شاءت الظروف لأن يتربع اسم مخرج الأفلام الوثائقية »مايكل مور« حاليا عرش الأفلام التي تتبنى نظرية المؤامرة ، ورغم أن »مور« يشكل مثالا لأي لقب يعطى له كونه مخرج يسعى دوما نحو الحقيقة ويتمسك بشدة بتصنيفه كمواطن أمريكي يرغب أن تمثل سياسة بلده مشاكل ورؤى مواطنيه فإن نظرية المؤامرة في السينما الحديثة لقت تعاملا أكثر ارتباطاً بالفن وتحليلا لقضايا أكثر تنوعا في التاريخ الأمريكي الذي يرتبط بالعالم كله خلال النصف الثاني من القرن الماضي،عند المخرج المخضرم أوليفر ستون. أوليفر ستون الذي دخل عالم الشهرة منذ فيلمه الأول »بلوتون« الذي أطلق في عام1986، امتهن التشكيك في السياسة الأمريكية في منابرها المختلفة، ابتداء من البيت الأبيض والأجهزة السرية للمخابرات إلى أجهزة الأعلام التي تقود الرأي العام نحو مصالح الكبار من خلال حياد ظاهري. وتأتي أهمية هذا الدور مع انكفاء التيار القوي الذي ظهر في الفترة السابقة لظهور أوليفر ستون، تحديدا في السبعينات،التيار المعني بمشاكل المجتمع الحقيقية وانعكاسات السياسة التي تدعي الديمقراطية على الأفراد والعالم. وفيلم المخرج الأول »بلوتون« هو أيضا الفيلم الأول الذي نقل بمصداقية وقائع حرب فيتنام من خلال قصة بسيطة تتحمل إسقاطات المخرج الذكية، حيث تتمحور القصة حول رؤية مجند يصل إلى فيتنام محملا بشخصية مثالية وحماس نحو المبادئ والقيم التي افرزها الحلم الأمريكي كأكثر شباب الطبقة الوسطى في تلك الحقبة، وينجرف نحو إدراك حقيقة الحرب وحقيقة الحلم من خلال رفقته لمجند هيبي يستخدم المخدرات ليهرب من الكوابيس التي تشغل محيطه، وآخر عنيف بشكل خطر وينافس الأول على قيادة الفريق والاستحواذ على روح المجند الجديد الغضة. مشاهدة الفيلم تعتبر تجربة مفزعة ومتعبة بالقدر نفسه الذي قد تسببه شهادة حرب مماثلة، مما يعكس ارتباط المخرج منذ بدايته برؤية سينمائية واقعية، والذي وإن كان يتصل بالأرض فإنه يضخم أبعادها، لتصبح الصورة أكثر رسوخا، والرعب والشك المصاحب لها مستمرا بعد انتهاء شريط الفيلم. الأسلوب الذي يستمد عناصره من مخرجين عريقين في السينما الأمريكية الكلاسيكية أمثال إليا كازان وسيدني كوبريك. صفة أخرى نلحظ ابتداءها من هذا الفيلم عند ستون، ألا وهي اعتنائه بالكادر التمثيلي، إذ لا يخلو أحد أفلامه من نجوم شباك أو ممثلين مشهود لهم بموهبتهم ، ففي هذا الفيلم ضم المخرج إلى طاقمه كل من تشارلي شين،وليام دافو،توم بيربنجز وجوني ديب . العلامة التالية البارزة في مشوار المخرج تأتي في العام ذاته من خلال فيلم »سلفادور« عن أحداث عسكرية في أمريكا اللاتينية. و يعد أوليفر ستون أيضا المخرج الوحيد الذي عرض تدخل اليد الأمريكية في جمهوريات الموز هذه، الوحيد الذي ألقى الضوء على مشروع أمريكا القديم والمستمر في جعل بلدان الأشقاء السمر الحديقة الخلفية للبيت الأبيض. ويتحدث الفيلم عن أمريكيين : صحفي وموسيقي يزوران السلفادور للاستفادة من متع الشمس الكاريبية، تبتلعهما الحرب الأهلية ويواجهان منظرا هو من البشاعة لحد لا يتمكن المرء من إزاحة بصره من عليه. ونلحظ في هذا الفيلم تطور حرفية المخرج في تقنين ظهور قناعاته خلال أعماله وتوجها أكبر نحو الحيادية، التي يجعلها ستون أكثر صعوبة عند إصراره تبني نماذج شخصيات لا تمت له بصلة، فهنا يأخذ وجهة نظر يسارية متطرفة للبدء، ويعمل من خلال معالجته المبتكرة في مضاعفة الأسئلة التي قد يدخل بها المرء إلى الفيلم، كما أنه بداية لدروس التاريخ التي يقدمها ستون لمشاهديه وتظهر هذه الدروس بشكل أوضح في أعماله اللاحقة، مثل فيلم »قلة من الرجال الصالحين« الذي يختار فيه ستون قصة افتراضية، يضعها المخرج في قالب هزلي قد يفسر مشاهدة عرضية للفيلم بسقطة للمخرج، لكن الحقيقة تقول أنه يعكس ذكاء ورغبة في افتتاح آفاق جديدة له ليطرح نفسه كمبدع، الصفة التي تنفيها أحيانا جرأته السياسية ، التوجه الذي يعززه بالكادر التمثيلي الذي يشمل أبرز نجوم الشباك في الفترة مثل نجمي التسعينات توم كروز وديمي مور والممثل الجيد كيفن