قليل من الحب، كثير من العنف.. عنوان لأحد الأفلام العربية كنت شاهدته منذ سنوات، لا أذكر موضوع الفيلم لكن اسمه هو ما تبقى في ذاكرتي فقط، ربما بسبب ما حمله لي هذا الاسم من ايحاءات جعلتني استبقيه في ذاكرتي وأعمل على إيجاد تحليلاته بين الحين والآخر. هذا الاسم وجدت أصداءه تتكرر في أذني أثناء مشاهدتي لفيلم المخرج عاطف الطيب "إنذار بالطاعة" ووجدتني اقحم هذه العبارة في كل مرة حاولت فيها استعادة حوادث الفيلم للكتابة عنه. نعم في حياتنا كثير من العنف في مقابل قليل من الحب، العنف الذي يتبدى في سلوكياتنا وفي تعبيرنا عن مشاعرنا جميعها بما فيها مشاعر الحب، العنف الذي يسود علاقاتنا وتصوراتنا للأمور وحكمنا عليها، عنف لا ينتهي في مقابل مشاعر حب تدفنها غرائز أخرى فتكاد تسحقها، الا ان الطيب يجعلنا متفائلين حين يخبرنا في نهاية فيلمه ان الحب ينتصر في نهاية المطاف. الطيب أراد نقل الكثير عبر فيلمه هذا، بل وقد لا تأتي مفارقة الحب والعنف على رأس أهدافه، فالفيلم الذي تم تصويره وانتاجه في العام 1993 جاء ليناقش أولا إحدى تلك القضايا التي تبقى مثيرة للجدل على الدوام وهي قضية الزواج العرفي، مركزا على المعاناة التي تتعرض لها المرأة بسبب هذا الزواج سواء على المستوى الاجتماعي أو القانوني أو العاطفي، فالمرأة هي من تضحي وتقدم ليتم الزواج على حساب سمعتها التي لا تحتمل الكثير في عالمنا العربي، وعلى حساب سمعة أسرتها وليس الأمر كذلك بل يخبرنا الطيب أيضا انها هي من ينتظر منها الدفاع عن هذه العلاقة المحرمة عرفا على رغم مشروعيتها الدينية والقانونية. يستعرض الفيلم تلك المعاناة من خلال قصة أمينة "ليلى علوي" التي تتزوج من إبراهيم "محمود حميدة" عرفيا، بعد رفض أسرتها لزواجهما على رغم قصة الحب التي يعيشانها. هكذا يعيش الزوجان علاقة سرية تقوم على بعض اللقاءات التي تتم هنا وهناك والتي يبدو فيها الاثنان كعاشقين يمارسان عملا شائنا لا أنهما زوجان شرعيان. تتعقد الأمور حين يتقدم صلاح "ممدوح وافي" وهو المقتدر ماديا لخطبة أمينة فتوافق والدتها المتسلطة "نادية عزت" على هذا الزواج وترغب في تزويجه لابنتها متخذة العنف طريقا لارغامها على القبول. هكذا تجد أمينة نفسها في مأزق فوالدتها تجبرها على قراءة الفاتحة وعلى الخطوبة ولم يتبق سوى عقد الزواج "كتب الكتاب" وأمينة لا تستطيع اطلاع أهلها على الحقيقة. حين تفشل جميع جهود أمينة، يتخذ إبراهيم زمام المبادرة فيرفع عليها دعوى إنذار بالطاعة على أساس الزواج العرفي الذي يربطهما، وإذ تجد الفتاة ان اقرارها بكل ما يدعيه زوجها يعني نهايتها اجتماعيا وربما أسريا، تنكر أمام المحكمة ارتباطها بإبراهيم باي عقد كان، وتتطور الحوادث لنرى أمينة تدفع الثمن دائما فهي من تتلقى الصفعات واللكمات من الجميع الوالد، والوالدة، وصلاح الذي يوشك ان يكون زوجا لها، وحتى إبراهيم وهو من يفترض به ان يكون الحضن الدافئ الذي تسند رأسها عليه وسط هذه المحنة، وأخيرا تأتي النهاية على يدي الوالد الذي يواجه الواقع بحزم ويقبل الزواج على رغم رفض الأم له، لينتهي الفيلم بزفاف الاثنين "أمينة وإبراهيم". يأتي الفيلم ليعالج قضية اجتماعية