شوقي وزينب. كما تضمن الفيلم خمس اطلالات رئيسية للفنانة المسرحية سهام علوان التي قالت فيها أشياء مهمة استطاعت من خلالها أن تؤطر الفيلم، وتحبك بُعده السردي عبر لغة ايحائية شديدة التأثير. كما أطلت أكثر من مرة اطلالات مبتسرة لم تقل فيها شيئاً لكن حضورها الفيزيقي كان له سطوة بصرية خاصة تعكس احساسها الوجداني العميق بهيبة الحدث الجلل الذي مرَّرته عبر مصفاة روحها المُحبة، والمُتيّمة، بصديقتها، وأستاذتها، ورفيقة رحلتها الفنية زينب والتي كانت تعدها أنموذجاً في الوعي والثقافة والاخلاص والتفاني. يبدو أن المخرج لم يُعر كبير اهتمام للتسلسل التاريخي للأعمال الفنية التي اقتبس منها مشاهد محددة، فقد بدأ بمشاهد من فيلم الحارس الذي أخرجه الفنان خليل شوقي عام 1967، ولم يبدأ بمقتبسات من فيلم سعيد أفندي الذي أنجزه المخرج كاميران حسني عام 1956، أو حتي من مسرحية النخلة والجيران التي أخرجها قاسم محمد عام 1969. علي أية حال أن الرؤية الفنية للمخرج طارق هاشم هي التي تتحكم بالبعد الجمالي الذي تراه مناسباً وضرورياً في تقديم الشخصية التي يتمحور حولها الفيلم. المؤثرات البصرية والصوتية منذ مدة طويلة وأنا أحاول الكتابة عن الرؤية الفنية لطارق هاشم، وأسلوبه الاخراجي الذي يعوّل علي تقنيات صعبة يسعي الي تذليلها من خلال المراهنة علي صرامة النهج الاخراجي الذي يتبعه، فمثله مثل الموسيقار البارع الذي يحاول جاهداً أن يتفادي حتي الخلل البسيط الذي قد يربك ايقاع عمله السمفوني، ويفسد هارمونيته الدقيقة فالمؤثرات البصرية تلعب دوراً مهماً في اختصار الزمن الواقعي، وتحويله الي زمن سينمائي، وتتحقق هذه العملية الفنية عبر تقنيات مزج اللقطات، وآلية الظهور والاختفاء، وانتقال البطل من مرحلة الي أخري بطريقة سلسة لا تعتورها المطبات، والهنّات الواضحة التي لا تفلت من عين المتلقي المُدربة. وفي سياق حديثنا عن الاحساس بالزمن الذي تدور به أحداث الفيلم السينمائي لابد من التركيز علي آلية التصوير ذاتها التي تعتمد علي ثلاثة عوامل أساسية وهي الاضاءة، وزوايا التصوير، والكادر السينمائي والتكوين ولا نريد أن نتوسع في التفاصيل التقنية لهذه العوامل الثلاثة، ولكننا سنمّر عليها بما يخدم موضوع بحثنا في فيلم زينب والذي يجمع بين خصائص ومواصفات الفيلم التسجيلي والروائي في آن معاً. فالاضاءة في الفيلم التراجيدي تحتاج الي أنوار وظلال متناقضة تماماً كي تعبّر عن الحالة التراجيدية التي يعيشها البطل ومن يحيطون به، بينما تحتاج الاضاءة في الفيلم الكوميدي الي أنوار مشرقة وناعمة ومبهرجة كي تعكس جو البهجة والفكاهة والمرح، وهكذا فان الاضاءة تختلف بحسب نوع الفيلم والخانة التي يندرج فيها. فالاضاءة في أفلام الحركة تختلف عن الاضاءة في أفلام المغامرات، والاضاءة في الأفلام الخيالية تختلف عنها في أفلام الجريمة أو الرعب، فلكل نمط من الأفلام اضاءة خاصة به تستنطق أجواءه، وتعبّر عنها أدق تعبير، فالفيلم العائلي يحتاج الي اضاءة مختلفة عن فيلم الخيال العلمي أو فيلم الاثارة أو فيلم الحرب، أو الفيلم الدرامي المأساوي الذي نحن بصدده. وبالرغم من أن الأجواء معتمة، وكابية في أغلب أشهر السنة في الدول