شعار الموقع (Our Logo)

 

 

في هذه الحلقة من كتاب «شكسبير كاتب السينما» للمؤلف سميرفريد نتواصل مع ابداعات شكسبير المسرحية التي تحولت الى اعمال سينمائية على يد مخرجين عمالقة، حيث نعرض احداث فيلم «حلم ليلة في منتصف صيف» للمخرج «مايكل هوفمان»، وعن الفيلم يقول سمير فريد:«حلم ليلة في منتصف صيف» اخراج مايكل هوفمان عام 1999 انتاج مجموعة من الفنانين والفنيين استطاعوا جميعاً ان يدركوا بعمق ابعاد النص المسرحي الشعري الخالد، وان يعبروا عن ادراكهم بجمال يجعل من مشاهدة الفيلم متعة فنية راقية تسمو بالروح الى آفاق بعيدة.

العنوان الكامل للفيلم «وليم شكسبير حلم ليلة في منتصف صيف»، والمقصود بوضع اسم المؤلف ضمن العنوان ان الفيلم يلتزم النص الأصلي التزاماً حرفياً، ولكن ليس معنى هذا بالطبع ان المخرج وهو كاتب السيناريو لا يعبر فيه عن رؤيته الخاصة للمسرحية، وليس معنى هذا انه يقدم المسرحية كما يمكن ان تراها على المسرح، او انه يترجمها من لغة المسرح الى لغة السينما، فهو يلتزم بالنص، ولكنه يعبر عن رؤيته الخاصة لهذا النص وبأسلوب سينمائي، اي بلغة السينما، ومن هنا تأتي قيمة الفيلم، ومن هنا ينبع جماله، وسر التمتع بمشاهدته.حلم ليلة في منتصف صيف: عنوان في غاية الدقة من حيث تعبيره عن شكل المسرحية ومضمونها، فهناك الحلم بعيداً عن الحياة، والليل، اي الظلام الذي تخرج منه الحياة وتأتي فيه الاحلام، ومنتصف الصيف اي ذروة الحرارة، ذروة الحياة، انه نص من الواقع والحلم، عن الحقيقة والخيال، وعن الحياة والفن ايضاً، يسمى كوميديا ليس لأنه يثير الضحك.

وانما لأنه يخلو من الخطأ التراجيدي الذي يجعل المسرحية تراجيديا، انه النص الفانتازي لشاعر الانجليزية الاعظم وليم شكسبير الذي كتبه عام 1595، وقد كتبه بعد تراجيديا «روميو وجولييت» مباشرة وموضوع المسرحيتين هو الحب.

تكمن عبقرية شكسبير في قدراته على التعبير الدرامي عن التباس الوجود الانساني، ويبدو ذلك بوضوح في مسرحية «حلم ليلة في منتصف صيف»، ففي «روميو وجولييت» يؤدي الحب الى القتل، والى مصرع الحبيبين، وفي «حلم ليلة في منتصف صيف»، وعلى النقيض تماماً، يؤدي الحب الى سعادة العشاق وزواجهم، ولكن بعد ان يكشف الشاعر عن رؤيته للحب كما لم يكشف عنها ربما في اي مسرحية اخرى من مسرحياته.

الحب عند شكسبير، كما يبدو في هذه المسرحية، شعور سحري لا يمكن تفسيره بالعقل او المنطق، ولا يوجد ما يدعو الى تفسيره بالعقل او المنطق، وقد وجد الشاعر «المعادل ـ الموضوعي» حسب مفهوم اليوت الذي يعبر عن رؤيته هذه من خلال قصة الحب بين هرميا وليساندر من ناحية، وديمتريوس وهيلينا من ناحية اخرى:

هرميا وليساندر يتبادلان الحب، ولكن هيلينا تحب ديمتريوس الذي يجب هرميا رغم انها لا تحبه ومع ذلك يتقدم للزواج منها، فيطبق عليها والدها قانون «اثينا» حيث تدور الاحداث في اليونان القديمة، وهي اما ان تطيع الفتاة والديها، او تقتل، او تمتنع الى الابد عن معاشرة الرجال.

