شعار الموقع (Our Logo)

 

 

مساء أمس الجمعة، بدأت الدورة الرابعة للّقاء السينمائي السنوي <<نما في بيروت>>، بعرض عدد من الأفلام اللبنانية المتنوّعة المُنتجة في العامين الفائتين، في إحدى صالتي سينما <<أمبير>> في <<مركز صوفيل>> (الأشرفية) التي تستقبل التظاهرة كلّها لغاية الاثنين المقبل، في الثلاثين من آب الجاري.

افتُتح اللقاء مساء أمس الأول الخميس، بفيلم <<معارك حبّ>> لدانييل عربيد، الفائز بإحدى جوائز تظاهرة <<أسبوعا النقّاد>> في الدورة الأخيرة (أيار الفائت) لمهرجان <<كان>> السينمائي الدولي، وبالجائزة الكبرى لمعهد العالم العربي للفيلم الروائي الطويل، وبمساعدة المعهد نفسه للتوزيع، في الدورة السابعة ل<<بينالي السينما العربية في باريس>> (26 حزيران/4 تموز 2004).

قيل إن وزارة الثقافة اللبنانية تزمع الاحتفاء بالمخرجة وفيلمها في إطار ندوة سينمائية تُعقد في منتصف أيلول المقبل، مما حتّم على إدارة <<نما في بيروت>> تخصيص العرض اللبناني الأول هذا بالعاملين في الفيلم وعائلاتهم وأصدقائهم، إلى جانب عدد من المهتمّين بالسينما اللبنانية وبمقرّبين من إدارة التظاهرة.

شكّل اختيار <<معارك حبّ>> للمخرجة اللبنانية دانييل عربيد لافتتاح الدورة الرابعة ل<<نما في بيروت>> بداية موفّقة لتظاهرة لبنانية محلية، أرادها منظّموها لقاء سينمائيا يجمع السينمائيين والمهتمّين بالسينما اللبنانية في حيّز مكانيّ مفتوح على أسئلة سينمائية لبنانية متنوّعة. ذلك أن هذا الفيلم الروائي الطويل الأول لمخرجته الشابة، القادمة إلى السينما من تجربة صحافية، والآتية إلى الروائي الطويل من محطّات روائية قصيرة ووثائقية مختلفة، بدا مُوفّقا في صوغه المشهد الإنساني والفني والجماليّ، باستعادته أحد أعوام الحرب اللبنانية لقراءة واقع بشريّ مفعم بالوجع والتمزّق والانكسار العائليّ، من دون تصنّع أو ادّعاء، بل بمصداقية انتقادية لحالة وفئة اجتماعية وبشرية محدّدة. في حين أن دانييل عربيد، التي أنجزت سابقا أفلاما متنوّعة دار بعضها في فضاء هذه الحرب أيضا (<<حالة حرب>>، <<دردشات صالونية>> و<<ردم>>)، قدّمت نفسها هنا شاهدة حيّة على تجربة إنسانية لا تزال حاضرة في وعيها الفردي، ومخرجة متمكّنة إلى حدّ ما من لغتها السينمائية المتواضعة، وفنّانة ساعية إلى الاستفادة من اختباراتها السابقة (بما في هذه الاختبارات من سلبيات وإيجابيات) في فيلم أرادته أقرب إلى <<تصفية حسابات ما>> منه إلى مجرّد اتهامات عشوائية، مبتعدة عن التعميم اللبناني (الذي اعتاد لبنانيون كثيرون استخدامه في كلامهم الملتبس عن الحرب وتفاصيلها)، بتحديدها الواضح معالم الانتماء الديني والسياسي والاجتماعي للشخصيات المصنوعة من لحم الحرب اللبنانية ودمائها الكثيرة.