الاسكندنافية وخصوصاً في السويد التي صُورت فيها مراسيم الجنازة، والدنمارك التي صُوِّرت فيها المشاهد الاسترجاعية والبوحية للفنانة سهام علوان، الا أن فكرة التركيز علي الاضاءة لم تفت علي مخرج الفيلم ومصوره وممنتجه في آن معاً. وقد لعبت الاضاءة بمختلف أنواعها الرئيسية والخلفية والتكميلية دوراً مهماً في التركيز علي تفاصيل حساسة ما كنا ننتبه اليها لولا اللمسات الفنية التي تخلّفها الاضاءة. ففي المشهد الافتتاحي من الفيلم، تمثيلاً لا حصراً، نري تتابع عشر لقطات متنوعة بعيدة، ومتوسطة، وقريبة، وقريبة جداً لصور الفنانة زينب والتي تعكس أوضاعاً نفسية مختلفة نجحت القصيدة في وصفها، وتحديدها بدقة كبيرة، وقطعاً فان هذه الصور المتواترة التي كشفت عن أزمان واقعية مختلفة مرّت بها زينب هي التي دعت المخرج طارق هاشم لأن يقتبس أول مشهد من فيلم الحارس ولم يقتبس مشاهد أخري من فيلم سعيد أفندي الأسبق زمنياً، لكي يوحي للمشاهد بأن هذه الفنانة قد أصبحت أنموذجاً للشعراء والرسامين والمبدعين عموماً، لهذا فان هذا الاقتباس كان دقيقاً، وموفّقاَ، ويخدم البنية المنطقية العميقة للفيلم. كما يوحي لنا الفيلم من طرف غير خفي أن المخرج قد تعمّد هذا التلاقح بين الشعر والفوتوغراف والتشكيل والموسيقي والسينما، وربما ترك مجال التجريب مفتوحاً الي امكانية انضمام أجناس فنية وأدبية أخري الي الفيلم السينمائي. وفضلاً عن الايحاء بالجو العام للفيلم سواء أكان تراجيدياً أو كوميدياً وما الي ذلك من تصنيفات معروفة فان الاضاءة تلعب دوراً أساسياً في رسم علاقة الفيكر أو الكادر المُضاء بالموجودات والأشياء المحيطة به، الأمر الذي يُسهم في الكشف عن علاقتها بالأحداث التي تجري ضمن سياق الفيلم. كما توهم الاضاءة بالعمق أو البعد الثالث للصورة، وتوفر زوايا نظر جديدة للمتلقي تحقق له متعة بصرية وفنية في آن واحد. كما لا يخفي علي أحد أن الاضاءة هي التي تعطي المُشاهد الاحساس بأن وقائع الفيلم تجري في الصباح أو في الظهيرة، في المساء أو في الليل، في الصيف أو في الشتاء، في الربيع أو في الخريف. ولاتقان الاضاءة فنياً، أو المراهنة عليها كمعطيً بصري لابد من معرفة مصدر الضوء أو اتجاهه، وضبطه بشكل دقيق من أجل ضمان تأثيره الفني، لا الاعتباطي، كما ينبغي معرفة شدة الضوء الموّجه من الكشّاف، ومعرفته نصاعته، أي التفريق بين نعومة الحزمة الضوئية وخشونتها، ففي الاضاءة الرئيسية مثلاً نحتاج الي قيم ضوئية عالية من خلال استخدام كشّافات ضوئية متعددة لانارة الكادر والديكور، بينما لا تحتاج الاضاءة الخلفية الي كم كبير من القيم الضوئية لتسليطها علي الفيكر كأن يكون بطل الفيلم أو مقدم البرنامج، لأن كل ما يحتاجه هو تسليط حزمة من الضوء أو أكثر قليلاً علي كتفه وخلف رأسه تماماً لاضفاء هالة عليه، وتحقيق البعد الثالث. وغالباً ما يكون هذان النوعان من الاضاءة أكثر شدة ونصوعاً من الاضاءة التكميلية الباهتة. في فيلم زينب ثمة زوايا تصوير خدمت القيمة الدرامية كثيراً ومنها ما نُطلق عليه بزاوية التصوير الذاتية وهي عندما تستعير عدسة الكاميرا عين احدي شخصيات الحدث، وزاوية التصوير الموضوعية وهي عندما تستعير الكاميرا عين