يحتكم الاب الى سيد المدينة الذي يستعد للزواج، وفي نفس الوقت تستعد فرقة مسرحية متجولة من العمال الفقراء للتمثيل في حفل زواجه، يهرب الاربعة الى الغابة القريبة في الليل، وتتدرب الفرقة المسرحية في نفس الغابة، وفي هذه الليلة في منتصف صيف يتحرك الجان في الغابة بدورهم حيث يطلب ملك الجان اويبرون من زوجته تيتانيا ان تهديه غلاماً هندياً فترفض، فيرسل اليها تابعه روبين ليضع لها وهي نائمة رحيق زهرة تدفعها الى حب اول من تقع عليه عيناها ولو كان حيواناً، وبالفعل تقع تيتانيا في حب الممثل بوتوم من اعضاء الفرقة رغم ان روبين جعل له اذني حمار.

يرى ملك الجان كيف تذل هيلينا نفسها وهي تطارد ديمتريوس فيأمر روبين بوضع الرحيق له حتى يحبها كما تحبه؟ ولكن روبين يضع الرحيق خطأ عند ليساندر، فيرفض هرميا، ويطارد هيلينا، ويرى ملك الجان ما ادى اليه خطأ روبين، فيطالبه بإعادة الامور الى نصابها مع الشباب الاربعة ومع زوجته، ويتم زواج هرميا وليساندر، وهيلينا وديمتريوس، وسيد المدينة وحبيبته، ويقوم بوتوم وفرقته بتحقيق حلمهم والتمثيل في الحفل، ويحققون نجاحاً كبيراً.

وتنتهي المسرحية بتابع ملك الجان روبين يقول (ترجمة حسن محمود) للجمهور: «اذا كنا نحن الاشباح قد اسأنا، ففكروا في هذا ينصلح كل شيء، فكروا في انكم كنتم نائمين هنا، حين ظهرت لكم هذه الرؤى»، ويقول «واسعدتم مساءً كلكم، فصفقوا استحساناً ان كنا اصدقاء، وسيصلح روبين كل شيء».

الحب في المسرحية اذن نتيجة رحيق زهرة يضعها الجان في عيون البشر، وفي عيون الجان ايضاً حيث يأمر ملك الجان تابعه بوضع الرحيق لملكة الجان حتى تحب بوتوم ولو ظهر لها على شكل حمار، والاهواء تتحكم في البشر والجان معاً، فما يدفع ملك الجان الى سحر زوجته بالحب رغبته في اقتناء غلامها الهندي، وما يدفعه الى التدخل في حياة هيلينا غضبه من ديمتريوس الذي يرفضها رغم انها تقول له سوف اتبعك مثل كلبة تتبع سيدها، والحب هنا يبدو متعارضاً مع الكرامة، ولكن المعنى انك لابد ان تعطي من نفسك لكي تحصل على الحب.

ينتقل شكسبير في «حلم ليلة في منتصف صيف» بين الواقع والخيال، بين عالم البشر وعالم الجان بسهولة الانتقال بين العالمين في «ألف ليلة وليلة»، والأرجح انه قرأ الكتاب، وأن كلمة ليلة في العنوان ربما تؤكد ذلك، وكما يقول مترجم المسرحية حسن محمود في مقدمته انها «ليست مزيجاً من الانواع، ولا نجد فيها شعراً اقرب الى النثر، بل هي قطعة من الخيال الخالص في موضوعها، وفي كل موقف منها، وهي شعر خالص في روحها».