في الثانية عشرة من عمرها، في العام 1983، بدأت لينا (ماريان فغالي) تكتشف ذاتها، جسدا ومشاعر وروحا، وسط عائلة ممزّقة في آتون الحرب اللبنانية: الأب (عوني قوّاص) لاعب قمار مدمن. الأم الحامل (كارمن لبّس) حائرة بين حبّ ما لزوج مخادع وعائلة مفكّكة وذات ضائعة ومتألّمة. العمّة (لودي عربيد نصر) متسلّطة وجائرة ولاعبة قمار أيضا. الخادمة العاملة في بيت العمّة (راوية الشاب) تكتشف جسدها وتمارس حريتها بخفاء مطلق عن سيدتها العجوز. هذا عالم تائه في أزقّة القصف والدمار والتشرذمات المختلفة: ديون الأب لا تُحتمل. العمّة لا تساعده. شقيقه شبه غائب. هناك من يريد حقّه. شبان صغار يحملون السلاح ويفرضون سطوة قاسية على الحيّ، من دون أن ينسوا للحظة واحدة أنهم بلغوا عمرا يريدون فيه جنسا ومخدرات وبطولة مزيّفة يستمدونها من واقع الحال. في هذا كلّه، ظلّت الحرب اللبنانية صدى في خلفية مشهد، وصُوَر وجوه قلقة وأجساد متعبة في ملجأ معتم، وثياب مرقّطة وسلاح يجوب شوارع فارغة، حيث المتاريس قليلة، وخطوط التماس غائبة، باستثناء تلك القائمة في داخل العائلة التي تعيش معاركها الضائعة بين الحبّ الملتبس والكراهية الغامضة.

تصفية حساب

لا أقصد ب<<تصفية حسابات ما>> أن المخرجة الشابة تنتقم لنفسها أو لآخرين من أناس وسموا ذاكرتها الطفولية بشيء من القبح والتمزّق والألم. ذلك أن الفيلم لا يحمل أي بُعد انتقامي مجاني، بقدر ما يتوغل في تفاصيل الذات اللبنانية وروحها المدمّرة، وفي متاهة (أو بعض متاهة) الحرب، من منظار خاص جدا، هو منظار فئة مسيحية خاضت حروبها الصغيرة على جبهات القتال وفي الأمكنة الإنسانية الضيّقة، معلنة مشاعر مشحونة بتناقضاتها المخيفة، كالحب والحقد، والكراهية والتسامح، والغضب والسكينة، إلخ. كأن دانييل عربيد أرادت أن تطرح مسائل حسّاسة كهذه في <<معارك حبّ>> بجرأة عرفتها قلّة من المثقفين والفنانين اللبنانيين.

إن لتعبير <<تصفية حسابات ما>> معنيين: الأول، رغبة المخرجة في مصالحة نفسها باستعادة الماضي والعمل على تشريحه. الثاني، التحرّر الفردي (والجماعي ربما) من (بعض) <<أشباح>> هذا الماضي التي لا تزال تقضّ مضاجع اللبنانيين جميعهم، وإن رفضت الغالبية الساحقة منهم الاعتراف بوجودها في يومياتهم المثقلة بألف همّ وأزمة وموت، والعمل على التخلّص منها.

لم تذهب دانييل عربيد إلى الحرب اللبنانية كي تصنع فيلما ينتمي إلى موجة أفلام لبنانية ناقشت الحرب من دون أن تتوغل في ثناياها المشحونة بالتفاصيل القذرة. اختارت الحرب، كي ترسم شيئا من الذاكرة على حبر القلب والروح، وكي تعيد قراءة الماضي من خلال لغة الكاميرا المتجوّلة في حنايا الدمع والتشرذم، وكي تصوغ مشهدا إنسانيا قاسيا وبشعا، هو في الواقع مرآة نابضة عكست قسوة الحرب وبشاعة ناسها ومجتمعها. إن حصر <<معارك حبّ>> في داخل بيئة مسيحية، لا يبرّىء فئات لبنانية أخرى من قذارة الحرب اللبنانية وقسوتها وبشاعتها، لأن هذه الفئات خاضت أيضا معاركها المتنوّعة دفاعا عن حقّ ملتبس الهوية، وعن قضايا <<مقدّسة>> عدّة. وإذا تشابه اللبنانيون في حروبهم المختلفة كلّها، فهذا لا يفرض على الفرد اللبناني أن يُعمّم كلامه على الجميع، إذ له الحقّ في أن يقرأ الواقع من منظار عيشه له، أو من منظاره الإنساني الخاص به. إن اختيار عربيد <<فئة مسيحية>> في الحرب لتقديمها سينمائيا، جاء من منطلق كونها مواطنة لبنانية عاشت أهوال سنوات قاتلة، وأرادت استعادة بعض الذاكرة، في مسعاها الجدّي إلى تضميد بعض جراحها الخاصة، (وربما العامة أيضا).

