إن ظاهرة الإقبال علي متابعة الفنون الكوميدية المسرحية منها والسينمائية لها ما يبررها في مجتمع يري الناس في واقعهم اليومي ما يأملون تجاوزه... خاصة أن أدوات الكوميديا ومفرداتها جميعها تتعلق بالإنسان فتخاطب أدمغتهم لا غيبيات تتوه بهم عن منطق وجوهر دنياهم... وعليه فإنه لابد من سبيل للضحك فإذا ما حشدنا أمام ناظريهم مناطق خلل في جوانب سمات الآخرين ومواطن ضعفهم تكون الكوميديا قد نجحت بأن تقفز بهم ولو درجة واحدة إلي أعلي ليرقبوا حالالآخرين في سخرية لاذعة ومريرة فيروق لهم الحال بعد أن صار العالم من وجهة نظرهم ملك يديهم بينما هم في حالة هروب من تراجيديا الواقع المؤلم. وأيضا من واقع الفرجة علي تراجيديا مسلسلات النكد وبرامج القناة الثالثة وفواجع الفريق القومي ومآثر السحابة السوداء وامتداد العشوائيات حتي سفح أبوالهول العظيم. وعندما نذهب إلي الكوميديا أو تأتي إلينا ننتظر أن تسقط الوجوه البديلة أو علي الأقل علي جبينها أصباغ الزيف فتنشأ الصدمة المدهشة ويكون الضحك وكأنه البلسم والملاذ للانفلات من مناطق وأزمان الكدر والآسي في قدرة علي النقد ومن ثم السعي إلي تغيير الواقع. إنها الكوميديا التي عشقها الزعيم عادل إمام بعد أن أيقن مدي ما تحققه من تواصل سريع ونافذ وصادق مع الناس فأجاد كل صنوفها بحرفية وهبها بتفان وإجادة عمره فمنحته جموع السعداء شرف أن يتحدث باسمهم زمنا حتي توجوه زعيما لأفئدتهم العليلة لينزع عنها الكدر، فلم يخذلهم وقدم لهم أعمالا تبشر وتدعو إلي إتاحة مساحات من الديمقراطية حتي في أزمة الحزب الواحد والجرائد الحكومية والإعلام الموجه في بداية السبعينيات فشارك بفنه مع رموز قوي المجتمع الأخري في ظهور الإرهاصات الأولي لدعم حرية الرأي والنقد والإبداع الفني الذي يحمل رسالة.. إنه عادل إمام الذي تواصل بفنه وحضوره الطاغي مع الناس عندما تصدي بجرأة للتعامل مع أهم القضايا المؤثرة بشكل مباشرة علي حياة الناس... «الغول»، و«الأفوكاتو»، والتصدي لنفوذ السلطات الفاسدة المستبدة في ذلك الحين و«كراكون في الشارع»، والتعرض لأزمة الإسكان والنظم البيروقراطية الحاكمة والمتخلفة وأثرها في تفاقم المشكلة ومجموعة أفلام تتعرض بحدة وبشكل مؤثر لقضايا التطرف وما فعله الظلاميون في دنيانا فكان «الإرهاب والكباب»، و«طيور الظلام»، وغيرها ثم قضايا ممارسة الحياة النيابية ولعبة الانتخابات والاقتراب من نواب الشعب الصالح منهم والطالح في «بخيت وعديلة»، والفاسدون من رجال الأعمال في «المنسي»، و«اللعب مع الكبار»، والمجال لا يتسع لسرد أفلام سينما عادل إمام التي انحازت لكل الكادحين والشرفاء حتي إنها كانت بمثابة طلقات رصاص صوبها نحو كل رموز التخلف والرجعية والفساد في إطار دوره كفنان ملتزم ومنتمي لديه رسالة ويمتلك رؤية مبدع مثقف. ثم وعلي غرة تداهمنا أفلام «صعيدي رايح جاي»، لمجموعة شباب النكت الهايفة الحديثة التي ودعت النظم المعمول بها والخطوات التقليدية لإنتاج فيلم بداية من اختيار القصة وإعداد المعالجة الدرامية ثم السيناريو والحوار كل الطقوس المتخلفة من وجهة نظرهم لقراءة الورق ومناقشته... فهم يرونها سينما تجاوزها لإنتاج سينما «أون لاين»، بعد أن أدركوا أنهم يعيشون زمن اختفاء الورق.. لقد تحدوا بيروقراطية القدامي وأساليبهم وصناعتهم المتحفية وقرروا أنه قد آن لتلك السينما أن تصير في ذمة التاريخ. وبعد تحقيق شباب