الجبال لا تكون باردة ولا ساخنة، مثلما الألوان والزهور والجدران. البرودة والدفء نعكسهما على الاشياء، فهناك برد الروح ودفئها وهناك القلوب الحجارة وهناك القلوب التي تتجاوز الغيوم والسحاب لتعانق السماء. و«الجبل البارد» من اكثر الروايات التي لاقت استحسانا لقصة الحب الدافئة التي تسري في جسدها ولشكلها الملحمي المحمل بالتفاصيل وللعواطف المطربة داخل شخصياتها، ولحركة النفس البشرية المتعرجة المتقلبة ما بين اليأس والامل. وبينما تجدل الرواية قصتها فانها تؤكد نفسها بصفتها ابداعا اميركيا اصيلا وكما قال الدكتور امين العيوطي حين ترجم الرواية: «قوية الى ابعد حد. بديعة على نحو رائع. مثيرة للعواطف على نحو حاد». في عام 1997 قدم الكاتب الاميركي تشارلز فريزر روايته وفي عام 2003 تحولت الرواية الى فيلم من بطولة نيكول كيدمان ومن اخراج انتوني ميغيلا. وفي السيرة الذاتية للفيلم سنجد العديد من الترشيحات والعديد من الجوائز لعل اهمها حصول الفيلم على سبعة ترشيحات اوسكارية، والفوز بجائزة الاوسكار لأفضل ممثلة مساعدة لرينيه زيلويغر، والحصول على جوائز «البافتا» لأفضل تمثيل ولأفضل فيلم ولأفضل تصوير والفوز بجائزة الغولدن غلوب لأفضل ممثلة مساعدة، هذا غير العديد من الجوائز والترشيحات من المؤسسات والجمعيات السينمائية في اميركا وفي بريطانيا. شاب من الجنوب الاميركي يضطر الى الابتعاد عن حبيبته تلبية لنداء الواجب بعد ان قامت الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال، لكنه سرعان ما يشعر بالملل الذى يدفعه إلى اليأس الذي يدفعه إلى اتخاذ قرار العودة والهرب من ساحة الحرب. ومنذ اتخاذ القرار وحتى الوصول الى حبيبته التي انتظرته طويلا، يحاول الفيلم ان يجيب عن اسئلة كثيرة عن جدوى الحرب ومعناها، وعن معنى الانتصار والهزيمة، وعن مصير الانسان وعبثية الوجود. وفي الطريق لا ينسى الفيلم ان يوجه اصابع الاتهام والادانة الى تجار الحروب من سياسيين ورجال دين ولا ينسى الفيلم ايضا ان يقول ان دوافع واسباب خوض الحروب ليست كلها شريفة ونزيهة، انما خلف الأكمة وفي الكواليس هناك العديد من الصراعات الدنيئة والمصالح السوداء والاهداف البعيدة التى ليست لها صلة بالحرية والوطن. وفي الفيلم رسائل كثيرة هنا وهناك تحاول الكشف عن النفس البشرية التي تمرغت مرارا في وحل الحروب. وعن الانسان الذي ملأ الكون قتلا ودمارا، ويصور الفيلم الدمار النفسي الذي تحدثه الحرب «كنسمة مسمومة تنساب في الجو بسلاسة وتنتشر بسهولة لتشمل بشرها كل مكان ولتنهك بسببها كل نفس»، وخلال رحلة العودة التي يقوم بها الجندي الهارب الى دياره حيث الجبل البارد تطالعنا الاحداث والصور بالعديد من مظاهر الخراب الذى خلفته الحرب سواء على المستوى المادي او على المستوى الروحي. على مستوى احتراق الزهور والاغصان او الاكواخ والبيوت والغابات والشجر او على مستوى احتراق النغمات والالحان والامل. هنا زوجة تعيش وحيدة مع ابنها بعد ان قتل الاب وفي وحدتها تتعرض للاغتصاب. وهنا عجوز يقتل ابناؤها امام ناظريها من دون اتهام صريح او محاكمة. وفي مكان آخر هناك موسيقي ومغن يتعرضان للقتل رميا بالرصاص لمجرد رغبتهما في الغناء. في الفيلم «الفن» يمكن الحديث عن الاداء العبقري للممثلة النجمة رينيه زيلويغر التي استحقت بجدارة جائزة الاوسكار لأفضل ممثلة مساعدة. رينيه في هذا الفيلم تجسد شخصية مركبة ومحبطة ومتقلبة وغاضبة وانسانية وتوظف كل ادواتها لتوصل التعبير الصحيح في الوقت المحدد. ونيكول كيدمان تتألق وتؤكد موهبتها التى نضجت كثيرا وجعلتها من اهم ممثلات هوليوود على الاطلاق وهنا نذكر لها نجاحاتها في «الطاحونة الحمراء» و«الآخرون» و«فتاة عيد الميلاد» و«الساعات» و«دوغفيل». واذا كان الفيلم قد حقق الكثير من النجاح فان احد اسباب النجاح هو الاداء المتمكن لبطلته نيكول التي استطاعت ان تجسد دور الفتاة الشابة الرومانسية المخلصة الوفية لحبيبها. وهنا اشارة لا بد منها الى الممثل جاد لو الذي نجح هو الآخر في تجسيد دور الجندي الهارب والحبيب الولهان. وقد رشح جاد لجائزة الاوسكار هذا العام لأفضل ممثل عن دوره في هذا الفيلم. وهناك اشارة الى براعة المصور في اقتناص العديد من المعاني التي تكمن خلف الصور وفي توجه الكاميرا نحو الزاوية الصحيحة لالتقاط التعبير المناسب على الوجه او الحركة المناسبة للتعبير. ولا ننسى ذلك المونتاج الهادئ المتأمل الذى اعطى الممثل فرصته للحركة والتعبير واعطى التعبير فرصته للوصول الى المشاهد. وغير التمثيل والتصوير والمونتاج لا بد من الاشارة ايضا الى الموسيقى التصويرية التى حققت الكثير لتجسيد معنى الصورة من دون التشويش على العناصر الاخرى. المخرج انتوني مينجيلا المولود في انكلترا عام 1954 يمكن الاشارة اليه كواحد من ابرز مخرجي السينما الاميركية بعد ان نجحت هوليوود في استقطابه بعد ان قدم «المريض الانكليزي» عام 1996. وفي «الجبل البارد» وكما فعل في «المريض الانكليزي» وفي «السيد ريبلي الموهوب» يكتب مينجيلا السيناريو ليؤكد موهبته ليس كمخرج مبدع فقط وانما كصاحب موهبة كبيرة في الكتابة السينمائية. فيلم «الجبل البارد» ليس جميلا ورائعا بالمطلق، وانما نتوقف عنده باندهاش وحب لأنه يقدم تحية للانسان في مواجهة الحرب وينتصر في نهايته لحق الانسان في ان يعيش بسلام في ظل الجبال الدافئة. القبس الكويتية في 29 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
«الجبل البارد»
عماد النويري |
|