بايكون، بالإضافة إلى عملاق السينما جاك نيكلسون في دور رائع. ومرورا بفيلم جون فكينيدي الذي أطلقه ستون في مطلع التسعينيات، الذي كشف فيه عن طاقات جديدة مازجا مادته الدرامية النقدية بمواد وثائقية بصياغة متقنة، وكالعادة مع ممثلين رائعين »كيفن كوستنر، سيسي سبيسك، تومي لي جونز،آخرون« و الكثير من الجدل حول أحد أكثر المواضيع حساسية في التاريخ الأمريكي: اغتيال كينيدي، نصل إلى فيلم »قتلة بالفطرة« الذي خرج فيه المخرج عن ثوب نظرية المؤامرة والسينما الواقعية حدا مهولا. فالفيلم المطلق في عام1994 و الذي أثار أكبر سحابة جدل تسبب فيها ستون ليومنا هذا، من خلال تحديده لعلاقة وتأثير الإعلام وخلق العنف وانتشاره، وذلك عبر قصة قاتلين متجولين على طريقة بوني وكلايد، ومقدما للمشاهد ترفا غير مسبوق من خلال التقنيات المستخدمة داخل الفيلم: صورة كارتونية، تصوير كاميرا فيديو، فلاش باك، التصوير بالأبيض والأسود وانتقال منها نحو عصر الألوان، وسيلا من الرؤى والأحلام. بطاقم لا يتجاوز هذه المرة ستة ممثلين معروفين. و لعله الفيلم الأكثر نجاحا للمخرج من دون صبغة المؤامرة أو رائحة السياسة التي حشدت الملايين في السابق لمشاهدة أفلامه، فهو رؤية عميقة ومركزة في واقع الحياة الأمريكية بعد فترة الإنجازات الكبيرة بأمريكا في السبعينيات والستينيات، بشكل أدق صورة تحليلية وقاسية لحالة الخمول والفراغ التي تدمر المجتمع الأمريكي. وخلال مشواره طرح ستون أكثر الأسئلة الملحة، أكثر القضايا تأثيرا، وأكثر الجروح الأمريكية وجعا »مقتل كينيدي، فيتنام« لكن ظل سؤال قد يبدو أقل اتصالا بحياة الأمريكيين وأعراض ممارسات الإعلام الأمريكي المريض، وغلفت المحولات السابقة في طرح هذا السؤال بالإهمال والنسيان المتعمد »لماذا إسرائيل الدولة الصغيرة بحاجة إلى ما يزيد من مئة مليار دولار سنويا الخارجة من خزينة الدولة الأمريكية التي تتغذى بالضرائب المجموعة من الأمريكيين في نظامهم الحديدي الجميل؟؟« و بحثا عن إجابة للسؤال الوحيد غير المسموح به في أمريكا، للقضية الوحيدة المحرمة في مجتمع تحولت فيه حدود الحرية إلى عدم، يذهب ستون إلى إسرائيل يحاور ويصور ويزيح الحائط الزجاجي ليتمكن من سماع الصوت، يقتحم العزلة التي أجبر عليها الرئيس الفلسطيني في أحداث رام الله منذ عامين، يحاوره ويدخله في فيلمه الوثائقي الجريء عن الصراع العربي-الإسرائيلي. الفيلم الذي لم يثر أزمة كالتي أثارها فيلم غيبسون عن المسيح في الغرب ليحظى باهتمام عربي، وهو الذي يتحدث عن قضيتهم المركزية. كلنا رأينا كيف تهافتت الدول العربية لعرض الفيلم بحجة أن يفضح دور اليهود في قتل المسيح،متناسية أن هذا الفيلم الذي يستبدل الرؤية الانجلو- سكسونية العنصرية، بأخرى كاثوليكية أثبت خلال التاريخ عنصريتها التي عانت منها الشعوب ان لم يكن على أساس عرقي فعلى أساس ديني . و بعيدا عن التاريخ متناسين دور غيبسون في الدعاية لآلة الحرب الأمريكية، فقط قبل أعوام معدودة من خلال فيلم يجرؤ على تبرير حرب فيتنام وإعلاء القيم العسكرية والتضحية بعد أن أدان المجتمع الأمريكي بأكمله هذه الحرب منذ سنوات. أما اليوم فإن المخرج الحائز على عدة جوائز أوسكار كمنتج وكاتب نص ومخرج، والذي حققت أفلامه أرباحا طائلة وثابتة خلال عرضها كأفلام جادة، مقبل على إطلاق فيلم »الاسكندر« مع الممثل الايرلندي كولين فيريل والنجمة الأمريكية أنجلينا جولي، في وسط اهتمام محموم حول هذه الشخصية التاريخية »الفاتحة« حيث هناك على أقل مشروعين آخرين عن الاسكندر في الفترة المقبلة. ورغم غموض الأسباب العامة لهذا الاهتمام لكن يمكن أن نتوقع أن يكون عن أوليفر ستون الذي امتهن إعادة صور الماضي بواقعية تفوق واقعية التاريخ، أنه تحول مرحلي آخر نحو التنبؤ حول ماهية المستقبل، في ظل ارتفاع وتيرة الروح الاستعمارية وهشاشة السلام العالمي وانتشار المزايدة على نضال الحرية الوهمي. الأيام البحرينية في 31 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
واقعية تفوق واقعية التاريخ
علي مدن |
|