النكتة نجاحا بارعا في إيداع ما يمكن أن نطلق عليه المسرح التفاعلي، علي غرار التعليم التفاعلي.. فالنكتة تقابل بمثلها من الصالة، والقفشات الخارجة علي النص يرد عليها بأخري بحرفية أعلي بعد سقوط الحائط الرابع والثالث والثاني وانتقلوا بالتجربة وفور يقينهم بنجاحها إلي عالم السينما فكانت السينما التفاعلية... وحيث إن الطرف الآخر من التفاعل في السينما في حالة اتصال فرضية يتخيل معها أبطال الفيلم رد فعل الصالة فإنها سينما تفاعلية فرضية واللي يعيش ياما يشوف سينما!! وشكل ما يحدث هزة في مجتمع السينمائيين نظرا لما صاحبها من نتائج... وارتفاع أجر النجم الأوحد في مقابل تحقيق عائد خرافي من شباك التذاكر وحالة تفاعل، وانسجام هائلة من شباب المتفرجين، وهم يمثلون الغالبية العظمي من رواد السينما والحال هكذا ماذا يفعل نجم بحجم عادل إمام وقامته..؟ رد الفعل لم يكن ـ ومهما بلغ التحدي ـ مناسبا لزعيم الكوميديا... مجموعة مغامرات تصور معها أنهم تقدم شكلا يغازل فيه الزبائن الجدد ويكسب به رضاهم. إلا أن تراجعه عن تقديم سينما من العيار الثقيل كما عودنا لا يمكن أن نتوقع معه فيلمه الأخير «عريس من جهة أمنية»، وهو القائل: «إن الكوميديا تعبير عن حالة الشارع ونبضه وتيسر الاقتراب من أكثر القضايا سخونة». فأي قضية ساخنة يطرحها هذا الفيلم... إن مضمونه لا يعدو أن يكون رسالةمن معذب إلي بريد الأهرام أو باكية إلي اعترفوا لي بمجلة «حواء»... بطل الفيلم رجل أعمال مريض بداء عضال يجعله في حالة ارتباط بابنته الوحيدة وتتوالي المشاهد حتي نهاية الفيلم نظام الحلقات التليفزيونية، المنفصلة المتصلة في تصاعد أفقي مفلطح لمواجهة شباب يريدون الارتباط بابنته... حتي التصعيد الوحيد والذروة الأعلي في الزواج وتبعاته.. هي فكرة يمكن أن تقبل كسهرة فيديو يتم بثها قبل الفجر حتي لا يشاهدها إلا من انقطعت صلته بأسباب الحياة.. والفكرة قديمة وتم تقديمها منذ أكثر من نصف قرن في أجمل أشكالها في مسلسل إذاعي وفيلم باسم «العسل المر»، للكاتب الكبير د. يوسف عز الدين عيسي ولكن بمبررات درامية مقنعة أكدت علي ظاهرة تحول طاقة الحب إلي قوي وكيف يمكن أن تجتمع للبطل الإنسان ملكات الخير والشر والكراهية والحنان والقسوة ولأن «العسل المر» دراما تم تقديمها في إطار تراجيدي فإنها لاقت تعاطفا مع الحالة المرضية لبطل العمل.... بينما حالة الكوميديا التي تم تقديم العمل في فيلم «عريس من جهة أمنية»، لم تسمح بأي من ألوان التعاطف لدي المشاهد حيث البطل يبدو متكلفا ومدعيا لحالة لا تتسق مع تركيبة الشخصية ونموها الدرامي داخل العمل. هل يمكن لرجل الأعمال الذي يعمل في مجال السياحة بنجاح هائل وهو أكثر المجالات التي يستدعي التفوق فيه الانفتاح علي كل أصحاب المهن والأعمال علي المستوي المحلي والدولي... هل يمكن تبرير المواقف الدرامية المتناقضة التالية: * النجاح لا يتسق مع حالة عدم الاتزان التي كان يبدو عليها بطل العمل حتي لو كان من أجل صناعة مواقف فارس للزغزغة.... كضرب الناس علي وجوههم أو إطلاق الرصاص في عمله أو الجلسات الليلية الماجنة. * النجاح في مجال السياحة لا يتسق مع حالة الغربة السخيفة والاستهجان للفنون التشكيلية وعروض الأوبرا في مشاهد ممجوجة تهاجم تلك الفنون الجميلة وهي من شأنها إدانة الكاتب والمخرج والممثل لعدم وعي يبثون مفاهيمه للعامة من أجل الزغزغة ثقيلة الظل في