واقع سينمائي محلي بدأ يتكرّس على نحو ينبئ بالخير والازدهار. كأنّ مستقبل سينمانا الوطنية ترتسم ملامحه، منذ الآن من حيث لم يحسب المهتمون ولم يتوقعوا، أي من معاهد السمعي البصري والعلوم السينمائية في جامعاتنا اللبنانية. فقبل ان يفرض هذا الواقع الجديد نفسه، كانت المناقشات حول مسألة الانتاج السينمائي منصبّة على المخرجين المحترفين ومعضلات الانتاج والانتاجات المشتركة وصندوق الدعم المولجة به الدولة عبر وزارة الثقافة... ولم يتوقع أحد ان تُشرَع نافذة الأمل من موقع آخر، أي من تلك الجامعات التي تخرّج سنوياً عشرات الطلاّب مع مشاريعهم المنجزة (أفلام قصيرة، أشرطة وثائقية، اشرطة اعلانية، افلام تحريك او حتى فيديو كليب...) فتلفت الانظار في قوة، مما شجع جهات محلية قادرة على اقامة مهرجانات خاصة بها تعريفاً وتشجيعاً ودعماً وتوزيعاً لجوائز مادية او معنوية. فضلاً عن مشاركة عدد من افلام التخرّج هذه في مهرجانات اوروبية وعالمية حيث حصد بعضها الجوائز. حيال هذا الانتاج السينمائي المفرح والمشرّف، كمّاً ونوعاً، كان من الطبيعي ان تفكر تلك الجهات المحلية القادرة في تنظيم مهرجانات خاصة بافلام الطلاب المتخرجين وتطلب الى الجامعات الافضل لديها لادراجها، هنا وهناك، في تظاهرات ذات طابع تنافسي تخلق الحوافز الاضافية لدى الجامعات والطلاب معاً نحو رفع المستوى سنة بعد سنة، اذ اضحى المسؤولون في تلك الجامعات، مع طلابهم، امام تحد واثبات حضور للافضل. وهذه ناحية ايجابية جداً تعزز، عبر التنافس بين الجامعات، مستوى افلام الطلاب الذين باتوا يدركون ان مهرجانين مهمين او اكثر في انتظارهم سنوياً لانتقاء الاجود، سواء ادراجاً في المسابقة او منحاً للجوائز. نوع من الطموح الضروري للحثّ على مزيد من المسؤولية والاعتناء والاتقان. هذه السنة، وفي الاسابيع الاخيرة تحديداً، شهد لبنان تظاهرتين سينمائيتين كبيرتين خاصتين بافلام معاهد السمعي البصري في جامعاتنا اللبنانية كافة، من دون استثناء اي منهم، ورغم تفاوت المستويات والامكانات. التظاهرة الاولى كانت في إهدن وضمن نشاطاتها الثقافية المتعددة، فاختيرت الافلام وعرضت للجمهور وقدمت الجوائز المالية السخية مع تقديم الدعم المستمر لمشاريع الفائزين المستقبلية. والتظاهرة الثانية كانت في دير القمر، للمرة الثالثة على التوالي، واعتمدت تقريباً الآلية نفسها في اختيار الافلام المشاركة وعرضها وتتويج الفائزين منها بجوائز، وان معنوية غير مادية. لكل من هذين المهرجانين اسلوبه وآلية عمله وتصنيف جوائزه. ففي حين اعتمد مهرجان اهدن المراتب الثلاث للفوز (أول، ثان، ثالث)، وزع مهرجان دير القمر جوائز الفوز على نواحي الاختصاص التي تساهم في صنع فيلم وخلقه (السيناريو، ادارة التصوير، المونتاج، التمثيل، الشريط الصوتي، الاخراج...) الى جوائز لجنة التحكيم الخاصة، الجمهور، الشريط الاعلاني... فضلاً عن الجائزة الاولى (القمر الذهبي) لافضل فيلم. لكن مهما يكن تصنيف الجوائز، فان المهرجانين يلتقيان عند الاهداف عينها: خلق اطار راق للتعريف بالانتاجات السينمائية الشابة، تقديم التشجيع والدعم في وجهيهما المادي والمعنوي، او كليهما معاً (كما حصل في مهرجان اهدن)، تحفيز الجامعات على رفع مستوى اعمال طلابها (الرفيع اصلاً)، توفير فسحة لقاء وتفاعل بين الطلاب الوافدين من جامعات مستقلة، بثّ روح من التنافس الايجابي وتعويد المتنافسين على قبول الفوز والخسارة، تعريف ضيوف اجانب في لجان التحكيم او سواها (كما هي الحال في دير القمر) بانتاجات طلابنا واطلاعهم على مستوى جامعاتنا العالي، وسمعت الكثير من آرائهم الايجابية التي بلغت احياناً حدود الدهشة والمفاجأة والانبهار. ناحية اخرى لافتة، لجوء القيمين على مثل هذه التظاهرات المحلية الى لجان تحكيم مؤلفة من اهل الاختصاص، سينمائيين ونقاداً واساتذة في معاهد السينما ومنظمي مهرجانات عالمية (ترأس لجنة التحكيم في مهرجان إهدن الزميل اميل شاهين، الناقد والمؤرخ والاستاذ في عدد من فروع الاختصاص السمعي البصري في الجامعات اللبنانية. فيما ترأس الدورة الثالثة من مهرجان دير القمر مدير “المعهد الدولي للابداع السمعي البصري EICAR في فرنسا برونو شاتلان، وهو مؤسس لعدد من المهرجانات السينمائية وموزع معروف). مما يكسب كلاً من المهرجانين صدقية عالية في اعلان النتائج التحكيمية، ولا معترض. كأن السينما اللبنانية، في ظل هذا الواقع الجديد المتكرس عاماً فآخر، لم تبق في حاجة الى استجداء الدعم الرسمي من الدولة، لأنه دعم لن يأتي ولن يحصل بعد سلسلة وعود بصناديق الدعم المزعومة واتفاقات الانتاج المشترك النائمة في الأدراج والخطب الطنانة الخاوية لوزراء الثقافة المتعاقبين. تنهض سينمانا الوطنية اليوم، وسيستمر نهوضها، من خلال مبادرات مماثلة، وإن محلية ومناطقية ومحدودة الامكانات. اذ يكفي خلق الاطار الحضاري والفني والانساني السليم ليولد الامل في غد مشرق للسينما اللبنانية يطل عبر النافذة الاكاديمية المشرعة على المهرجانات وجمهورها المغتبط بما ينتجه طلابنا من افلام نفاخر بها الاقربين والابعدين. افلام ذكية، متقنة التنفيذ، فريدة الموضوعات، تظهر كم ينطوي هذا البلد على طاقات خلاقة يسعها ان تعثر في يسر على موقع لها تحت شمس الفن السابع. النهار اللبنانية في 30 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
السينما اللبنانية الشابة من إهدن الى دير القمر جورج كعدي |
|