الملتقي الموضوعية المتحررة من أُسار الذات. من هنا ينبغي أن تكون لكل لقطات الفيلم وظائف تعبيرية تخدم العمل الفني في النهاية، ولا مجال للقطات الاعتباطية غير المدروسة. أما بصدد المؤثرات الصوتية في هذا الفيلم فهي كبيرة لدرجة لا يمكن التوقف معها عند كل العناصر الفنية التي تمثل الصوت كالحوار والمؤثرات سواء الطبيعية أو الاصطناعية والموسيقي. فالحوار في اللقطات والمَشاهد المُقتبسة من الحارس و سعيد أفندي و النخلة والجيران كان باللهجة العراقية الدارجة التي تكشف عن انتماء الشخصيات الطبقي، ومرجعيتهم الثقافية والفكرية من دون الحاجة الي لغة مقعّرة قد لا يفهمها المشاهد السينمائي الذي ينتمي الي أصول ومستويات ثقافية متعددة. أما حوار الفنانة سهام علوان والذي كان داخلياً فقد كان بلغة فصيحة معبّرة لا زوائد فيها ولا افاضات، فالكلمة الزائدة التي تشوّش المُشاهد وتربكه هي مثل الصورة الفائضة عن الحاجة التي تسرق من جهد المتلقي ووقته وتركيزه الذي يجب أن يُستخدم في محله الدقيق. ولا شك في أن المؤثرات الصوتية بمجملها سواء الطبيعية أو الاصطناعية كانت منسجمة مع روح الحدث، ومندغمة فيه الي درجة التماهي مع تفاصيل الفيلم، وبالذات صوت دوي الرعد الذي سمعناه غير مرة. أما الموسيقي التي أبدع في كل من بيتر غابريل ونصير شمة فقد كانت معبّرة عن الحالات النفسية، ولحظات التأزم الشديدة التي مرّت بها الفنانة سهام علوان التي كانت بمثابة الراوية العليمة في الفيلم، والعارفة بحجم الخسارة الكبيرة التي مُني بها الوسط الفني العراقي برمته في العراق. كانت هذه الموسيقي ذات المرجعيتين الشرقية والغربية تُشعر المشاهد وكأنه في قلب الحدث، فهي لا تملأ فراغاً، ولا تشكّل خلفية عابرة، وانما كانت تنسجم مع مضمون الفيلم بعامة، وتتوافق توافقاً ملفتاً للانتباه مع جميع المواقف التي تعاطي معها المخرج. فطارق هاشم معروف بقدرته المذهلة في خلق توازن دقيق بين الصوت والصورة، فالموسيقي أو المؤثرات الصوتية الأخري لا تسرق انتباه المُشاهد، أو تُبعده عنه الصورة، وانما تضعه في منتصف المسافة في الحفاظ علي الصوت والصورة معاً الي الحد الذي تبدو فيه الموسيقي محسوسة أكثر من كونها مسموعة وهذا سر من أسرار نجاح رؤيته الفنية المغايرة، ومنهجه الاخراجي الصادم. البنية التوليفية يبدو أن النص الشعري المليء بالشجن كان مدخلاً ناجحاً في التعبير عن مشاعر الفنانة زينب وأحاسيسها الداخلية، كما أنه يصوّر بعمق عالمها الذاتي وأجواءها الخاصة التي تستنطق غياب الحبيب أو الوطن النائي. . لا فرق! حبيبي متي ينتهي ذا الوجوم / وتجري حياتي الي ظلّها / لتجلو عن قلبي هذي الهموم / فتركن نفسي الي حبّها / حبيبي نداء بنفسي اليك / ويا كثر ما ضجَّ فيها النداء / تعال وخذني في مقلتيك / شعاعاً يضيء ظلام المساء / حبيبي تعال وخذني اليك / أذبني اذا شئت قطرة ماء / تروي من ظمأ شفتيك / وتزجي اليك جميل الدعاء / حبيبي لقد بات وقع الأسي مميتاً في ظل ذا الاغتراب / فنفسي تهوم في وحدة / وضاقت بروحي فسيح الرحاب / ففي الصبح أنهل من غربتي / وفي الليل أبكيك من خلف باب / حبيبي تعال وخذني اليك / فقد طال في القلب شوط العذاب . وفي أثناء