شعار الموقع (Our Logo)

 

 

كان يوم أحد، حين قررت أن أشاهد الفيلم الإسرائيلي الجديد "أجنحة مكسورة -broken wings" للمخرج الإسرائيلي "نير بيرجمان" في أحد دور العرض البلجيكية، كنت فضولياً لأن أشاهد فيلماً يحكي عن أسرة إسرائيلية ومعاناتها بعض رحيل رب الأسرة في حادث، وسبب فضولي هو رغبتي الشديدة في رؤية المجتمع الإسرائيلي من الداخل، وكيف يتعامل أفراده الذين تربوا في مستوطنات معزولة عن الأراضي الفلسطينية مع قضاياهم الحياتية والسياسية، وازداد فضولي حين بدأت أطلع على ما كتبته الصحافة البلجيكية والهولندية من متابعات نقدية عن الفيلم، فالبعض رأى أن الشريط أقل من المستوى العادي، لكنه رغم ذلك مشحون بالعديد من اللحظات الدافئة والمشاعر والأحاسيس الإنسانية العميقة، فيما رأى فصيل آخر من النقاد أن الفيلم جميل على مستوى الحالة الإنسانية التي يتناولها، ولكنه فقير سينمائياً، من تقنيات الإخراج والتصوير والمونتاج إلى آخره.

من هنا كانت بداية تعاملي مع الفيلم الذي سبقته حملة دعائية ضخمة منذ بداية عرضه في هولندا وبلجيكا ودول أوربية أخرى أواخر العام الماضي 2003، فعلى الرغم من أن الفيلم أنتج في العام 2002، إلا أنه لم يعرض بشكل دولي إلا منذ شهور قليلة، حيث بدأ عرضه في هولندا في أكتوبر الماضي 2003، فيما يعرض في دور عرض ثلاث مدن بلجيكية رئيسية هي بروكسيل وخنت ولييج منذ الرابع من أغسطس الماضي، واخترت ساعة الظهيرة لمشاهدة الفيلم، لأنها عادة ما تكون هي الحفلة الهادئة الوحيدة في دور العرض، خاصة يوم الأحد الذي يفضل الأوربيين قضاء أمسياته في مشاهدة الأفلام السينمائية الحديثة، وكنت أُمنِّى نفسي بمشاهدة هادئة بعيداً عن زحام رواد السينما، ولكن يبدو أنني كنت محظوظاً أكثر من اللازم، حيث لم يكن غيري في قاعة العرض الكبيرة، وهو ما أدهشني في البداية، لكنني حين شاهدت الفيلم كاملاً، شعرت بأن هناك أسباباً فعلية كامنة في الفيلم نفسه هي التي دفعت الجمهور إلى الانصراف عن مشاهدته.

تدور أحداث الفيلم الدرامية في مدينة "حيفا" - مسقط رأس مخرج الفيلم "نير بيرجمان" المولود في العام 1969 - حول عائلة "أولمان" الإسرائيلية التي تواجه الحياة بعد وفاة الأب في حادث يكاد يكون من نوع الكوميديا السوداء، حيث يموت الأب بسبب لدغة نحلة أثناء سيره في الشارع مع ابنته الكبيرة "مايا"، بعدما عاني طويلاً من حساسية مفرطة تجاه لدغات نوع معين من النحل، وبموت الأب، تبدأ الأسرة المكونة من الأم "دافنا" وأربعة أطفال في مواجهة صعوبات الحياة، فالابنة الكبرى المراهقة "مايا" والتي تبلغ من العمر 19 عاماً تهتم بالموسيقى والغناء، وتحاول جاهدة أن توفق بين موهبتها ودراستها، إضافة إلى صدامها الدائم مع أمها بسبب إلحاح الأم على معاونتها في رعاية أشقائها الصغار، فيما شقيقها التوأم "يائير" يكاد يكون مغيباً عن الواقع منذ رحيل الأب، ويعلن انفصاله هذا برفضه مواصلة الدراسة أو مساعدة أسرته على العيش، هارباً من شعوره بفقدان الأب إلى أحلام يقظته، وطائفاً في محطات المترو مرتدياً قناع فأر يخفي وجهه تماماً عن الناس وهو يوزع إعلانات مجانية في الشوارع، وفي المساء يهرب للعب كرة السلة وحده في احد النوادي الرياضية المهجورة، فيما الطفلين الأخيرين، صبي يبلغ من العمر 10 أعوام ويدعى "بحر" وطفلة عمرها 6 أعوام، يعيشان مسجونين في خوفهما من المستقبل، فالطفل يهرب من المنزل ليمارس هوايته في تحقيق رقم قياسي في القفز في حمام سباحة مهجور- أيضاً- لا يرتاده أحد، وليس به مياه، ويحاول الطفل تصوير قفزاته من حافة المسبح إلى قاعه المبلط بالسيراميك بكاميرا الفيديو التي كان والده يمتلكها، فيما الطفلة الصغيرة تحاول التعود على عدم وجود الأب في البيت، مثلها مثل الآخرين.

