شعار الموقع (Our Logo)

 

 

بدأت دار كنعان في دمشق بتقديم سلسلة كتب سينمائية، تؤرخ التجارب السينمائية من اخراج وتمثيل وكتابة سيناريو، ومن بين كتب هذه السلسلة كتاب بعنوان "الليل" وهو سيناريو فيلم الليل لمحمد ملص، والذي تفوق على سواه في أكثر من مهرجان دولي ومحلي. جاءت السلسلة تحت عنوان "المكتبة السينمائية" وكان المخرج السينمائي اسامة محمد قد شارك ملص في كتابة هذ السيناريو ايضاً.

في مقدمة جميلة، تفهم هذا الفن العظيم وتقدره كتبها فجر يعقوب مشيراً فيها الى أن "لا يجتمع السحر في السينما ـ تحديداً ـ إلا في صالة كبيرة ومعتمة وفيها سجادة الطقس الأليف. وهو في هذا العناء غير المتكلف يلتقط كل ما هو جوهري في الفنون الأخرى. بمعنى آخر، يرد السينما الى غوايتها الكبرى، غواية الصورة وحنقها على ما يضارع الكلام، حتى يبدو لنا أن الافلام كلها، والتي انبعثت فجأة لمرة واحدة في هذه المجرة الانسانية تلتفت دوماً بنواصيها للجمهور. فكأن وجيب القلب يستجيب للطقس من تلقاء نفسه، وهكذا ففي الليل يجتمع السحر في الصورة، وفي اللغة، أي أن الوجيب وهمس الاستزادة يستجيب لاستراحة المشاهد والقارئ معاً، ءأو انه في الواقع يستجيب للنص ايضاً، وهذا مفارق بأقل قدر من العناء، ان استجاب له الباحثون في تاريخ السينما نفسه.

(...) منذ وقت طويل نشاهد سينما، قضينا القرن العشرين بأكمله ونحن نشاهد بذات الطريقة، الدماغ. دماغنا الواثق يتقبل من الطقس بكل تنوعاته واختلافاته. حتى ولو كان العالم كله وبرمته هو الفيلم السيئ أو الجيد. يتقبل هذا بخفة، اومداورة، كما لو أننا نتنفس في الغياب: النص، الاصوات، الموسيقى. والانبعاثات الرطيبة الأخرى.

الممثلون الكبار والصغار والأرق الذي نجيء عليه في الليل . كل هذا الأرق في اللغة، كل هذاالسهاد ورنين اوراقه على بلاط ابيض فتان هو مادة محمد ملص في شغله على نصه... كلما اجتمعت للحظة حاسمة في وراثة كل الفنون العظيمة التي تسبق تفتح الليل في اكمام العتمة السوداء(...) وهكذا قبل ان يرفع المخرج عقيرته وفي الليل بالنداء. اوالاستجابة للكهربة (فالقلب يخذل صاحبه احياناً) فإن النص الذي بين ايدينا يستجيب لنداءات الطبيعة في هدأتها، في سكونها، وفي تأفف من يذهب في اتجاه مغاير للكتابة السينمائية التي تفارق الزمن الحاضر والتباساته، وتعلو بالافعال كلها على اللغة، ففي السينما العربية، وحتى وقت قريب، لم تكن الوراثة العظيمة للفنون تفتح ابوابها بسهولة للغة مخبرية متعالية وعالية ومصنوعة من الحروف ولذة رقصها الواثق امام أنصال النقد السينمائى التي لا ترحم.

فهي كانت تكتفي بالوشم البصري. وبالوصف المضارع لافعال نشيد منها جواهرنا السينمائية، ولكن النص هنا يترجم اشواق المخرج لينتصر الأدب فيه، بعد أن كان ادباً رحيماً، وفي الشوق المفترس، امام مواقع التصوير يكون الدليل لغزاً، في اقتياد الممثل كما في السيناريوات الأخرى.