قراءة هذه القصيدة الوجدانية من قبل الفنانة سهام علوان نسمع موسيقي مؤثرة جداً مصاحبة للقطة الافتتاحية التي تصوّر انسياح المطر علي النافذة الأمامية للسيارة، ثم يتموج هذا الانسياح علي وجه الطبيعة بحيث تبدو وكأنها أمواج رجراجة معلّقة في صفحة السماء، وتتداخل فوّهة النفق المنفتح علي الفضاء الخارجي مع الشارع المغسول بأمطار هامية، ثم تدهمنا في الحال مشاهد الغيوم الرمادية الكثيفة، بينما يتواصل صوت سهام المفعم بالشجن مُنشداً هذه القصيدة التي تختصر جوانب واسعة من معاناة الفنانة زينب التي أتعبها الانتظار الطويل في مغتربها الكابي، قارس البرودة. ومن خلال الصور الفوتوغرافية العشر لزينب التي عرضها لنا المخرج، وكانت استهلالاً منطقياً وناجحاً علي الصعيد الفني والذي أفضي بنا الي المقتبس المدروس من فيلم الحارس حيث نري الفنان حسن قاسم حول منغمساً في رسم صورة زكية زينب التي سيتعلق بها الحارس حميد مكي البدري وحينما يفشل في الاقتران بها يقدم علي سرقة اللوحة! وقد ظلت هذه الثيمة هي المحور الأكثر بروزاً في فيلم زينب بالرغم من أهمية المشاهد المستعارة من أعمال فنية أخري مثل سعيد أفندي و النخلة والجيران . ذاكرة الراوية سهام تبدو مزدحمة، ومتشظية، ولهذا فهي لا تعرف من أين تبتدئ الكلام، وعن أي شيء تتحدث فتقول: عن ماذا يمكنني أن أتحدث، والبداية من أين ستكون؟ هل أبدأ من تلك الليالي الجميلة التي كانت تجمعنا حين كانت ينساب في الروح عزف كمان للفنان صالح الكويتي أو لشذا ذلك الصوت البغدادي الأصيل . ومن ضمن التوليفة المضمونية للفيلم أراد مؤلف النص ومصوره ومخرجه أن يضمّن الفيلم بمشهد طويل من سعيد أفندي لأكثر من سبب، ففي هذا الفيلم أدت الفنانة زينب واحداً من أجمل أدوارها السينمائية، فضلاً عن أن الفيلم نفسه يعد علامة فارقة في السينما العراقية شأنه شأن فيلم الحارس الذي لعبت فيه دور البطولة الي جانب الفنان مكي البدري، وان كانت مساحة هذا الفيلم الأخير أكثر هيمنة. وبالرغم من كل الصعاب التي اعترضت الفنانة زينب لعل أبرزها الغربة، وفراق الأحبة، والمرض الخطير الذي أودي بحياتها الا أنها كانت مثالاً للتضحية والتفاني. وهذا ما تعلنه سهام علوان علي رؤوس الأشهاد قائلة: أتذكر جيداً تلك القهقهات التي كانت تصدح غامرة في أرجاء البيت رغم كل الجروح وفراق الأحبة . وفي المقتبس الثالث نتوقف عند مشهد من مسرحية قاسم محمد النخلة والجيران حيث تناصفت دور البطولة مع الفنان خليل شوقي، وقد ارتأي المخرج أن يقتطف مشهداً من المشاهد التي تعالج الحرب عبر ثنائية الخير والشر. وعرفاناً بالجميل تقول سهام علوان وهي الفنانة الطموحة التي تتبّع مسار هذه القدوة الحسنة لقد جمعنا المسرح سوية، نجمة كبيرة وممثلة تبحث عن ذاتها. تعلمت منك الكثير الكثير البساطة التواضع التسامح، حب المسرح والاخلاص له الي آخر رمق . ثم نجد أنفسنا أمام مشهد آخر من المسرحية ذاتها. ولأن دور الصورة الشخصية مهم في بناء بنية فيلم زينب فقد عاد المخرج مرة ثانية الي فيلم الحارس مقتطفاً مشهداً حلمياً يلتقي فيه حميد مكي البدري بزكية زينب في مشهد عاطفي شديد الرقة. وفي مقتبس ثالث يسرق اللوحة ويحقق حلمه من خلال حيازة