بغياب الأب تنكشف الأعباء الاقتصادية التي تواجها الأسرة المتوسطة الحال، فالأم التي تعمل ممرضة في أحد المستشفيات تحاول التوفيق بين عملها ومسئوليتها في رعاية أبنائها، إلا أنها في أحيان كثيرة ما تحتاج مساعدة ابنتها الكبيرة "مايا"، وهو ما يتسبب في وقوع شجار دائم بين الأم والفتاة، ينجم عنه هروب البنت من المنزل، وذهابها إلى تل أبيب، في محاولة لمواصلة هوايتها في الغناء والتأليف الموسيقي، وتبدأ أحداث الفيلم بعد رحيل الأب بتسعة أشهر، حيث يطالعنا المشهد الأول في صباح الأول من سبتمبر، أول أيام الدراسة في إسرائيل لنجد أن كل شيء مشوش، والأطفال الأربعة يتأففون من الذهاب إلى المدرسة بدون الأب، فيما الأم تحاول السيطرة على الموقف، وهي نفسها المصدومة مثلهم جميعاً، ولكن صدمتها تكمن في شعورها المفاجئ باليتم بعد رحيل الزوج، وافتقادها للعلاقة الزوجية، وهي الحالة التي عبر عنها المخرج بمشهد حساس وجميل، حين وجدت الأم أحد زملائها الأطباء في المستشفى التي تعمل به نائماً في حجرته، فجلست بجانبه حتى وجدت نفسها تندس في أحضانه من دون أن يشعر بها، وكأنها تسرق العطف والدفء منه.

طوال أحداث الفيلم التي استمرت ساعة ونصف الساعة، لم أسمع كلمة واحدة خلال الحوار تشير بأي شكل من الأشكال إلى الصراع السياسي الذي تعيشه إسرائيل في اللحظة الراهنة، فليس هناك أي ذكر للصراع العربي الإسرائيلي، ولا إشارة واحدة للمستوطنة التي تم تصوير الفيلم فيها، أو حتى تأثير هذا الصراع على المراهقين الهاربين من مشاكلهما الحياتية تارة إلى الحب والجنس والموسيقى والغناء، كما في حالة الفتاة، أو إلى الانفصال عن الواقع بأحلام اليقظة والتخيلات كما في حالة شقيقها التوأم "يائير"، ولكن عدم ذكر الصراع العربي الإسرائيلي في الفيلم هو وحده أكبر دليل على تأثير هذا الصراع على الإسرائيليين الحاليين، خاصة الجيل الجديد منهم، هؤلاء الذين ولدوا وعاشوا في أرض لا تحتويهم، فجميع نماذج الشباب في الفيلم إما هاربين إلى المخدرات والجنس، وإما مبرمجين على التعايش مع حياتهم كما هي، من دون محاولة لتغيرها أو العمل على تحسين ظروفها.

المعروف عن "نير بيرجمان" مخرج الفيلم أنه تخرج في العام 1998 بدرجة الامتياز من مدرسة "سام سبيجل" للفيلم والتليفزيون في القدس، وكان مشروع تخرجه فيلم قصير بعنوان "أحصنة البحر"، ثم قدم أول أفلامه الروائية الطويلة بعنوان "الوردة الكاملة" ولم يحظ بأي انتشار يذكر داخل إسرائيل أو خارجها، أما فيلمه الراهن "أجنحة مكسورة" فقد شارك في العديد من المهرجانات الدولية وصلت إلى أربعين مهرجان، وحصل على العديد من الجوائز داخل إسرائيل نفسها، من بينها جائزتي أفضل فيلم وأفضل سيناريو من مهرجان الفيلم الإسرائيلي في أورشليم قبل عامين، كما نال الفيلم كذلك تسع جوائز أكاديمية إسرائيلية مختلفة، إلى جوار جائزة في مهرجان برلين السينمائي الدولي 2003، وجائزة أفضل فيلم في مهرجان طوكيو السينمائي الدولي العام 2002.

رغم المقالات العديدة في الصحافة البلجيكية التي تناولت الفيلم بالنقد القاسي أو المديح الزائد، إلا أنني خرجت من الفيلم معجباً بالموسيقى التصويرية التي وضعها "آفي بلالي"، وبفريق الممثلين الذين لعبوا أدوارهم بإحساس عال، ولكن تكمن مشكلة الفيلم الحقيقية، والتي ربما جعلت الجمهور البلجيكي ينصرف عن مشاهدته، في السيناريو الذي كتبه مخرج الفيلم نفسه "نير بيرجمان"، هذا السيناريو الذي يشعر المشاهد برتابة الأحداث في أحيان كثيرة، على الرغم من محاولة المخرج توظيف تقنيات المونتاج ذو اللقطات السريعة والمزج والإظلام، إلا أن إيقاع الفيلم سقط منه أكثر من مرة في تكرار نفس الحوارات بين الممثلين، وكأنه يحاول جاهداً التأكيد على أفكاره التي يريد توصيلها للمشاهدين، متناسياً القاعدة السينمائية التي تقول: "الصورة أفضل من الحوار في التعبير عن أفكار صانع الفيلم".

emadfouad74@hotmail.com

موقع "إيلاف" في 30 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

لا اهتمام في بلجيكا لأجنحة مكسورة

عماد فؤاد