استعادة الماضي بتفاصيله

بدا واضحا أن دانييل عربيد أجرت تحقيقا مفصّلا ودقيقا عن الحالة اللبنانية في تلك الفترة. اختارت العام 1983، وبحثت عن سماته الخاصة، في الزيّ والديكور والأغاني والسيارات إلخ. أعادت رسم صورة حسية عن المناخ الاجتماعي والميليشياوي. التقطت النبض الحياتي. أعادت نحت تفاصيل عدّة متعلّقة بلغة الحرب حينها: لدى العدو جنود صوماليون ويابانيون. الحكايات التي تكاد لا تنتهي عن آثار اكتشفها البعض فرأى فيها تجسيدا لوحوش جاؤوا إلى لبنان لقتل المسيحيين. إلخ. هذا كلّه حسن. لكن إيجابيّات الفيلم (جرأة الموضوع. إعادة الماضي بكثير مما كان عليه. تحديد انتماءات الشخصيات وبيئتها...) لا تُلغي بعض السلبيات: هناك لقطات ثابتة وطويلةلم تخدم السياق الدرامي كثيرا. تصوير باهت لحالات الحب بين الخادمة وعشيقها. بعض الحوارات بدا مفتعلا ومتصنّعا. التمثيل، بشكل عام، ظلّ جامدا، في حين أن لودي عربيد نصر مثلا، بدت أجمل الممثلين وأبرعهم في تقديم شخصية العمّة العجوز المتصابية، ولاعبة البوكر المحترفة، والمتسلّطة على خادمتها وعائلتي شقيقيها، والمنفعلة بصدق. هناك مشاهد كثيرة صوّرت الممثلين/الشخصيات بشكل نصفي، فظهروا على الشاشة بأنصافهم السفلية، فبدت المشاهد نافرة ومزعجة. إمعان في تقديم غالبية الشخصيات الأساسية بشكل بشع للغاية، على مستويي الشكل والمضمون: يُمكن تبرير ذلك بالقول إن الناس القابعين في القهر والموت ومتاهة الجنون المحيط بهم في أعوام الحرب، كانوا بشعين شكلا ومضمونا. لكن، في مقابل هؤلاء، بدا عدد من اللبنانيين جميلين ومنفتحين على الحياة وذوي نفوس متسامحة ومحبّة وسوية وإيجابية. في حين أن أيا من هؤلاء لم يظهر في الفيلم، مفسحا في المجال واسعا أمام الشخصيات السلبية والمحبطة والمدمّرة والقاتلة والبشعة. هناك أيضا المشهد الأخير المنقسم إلى جزئين: يُمكن إحالة الجزء الأول منه (هروب الخادمة من المنزل ومطاردة صديقتها لها في شوارع خالية من بيروت) إلى المشهد الأخير من <<حروب صغيرة>> لمارون بغدادي، كتحيّة من المخرجة الشابة إلى مخرج ساهم في بلورة أفق جديد لسينما لبنانية مرتبطة بهمّها الإنسانيّ وأسئلتها المختلفة. غير أن الجزء الثاني (لقطات متفرّقة لبيروت من داخلها وفوقها) سيىء ومفتعل، إذ بدت المخرجة فيه وكأنها تريد تلقين المُشاهدين ما سبق أن قالته، بلغة سينمائية جميلة ومتواضعة في خلال مدّة الفيلم كلّه: إن بيروت الحرب بشعة وقاسية وقذرة.

السفير اللبنانية في 28 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

دانييل عربيد تفتتح

"نما في بيروت" بـ "معارك حبّ"

خلاصة اختبارات تفضح بجرأة حروباً صغيرة

نديم جرجورة