أخيراً: محمد ملص في سيناريوالليل يستعير غواية الأدب وينتصر لها، ولكن بهاء السينما وسحرها محفوظ ومصان، فهي الوارثة العظيمة للفنون كلها وحتى وهي تشمل صورها من جديد على الورق.

السفر الأول

قُسم السيناريو إلى "أسفار" السفر الأول: الذاكرة المشتهاة

في البدء كان السكون

وكان الليل قد سجى، وكان القمر

وكان ثمة حمل صغير يسبح في الماء على صفحة الماء

قالت لي أمي:

"قول خير!

شفتك اليوم بالمنام، اللهم صلِّ على سيد الأنام

الصورة كانت صورتك انت، بس الصوت، كان صوت ابوك الله يرحمه!"

وهكذا هبط الحمل على الأرض

 

في السفر الثاني "الذاكرة المحكية": "هي تحكي . وأنا استعيد صوتك المتبقي في الذاكرة، صوتك المتخرش، كوشيش في أعقاب الأذن اما صوت الريف الذي كنت تبتلعه وفمك مطبق عليه، فقد كان وكأنه نبض القلب معلق بالهواء".

في السفر الثالث "الذاكرة المعيشة": "تساءلت في داخلي، ترى لماذا لا يستطيع الانسان عبر ذاكرة متخيلة ان يستعيد لحظة.. مسقط الرأس.. لحظة دبت فيه الروح... وان يستعيد ما رأته العينان اثر تلك الضربة التي تلقاها على الظهر فانبعثت الروح".

في السفر الرابع "الذاكرة المتخيلة" : أمي في سهاد ، وأنا في السؤال.
تناهى الينا عند غروب ذلك اليوم من رمضان، صوت جماعات الناس التي خرجت مبتهجة بليلة القدر، وهي تنشد الأدعية والأناشيد.. اخذت الاصوات تقترب ثم تقترب.. فدق المنصور جدار السور الفاصل بيننا (...) كانت الأصوات تتعالى... ومن وراء زجاج النوافذ انبعثت: "إنا انزلناه في ليلة القدر.. ليلة القدر خير من ألف شهر".

قال المنصور بلهفة:

ـ بتعرف ايش معناها؟

ـ يعني بتتمنى شي والله يحققه لك

ـ تعال نتمنى!

إيش رأيك ... كل واحد يروح هلأ لوحده ويتمنى شي بعدين نتلاقى، موافق!

اسرعت بالموافقة على اقتراحه وقلت له نتلاقى عند الجامع قفزت من على السور وهرعت الى السلم. وصعدت الى سطح الدار وهنا يتمنى الممثل ان يهب الله اباه القوة وسلامة العقل.

لكن الآخر: عند مئذنة جامع "الشراكس" كان المنصور الصغير ينتظرني سألني:

ـ تمنيت؟

قلت: تمنيت

قال: ماذا تمنيت؟

قلت: فلسطين

غمرت السعادة روح المنصور، شدني اليه معانقاً

قال لي : الآن تعال معي لأريك فلسطين

سحبني نحو المسجد، وخلع باب المئذنة بكتفه، ودفعني الى داخلها ودخل من ورائي، صعدنا معاً السلم القائم الدائري الطويل، حين وصلنا الى الأعالي... واطللنا من شرفة المئذنة ، كانت ليلة القدر سلاماً حتى مطلع الفجر. تطلعنا الى البعيد، ورأينا فلسطين نقاطاً بعيدة من الصمت والصفاء".

هكذا يكرج السيناريو بلغة شعرية شفافة سواء كانت باللهجة الدارجة أو الفصحى. وجميل أن تدخل السينما من باب الشعر. هكذا اجاد محمد ملص في "الليل" لغته الشعرية صورة بعد صورة. فاذا فلسطين ذاكرة لا تبرح الفكر ولا القلب.

المستقبل اللبنانية في 31 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

مكتبة سينمائية تنطلق من دمشق

سيناريو "الليل"

لمحمد ملص

ياسين رفاعية