مرحلة نحتاج فيه لدعم ارتقاء الذوق العام لدي الناس. * المشاهد الخاصة بمقابلات الأب وراغبي الزواج بالشكل الكاريكاتوري علي طريقة أفلام رضا بوند وأخطر رجل في العالم لم تعد تثير حتي الابتسام بقدر الاستفزاز من مدي استهانة مقدمي العمل بعقول الناس... حيث تعد المشاهد علي طريقة أفلام الكارتون وتذكرنا بعرائس الأراجوز في الموالد الشعبية. * الحالة التي بدت عليها الابنة من قيادتها لسيارة مكشوفة ومظهرها وحرية حركتها وذهابها إلي الجامعة لا تؤكد أن هناك حالة من الحصار يفرضها الأب تتسق مع التركيبة المريضة له. * عندما يتيقن المشاهد أنه أمام حالة مرضية تنتفي وتتراجع لديه الرغبة في الضحك التي كان من الممكن أن تنشأ من المفاجأة والدهشة لتصرفات البطل إذا كان سويا... فالمرضي لا يستحقون إلا المشاطرة والتعاطف. * غالبا ما يتحاشي رجال الأعمال من نوعية بطل العمل الدخول في صراع مع السلطة ورموزها... فهم يسعون دائما لعلاقة آمنة تحمي مكتباتهم ونجاحاتهم المهنية والتجارية لحماية ظهورهم والخروج من مآزق قد يتعرضون لها مع منافسيهم... والمؤلف إذ يتصور حدوث العكس لإحداث مفارقة كوميدية تعلي حالة الضحك لدي المشاهد فإنني أري أنها تبتعد به عن منطقة الصدق في رسم ملامح الشخصية وحرفية اكتمال أبعادها. طراوة وليونة يعد ما سبق الإشارة إليه قليلا من كثير من جوانب عدم التوازن والاتساق الدرامي في رسم شخصية بطل العمل تنسحب كذلك علي شخصية العريس المتيم بعروسه بشكل رومانسي وحالم في طراوة وليونة، فإذا أضيف إلي ذلك ضعفه الظاهر أمام قياداته فإن ذلك لا يتسق مع أفعال استغلال النفوذ ومعطيات السلطة حتي إنه يأتي بقوة من الأمن المركزي لتكون الشاهد والحاضر الوحيد لمراسم زفافه الجبري القاهر... ولأن الكوميديا في النهاية هي فن العقلاء في زمن الجنون وصوت الحكمة في عصور الضياع وهي سبيل الناس لتجفيف منابع الشقاء وتجاوزها فهي السبيل إلي التغيير... فإننا نجدد الدعوة إلي الزعيم أن يعود لأصحاب الورق الجميل... وليس كافيا أن يقدم نفسه في أفيش الفيلم في كادر جماعي لأول مرة منذ زمن... والاعتراف بالمرحلة العمرية الجميلة التي يعيشها من خلال دور الأب. إن مسئولية نجم عبقري كعادل إمام تجاه متلقي فنه ومحبيه لا ترضي له إلا اللعب مع الكبار... عزيزي الزعيم دع الأولاد يرتادون مساحات العبط والتفاهة التي اجتزتها في بداية حياتك ولا يصح أن تعود للمربع الأول بعد وصولك إلي منطقة التهديف وأنت العاشق للشباك... لا نتخيلك تؤدي دورا في فيلم مقتبس لا يتم الإعلان عن مولفه الحقيقي، وكأننا نعود إلي سينما توجو مزراحي.. لا نرضي لك الأداء الأراجوزي الذي يكتفي بالصفع علي الوجه والقفا نظرا لقصور وخلل في السيناريو ومواقف لا يعينك عليها الورق.... إننا ننتظر منك إنتاجا رفعيا وليس مجرد التواجد فالعمالقة أمثالك لا يغيبون عن ذاكرة المشاهد إذا ما ابتعدوا لأسباب منطقية، هل يغيب نجيب الريحاني عن مخيلتنا رغم العدد المحدود من الأعمال التي قدمها للسينما وعدم تنوعها، فما بالنا ونحن أمام صاحب إنتاج ضخم حمل رسالة مهمة وصلت إلي الجماهير واستقبلها بامتنان وتقدير ولن يغير محتواها ذلك العريس حتي لو انتمي لجهة أمنية. جريدة القاهرة في 31 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
تحية وعتاب إلي عريس من جهة أمنية عن أي قضية ساخنة يحدثنا عادل إمام؟!
مدحت بشاي |
|