اخرجت المسرحية على المسرح طوال القرون الأربعة الماضية، وكانت موضوعاً لأوبرا هنري بورسيل عام 1962، وافتتاحية ميندلسون عام 1844، واستوحى منها البيتلز فيلماً بعنوان «بيراموس وتسبي» وهي المسرحية داخل المسرحية عرض في مناسبة مرور 400 سنة على مولد شكسبير عام 1964، واستوحى منها وودي آلان فيلمه «كوميديا جنسية في ليلة منتصف صيف» مع موسيقى ميندرلسون عام 1982، وصنع عنها 15 فيلماً في اوروبا والولايات المتحدة منذ عام 1909 الى عام 1999 ففي الفترة من 1909 الى 1925 اخرجت في خمسة افلام صامتة،.

وفي الفترة من 1935 الى 1999 اخرجت في عشرة افلام ناطقة من اخراج ماكس رينهارت 1935، ورودولف كارتير 1958، وييري ترنكا عام 1959، وجورج بلانشين عام 1966، وبيتر هال عام 1968، وجون كامب ـ ويلشعام 1969، وأليجا موشينسكي عام 1981، وجوزيف باب عام 1982، وادريان نوبل عام 1996، ثم مايكل هوفمان عام 1999.

ومن بين هذه الافلام فيلم تحريك دمى، وهو فيلم فنان السينما التشيكي ترنكا الذي يعتبر من كلاسيكيات التحريك في العالم، وفيلم باليه، وهو فيلم بلانشين، وفيلم ينقل عرض مسرحي من برودواي، وهو فيلم جوزيف باب، ولعل اهم الافلام التي اخرجت عن المسرحية الفيلم الناطق الأول الذي اخرجه فنان السينما والمسرح الالماني رينهارت في هوليوود حيث مثلت اوليفيا دي هافيلاند دور هرميا وجيمس كاجني دور بوتوم وميكي روني دور روبين.

والفيلم الناطق الاحدث الذي اخرجه هوفمان وبرع في تمثيله كيفين كلين (بوتوم) وروبرت ايفرت (اوبيرون) وستانلي توش (روبين) وميشيل فيفر (تيتانيا)، وفي ادوار العشاق الاربعة كاليستا فلوكهارت (هيلينا) وانا فريل (هرميا) وكرستيان بالي (ديمتريوس) ودومينيك ووست (ليساندر).

ليس من الغريب ان يقرن فيلم مايكل هوفمان، وهو فيلمه الثامن، بفيلم رينهارت الذي يعتبر من كلاسيكيات الفن السينمائي، فقد درس هوفمان المسرح في جامعة اكسفورد، ومثل دور ليساندر في المسرحية وهو طالب، ثم اخرجها قبل ان يخرج فيلمه الأول مباشرة، وهو مؤسس فرقة مسرحية شكسبيرية في بلدته بولاية ايداهو الاميركية. وليس من الغريب ان يتم اخراج 15 فيلماً عن هذه المسرحية في تاريخ السينما.

ولا ان يكون من بينها فيلم تمثيلي من الكلاسيكيات وفيلم تحريك من الكلاسيكيات ايضاً، اي الاعمال الباقية ما بقي فن السينما، فالمسرحية تبدو وكأنها كتبت للسينما، وهل يمكن التعبير عن عالم الجان بلغة افضل من لغة السينما. وبالذات الجن الذين يأخذون شكل حبة البازلاء، وشكل شبكة العنكبوت وغيرها من الاشكال التي يذكرها شكسبير، والتي كانت بلا شك مشكلة لمخرجي المسرح طوال العصور السابقة. ادرك هوفمان سينمائية النص الشكسبيري.

واستخدم تكنولوجيا الديجيتال ببراعة، وفي مكانها، وابتداءً من عناوين الفيلم التي صممتها سكارليت لتيرس، ففي هذه العناوين يظهر عنوان الفيلم ويختفي اكثر من مرة تعبيراً عن فكرة الحلم، وابتداء من العناوين تتحرك نقاط ذهبية وتتجمع وتتفرق كأنها كائن حي، وهي نفس النقاط التي نراها طوال الفيلم في عالم الجان حيث يقول روبين: انه قادر على ان يدور حول العالم كله في اربعين دقيقة، ويقول شكسبير في المسرحية: ان روبين يختفي في قدح من الشراب، وفي فيلم هوفمان تتجسد الفكرة في لقطة نراها على الشاشة.

