شعار الموقع (Our Logo)

 

 

بعد هزيمة 67 مرت السينما المصرية بانعطافات خطيرة وتأثرت مثل بقية المجالات الإبداعية بهزة الانكسار وعلي أثر ذلك هاجر عدد كبير من الفنانين والمخرجين وكتاب السيناريو إلي بيروت هرباً أو بحثاً عن أفق سينمائي افضل، ومن ثم ظهرت موجة الأفلام التجارية وتشكل وعي الفنان بمفاهيم مناهضة لما كانت تتبناه السينما أيام المد الثوري في مطلع الخمسينيات والستينيات وظلت السينما في مصر تترنح إلي ان بدأت عمليات الإصلاح السياسي وظهرت في الأفق بوادر الانتصار متمثلة في إعادة بناء الجيش وضربات حرب الاستنزاف الموجعة للعدو، وهنا ظهرت العلاقة جلية بين الواقع السياسي والاجتماعي والحالة الإبداعية، وعليه فقد تزامنت حركة النهوض السينمائي مع إيقاع الانتصارات والانكسارات السياسية وأفرزت تجارب فنية وضعت محل دراسة وكانت مؤشراً دالاً علي فترات تاريخية بعينها.. ولو جاز لنا أن نعقد مقارنة بين واقع السينما المصرية بعد حرب 67 وواقعها الآن سنري أن ثمة تشابها في المرحلتين حيث الهزيمة هي الدافع الأساس لتولد النماذج السينمائية المحبطة ولجوء المنتجين إلي تكريس مبدأ التجارة وتغييب الوعي الثقافي في المضمون الفني غير ان الهزيمة السينمائية في 67 كانت عابرة وسرعان ما انجلت الحقيقة وأسفرت عن افلام حملت اخطاء المرحلة وانتقدتها نقداً ذاتيا أعاد للجمهور توازنه وجدد الثقة في رموزه الوطنية، وهو الجانب المفتقد حالياً بعد شيوع أفلام الحركة و الكوميديا التي تستحق عن جدارة لقب الكوميديا السوداء مع الفارق بالطبع بين المضمون الحقيقي للكوميديا و التهريج الذي نراه علي الشاشة متمثلا في الأفلام المبتسرة التي لا تزال تواصل لعبة التغييب ولا تستهدف إلا شباك التذاكر وجمهور المراهقين من مواليد السبعينيات والثمانينيات!

ولعل النموذج الأكثر فجاجة في هذا الاتجاه هو ذلك الفيلم المسمي بـ تيتو الذي تبدأ خطيئته من عنوانه، إذ أن تيتو هو الاسم أو اللقب الشائع في إسرائيل ومعناه في اللغة العبرية البطل أو الخارق وهو التعبير الموازي في أمريكا للسوبرمان .. هذا الفيلم تتأسس فكرته علي مفهوم البطولة الفردية وينحاز دون مباشرة إلي اعتبار المجرم ضحية النشأة والظروف، فالفيلم يقدم لنا نموذجا لطفل نشأ في إصلاحية واعتاد الضرب والتــعـذيب فتكونت لديه عقدة الانتقام وخرج من خلف الأسوار بعد أن قضي سنوات طويلة شاباً فتياً يتمتع بلياقة بدنية خارقة تؤهله لأن يكون قاتلاً محترفاً وقناصاً بارعاً وواحداً من اكبر اللصوص الذي فطرت مشاعرهم واحاسيسهم علي الاغتصاب والسطو فباتوا يعتاشون من سفك الدماء.. تنويعة من الشر وكوكتيل إجرام يتغذي عليه البطل تيتو أو أحمد السقا بعد ان ينجح في الهرب بشنطة الفلوس وينجو بعمره من زخات الرصاص التي اطلقتها عليه العصابة من جانب ورجال البوليس من الجانب الآخر إلي أن وصل إلي يد الباشا الكبير خالد صالح لواء الشرطة المتواطئ الذي بني عرشه ومجده البطولي علي جماجم القتلي وكون ثروة طائلة من صفقات تهريب السلاح والعمليات القذرة.. يسير البطلان في خط درامي متواز.. يمثل الأول نموذج المجرم التقليدي والثاني النموذج الغامض المحمي في السطة، وكلاهما مجرم يتخذ العنف وسيلة لتأكيد سطوته ويري في السباحة ضد التيار تميزاً وبطولة غير ان السيناريست محمد حفظي والمخرج طارق العريان يحاولان خلق مبررات غير منطقية لـ تيتو ويرونه اقل خطورة من ذلك اللواء الذي يدير المافيا عن بعد بالريموت كونترول نائياً بنفسه عن الخطر، بينما يستغل تورط ضحيته في عدد من الجرائم ويفرض عليها سياجاً محكماً من الرقابة حتي يتمكن من إحكام قبضته عليه ويصير ذراعه اليمني والمفوض نيابة عنه في تنفيذ كافة العمليات الخطرة!

و هنا يقع المخرج والسيناريست في مغالطة إنسانية ودرامية عالية حيث أن تاريخ تيتو الإجرامي لم يكن ينبئ بمصير غير الذي آل إليه من هلاك وقتل.. وحتي المساحات البيضاء في حياة تيتو لم تكن سوي مشاعر عاطفية غير متكافئة مع فتاة رومانسية حنان ترك من اسرة ارستقراطية تفصلها مئات الأميال عن ثقافة هذا القاتل المحترف الذي أراد ان يتطهر من ذنوبه بهذا الحب فشرع يرتكب مزيداً من الجرائم ويخلف مئات من الضحايا، وهو التناقض الذي أوقع البطل والفيلم علي حد سواء في هوة الخيال والعبث وزاد من ذلك الإحساس تلك العلاقة الطيبة التي تربط تيتو المجرم بالطفل البائس البريء الذي يري فيه نفسه ويحول دونه ودون النشل وبذل جهداً مضنياً ليخلق منه طفلاً سوياً، كأنها الرغبة في التكفير واستجداء الصفح، وهذه إشكالية أخري تمثل شيزوفرينيا إضافية وتسقط الشرعية الدرامية عن الفيلم المبتسر الذي يعاني من جوانب قصور عديدة علي مستوي الكتابة والإخراج ولا يمثل إلا إضاءة وحيدة شكلها التصوير البارع لمشاهد الأكشن التي ترقي إلي مستوي التقنية العالمية حيث السرعة في الحركة والتقطيع والمؤثرات وهي ميزة جاءت للأسف في سياق خارج عن الإطار الدرامي كأنها عزف منفرد واستعراض مبهر للاستخدام التكنولوجي في آلية التصوير الحديث فضلاً عن ان هناك بصمة واضحة للفنان خالد صالح علي المستوي الأدائي يمكن إدراجها ضمن إضاءات الفيلم المحدودة إذا تجاوزنا الوصفة الأمريكاني في الطبخة الدرامية المفبركة للمخرج طارق العريان الذي بات قيماً بهذا النمط الاستهلاكي من افلام الحركة.

القدس العربي في 25 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

فيلم تيتو للمخرج طارق العريان:

طبخة درامية مفبركة.. علي الطريقة الامريكية

كمال القاضي