هذا العمل الفني، وهي ذات الصورة التي نراها في مشهد التشييع المؤسي حيث تواري زينب الثري في يوم رمادي غزير المطر بحيث تصوّر البعض في مبالغة مُستَحبة أن السماء نفسها قد شاركت المشيعين حزنهم الأسود وألمهم اللامحدود. ولكي تختتم سهام سرد حكايتها لنا، متوِّجةً اياها ببوحها الذاتي المحتشد بالأسئلة العصية التي تبعث علي الحيرة. آه كم كنت جميلة، كم كنت فائقة في كل شيء، منذ رحيلك عن عالمنا وأنا ما زلت أعيد شريط الذكريات وأتوقف كثيراً عند آخر وداع جمعنا لقد كان غريباً في كل شيء، تأخر القطار لأكثر من ساعة وهذا أمر لا يحدث أبداً في الأحوال الطبيعية لهذا البلد الذي نعيش فيه، وتعدي الأمر لأكثر من ذلك حين وجدت نفسي معك ولطيف والقطار يتحرك يتحرك يتحرك، يتحرك مسرعاً دون توقف الا عند نقطة العبور نحو السويد. لم أجد قبلاً أي تفسير مقنع لكل الذي حصل، والآن حين أعيد شريط الوداع الأخير لا أجد تفسيراً لكل ذلك، غير أن القدر ربما أراد أن يجمعنا ساعات أخري سوية . هكذا ينتهي الفيلم بينما نشاهد الرواية وهي تمشي وحيدة الا من ذكريات الفنانة الكبيرة زينب والتي نقلتها لنا بطريقة فنية آسرة. السؤال الوحيد الذي يظل معلّقاً من دون اجابة هو: لماذا اعتمد المخرج علي مقتبسات من سعيد أفندي و الحارس و النخلة والجيران ولم يقع اختياره علي الكثير من أعمالها المسرحية مثل آني أمك يا شاكر و تموز يقرع الناقوس و الخرابة و دون جوان و نفوس أو السينمائية مثل فيلم أبو هيلة أو حتي من مسرحياتها المُعدة للاذاعة والتلفزيون مثل ليطة و الربح والحب و تحقيق مع أم حميد بائعة الأحذية . وغيرها من الأعمال الفنية والابداعية؟ أنا أعتقد أن المخرج لم يمنح نفسه الوقت الكافي للبحث في هذا الموضوع أو علي الأقل تجميع بعض أعمالها الفنية المستنسخة علي أشرطة فيديو أو أقراص مدمجة لكي ينتقي منها ما يراه مناسباً ويغطي بالنتيجة مساحة واسعة من حياتها الابداعية الغنية. فما ان رحلت زينب في 13 آب (أغسطس) 1998 وحضر المخرج مراسيم التشييع التي صورها بعين توثيقية راصدة لكل شيء، ومقتنصة للقطات النادرة والمؤثرة لأغلب المقربين اليها حتي وجد نفسه مضطراً لأن يُنجز هذا الفيلم بما توافر لديه من مراجع واحالات بصرية وهي سعيد أفندي و الحارس و النخلة والجيران . وكان بامكانه أن يوظّف جوانب محددة من نشاطها السياسي، ونزوعها الفكري من خلال الافادة من مشاركاتها الكثيرة في التظاهرات والانتفاضات المتعددة التي شهدها العراق في الأعوام 1948، 1952، 1956، 1958 حيث كانت الفنانة زينب من بين أبرز الفنانين الذين قادوا، أو ساهموا، أو حرّضوا في الأقل علي هذه الانتفاضات الشعبية الخالدة. كما أن توزعها بين العراق واليمن وسورية والسويد حيث وافها الأجل كان من الممكن أن يكون مادة ثرية لأكثر من فيلم تسجيلي عن حياة الفنانة زينب لو أن المخرج كان قد خطط لهذا المشروع قبل أن تختطفها يد المنون وهو يعلم جيداً أنها كانت مصابة بمرض خطير لم ينتصر عليه الطب حتي الآن. القدس العربي في 4 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
البنية التوليفية وآلية التصوير بالعين الذاتية والموضوعية أمستردام/ عدنان حسين أحمد |
|