وتتكامل العناصر الفنية في الفيلم لتجسيد «الخيال الخالص» و«روح الشعر الخالصة» حسب تعبيرات حسن محمود في مقدمة ترجمته العربية من تصوير اوليفر ستابيليتون بالالوان للشاشة العريضة المناسبة تماماً، الى ازياء جابريللا بيكوتشي وديكورات جياني جيوفانوني وماكياج بول انجلين ومؤثرات ريش ثورني الضوئية وموسيقى سيمون بوزويل، والتي لا يكتفي بها المخرج، وانما يستخدم ايضاً مقاطع من افتتاحية ميندلسون ومقاطع من اوبريت لبوتشيني وفيراي.

وتبدو رؤية المخرج الخاصة لمسرحية «حلم ليلة في منتصف صيف» في نقله مكان وزمان الاحداث من اليونان القديمة الى ايطاليا، نهاية القرن التاسع عشر، وبالتحديد في مقاطعة توسكاني الريفية المشهورة بجمال الطبيعة، وليس المقصود من تغيير المكان والزمان تقريب الفيلم الى الجمهور المعاصر فقط، او التأكيد على ان مضمون المسرحية لا يرتبط بمكان او زمان معينين فقط، وانما اساساً لأن اختيار شكسبير لليونان القديمة كان للتعبير عن فكرة الأب ـ الإله في عصور الوثنية.

وهو التعبير الذي يستخدمه سيد المدينة (اثينا) بالنص في حديثه عن والد هرميا، رغم تغيير المكان والزمان لم يغير المخرج شيئاً من المسرحية، فالحديث عن قانون اثينا يدور في توسكاني كما كان يدور على المسرح في لندن في عصر شكسبير. ومن دون تغيير كلمة واحدة في النص يعبر المخرج عن رؤيته العصرية باضافة الدراجة كوسيلة يهرب بها العشاق الى الغابة، وهي من اختراعات اواخر القرن التاسع عشر.

ومن دون تغيير النص ايضاً يجعل بوتوم تعيساً في زواجه باضافة مشهد صامت له مع زوجته التي تبدو غاضبة من حبه للتمثيل، ويجعله يتبادل الحب مع ملكة الجان وهو لا يرى شكل الحمار الذي اصبح عليه، وانما يحبها لأنه وجد لديها الحب بمعناه الحقيقي اي السحري الذي لا علاقة له بالعقل او المنطق، ورغم ان بوتوم يفاجأ برفض تيتانيا لحبه عندما ينتهي مفعول رحيق زهرة الحب السحرية، الا انه يستمد من ذلك الحب القوة التي تجعله يحقق ما يريد كممثل.

وهذا التفسير الخاص لشخصية بوتوم وخاصة مع اداء كيفين كلين المتمكن لا يغير من مضمون المسرحية، وانما يؤكد عليه، ويوضحه. للوهلة الأولى يبدو ان الفيلم ينتهي مع زواج العشاق، وان المسرحية التي تمثل في حفل الزواج اطالة من دون مبرر، ولكن هذا مجرد عادات ذهنية صنعتها النهايات السعيدة في الافلام التجارية الهوليوودية .

وغير الهوليوودية حيث الزواج هو النهاية السائدة للأفلام رغم انه البداية في الحياة. فالمسرحية داخل المسرحية وداخل الفيلم هي التي يكتمل بها المعنى، تكتمل بها الاسئلة، فهل الحلم هو عالم الجان ام عالم التمثيل، وما هو الحقيقي في الحياة، وما هو السحري في الحب.

البيان الإماراتية في 26 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

شكسبير كاتب السينما

مايكل هوفمان يتألق في فيلم «حلم ليلة في منتصف صيف»

سمير فريد