وليلقي الضوء على تبعاتها وليقترح حلولا بسيطة لا تكاد تخرج من إطار الأسرة، إذ يعرض موقف الأب الذي كان رافضا لإبراهيم في بادئ الأمر والذي عاقب ابنته مرارا بالضرب الموجع، لكنه وحين اشتدت الأزمة وقست الظروف كان صدرا حنونا، احتضن ابنته واستمع إليها ثم حسم الأمر، وإلى جانب ذلك نرى الأم المتسلطة التي لا تكترث لمشاعر ابنتها وترغمها على الزواج ممن لا تحب بل ويصل بها الأمر لأن تحرض والدها ضدها، جهلا واعتقادا منها أنها بذلك تضمن مستقبل ابنتها. كذلك نرى الشاب المحب الذي يحمل في نفسه كما كبيرا من العنف يمارسه ضد الجميع بمن فيهم محبوبته، إذ يتخذ منها موقفا سلبيا ويرفض مساعدتها في بادئ الأمر والتدخل في الموضوع بأي شكل كان، وحين تضطر لنكران علاقتهما يكون جزاؤها منه أقسى الصفعات والإهانات، وهناك ايضا الشاب الآخر الذي يعرف كم تكرهه الفتاة الا انه يصر على الاقتران بها مهما كان الثمن، وحين يفشل ويرفضه أهلها يكون له رد فعل عدائي وعنيف. جميع تلك الصور الاجتماعية وغيرها مما قدمه الطيب تمثل صورا واقعية لأناس حقيقيين يعيشون بيننا، وهو الأمر الذي لم نعتده في كثير من الأفلام العربية، فالأبطال ليسوا أشخاصا مثاليين، ولا يمكن وصفهم بالأخيار المطلقين أو الأشرار تماما، بل يحمل كل منهم نسبة من الجانبين، تطغى إحداهما على الأخرى لتحدد ماهية كل شخصية. العلاقة أيضا بين الحبيبين كانت واقعية إلى حد كبير، فالشابان يحبان بعضهما وحين لا يجدان سبيلا يؤطران علاقتهما بالزواج العرفي متحدين جميع السلطات المحيطة بهما والمتمثلة في سلطة الاسرة من ناحية وسلطة المجتمع الذي يشين هذا العمل على رغم مشروعيته من جهة أخرى. قصة الفيلم قوية، وما ساعد على إظهار قوتها أداء الممثلين المشاركين فيها، وعلى رأسهم ليلى علوي، فهذه الممثلة الجميلة أبت أن تحصر نفسها في أدوار البنت الجميلة المرغوبة من جميع سكان الحي، وجاءت لتظهر في هذا العمل ولتقدم شخصية بنت اعتيادية لم يحاول المخرج اشعارنا بما يميزها من جمال أو سحر أو جاذبية، فهي فتاة كجميع الفتيات، تخطئ وتصيب، تتراجع عن الخطأ وتصلحه بطريقتها، لها نقاط ضعف وقوة، تحب وتقسو، جريئة وجبانة، هي كل ذلك، وهي باختصار، امرأة عادية. كذلك يتألق محمود حميدة كعادته، فهذا الممثل القادر على تقمص جميع الأدوار الخيرة منها والشريرة، استطاع ان يقدم هذه الشخصية المركبة بصورة تجعل المتفرج لا يكرهها على رغم ما تقترفه، ربما لا تحمل معه تعاطفا كذلك الذي نحمله للفتاة، لكننا على أيه حال لا نكرهه.
ومن الشخصيات المميزة ايضا سواء على مستوى النص أو على مستوى الأداء،
شخصية الأب التي قدمها سيدعزمي والتي بدت لي واقعية بشكل كبير،
فالأب قسى على ابنته
في بادئ الأمر وارغمها على الزواج لكنه وبعد ان وجدها تكاد تنهار أشفق
عليها وقرر
اصلاح الخطأ وتصرف بشكل أبوي، وقدم صورة مختلفة عن معظم آباء السينما
المصرية الذين
اما ان يكونوا عطوفين بالغي الحنان أو قساة لا تعرف الرحمة
طريقا الى قلوبهم، لكن
هذا الرجل هو ببساطة أب! الوسط البحرينية في 29 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
"إنذار بالطاعة"
منصورة عبدالأمير |
|