السينما المصرية مثلها مثل سينما العالم الثالث.. ذكورية أغلب الوقت، تعتمد في المقام الأول علي بطل رجل والشخصيات النسائية هن دائما علي هامش الرجال، سنيدة، أيد عاملة «موزز» بلغة شباب هذه الأيام، كلهن عناصر «تخدم» علي الرجال ومشاكلهم وأحلامهم وأهوائهم. والرجل دائما يحتل مركز الصدارة من الفيلم وتتمحور حوله كل النساء. هو الرأس وهن الأطراف.. هو المتن وهن الهامش والهوامش. وهو القادر وحده علي دفع عجلة الأحداث. مع أن الواقع تجاوز هذا بكثير فهناك نسبة هائلة من النساء في مجتمعنا هن اللائي يعلن الأسر ويمسكن بدفة الحياة ويلعبن كل الأدوار في ظل غياب الرجال في الواقع والمجاز. لكن حتي هذا عمليا لم يمنح المرأة فرصة تغيير الوضع السائد وإعادة التوازن لعلاقات القوي بين الرجل والمرأة حتي علي الشاشة. هناك عدد من المخرجين الرجال سمحت رؤيتهم للواقع بمساحة أكبر للنساء في أفلامهم منهم محمد خان في «أحلام هند وكاميليا» و«السوبر ماركت»، ومجدي أحمد علي في «يا دنيا يا غرامي» و«أسرار البنات».. هذا علي سبيل المثال لا الحصر. ويمكن أن يقال إن هؤلاء وغيرهم من المخرجين يتبنون قضية المرأة في المجتمع، لكنها أيضا غير منفصلة ذلك الفصل التعسفي عن قضايا الواقع وقضايا الرجل أيضا الذي هو نفسه صار مهمشا علي نحو كبير. مخرجات السينما الجيدات في مصر يمكن إحصاؤهن علي أصابع اليد الواحدة، وكذلك كاتبات السيناريو والأديبات، وكذلك الفنانات التشكيليات. فدخول المرأة معبد الفن في بلاد العالم الثالث بمثابة الدخول إلي جحر الثعالب أو وكر الأفاعي أو اللعب مع الذئاب، ولابد أن تكون الواحدة مقاتلة بحق لكي تستطيع أن تحقق شيئا له قيمة بعيدا عن منظومة التوازنات والمصالح في دوائر الإسفاف والابتذال. أحلي الأفلام أثبتت هالة خليل في فيلمها الروائي الطويل غير التجارب التسجيلية والأفلام القصيرة أنها مخرجة مقاتلة حقا تملك رؤية جديدة ومتماسكة في فهم الحياة والنظرة لها، ربما أكثر اختلافا عن مجايليها سواء من الرجال أو من النساء. لم تقع هالة خليل في أول فيلم روائي لها في فخ سينما الضحك للضحك أو سينما الشباب وأوهامه الزائفة.. تهريج وصخب وخواء يعكس الحالة المزرية والمتردية التي وصل إليها شباب هذه الأيام ربما ثأرا من مرحلة كاملة ترسخ حالة ضبابية وعدم وجود رؤية متماسكة للواقع وللمستقبل. هذه المقدمة لأبرهن علي أو وجود عمل فني واحد بموهبتين في الإخراج وكتابة السيناريو والحوار ناهيك عن مواهب التمثيل يعد إنجازا لابد أن ننزع له القبعة، وبما أننا لا نرتدي القبعات فعلينا إبداء التحية الخالصة لوجه الله والفن لـ «هالة خليل» و«وسام سليمان» علي فيلم «أحلي الأوقات» الذي ربما جسد أيضا أحلي الأفلام في الفترة الماضية. قصة الفيلم تتماس بدرجة أو بأخري فيلم «الطريق» المأخوذ عن رواية أستاذنا ورائد الرواية العربية نجيب محفوظ، وبحث بطله عن أبيه وجذوره وهويته، وكذلك بطلة الفيلم لتبدأ بداية مختلفة وتجسدها كعادتها في البساطة المدهشة الفنانة الموهوبة حنان ترك. وقد برعت وسام سليمان في خلق مجموعة من الحيل الفنية تجعل حبكة الفيلم مقنعة إلي حد كبير وترسم مجموعة من الشخوص هم في النهاية يتمحورون حول الفكرة المركزية في تجلياتها الواضحة والمضمرة وحالة التناغم بين طرح الأسئلة والبحث عن إجابات لها وبدا أن المخرجة وكاتبة السيناريو عبر السرد الفيلمي ركزتا علي جذب المشاهد عبر تقديم مزيد من الأسئلة وتأخير الأجوبة.. فالسيناريو رغم أنه التجربة الأولي لـ«وسام سليمان». يعكس نضجا وموهبة. تتجلي حيلة الفيلم والتي تصنع حوادثه ومواقفه وحالاته لإنتاج المعني والمغزي والدلالة في غير زعيق أو مباشرة، أن الفتاة التي كانت تعيش مع أمها وزوج أمها لم تعد لها مشروعية الحياة مع زوج الأم ـ سامي العدل ـ الذي جسد دوره في براعة وهدوء ورومانسية لم يلعب هذا الدور من قبل، لكنه في هذه المرة بذل جهدا عظيما في أن يبدو حقيقيا وصادقا. بالمناسبة لم أحب سامي العدل من قبل في أغلب أدواره ربما لتلك القصدية التي سجنته في أدوار تعتمد علي سماته الشكلية فقط بغض النظر عن موهبته. لكنه هنا جسد كم الشجن والإنسانية في أداء دور «ربيع» زوج الأم المتوفاة والذي تعامل بلا مبالاة مع الخبر، كان حتي في علاقته بضحي صديقة سلمي نبيلا وكان علي وشك الخطأ معها لولا ضميره الأبوي. وهذا هو مفتاح شخصيته في الفيلم. حيث بدا أن اختفاءه جسد كثيرا من حضوره. يجسد «ربيع» زوج الأم المتوفاة والذي سعت إليه سلمي باختيارها بعد رفضها لصيغة أبيها الشرعي فكرة الفيلم الأساسية، فكرة البحث عن الجذور والهوية ليحدث نوعا من الترميز مع فكرة حرية الاختيار.. اختيار العمل والعقيدة والحب ونهج الحياة. وفي رحلة البحث عن الأب الحقيقي لتلك الضرورة الاجتماعية، لأنها أيضا لم تبحث عنه من قبل يقدم لنا الفيلم جماليات سينما يؤكد عليها العمل في حركته باتجاه الحركة الدرامية داخل الفيلم وعلاقاته بين أجزائه وحدود بنائها وإيقاعاته والصلات بين عناصر التصوير والسيناريو والحوار والموسيقي والديكور وأداء الممثلين والذي ينتج في مجمله وليس في تفصيلاته فقط المعني والدلالة من الفيلم، كما يعيد إنتاج فهمنا وتصورنا لماهية كل هذه العناصر مجتمعة، أجادت إدارتها جميعا المخرجة المبدعة والتي نتنبأ لها بمستقبل باهر لو أصرت علي إنتاج سينما تخصها وتخص الناس وتحقق نزوعا نحو الجمال والإنسان وقضاياه. تبدأ سلمي عبر حيلة الخطابات التي تصلها من مجهول بالاتصال بعالم الطفولة والصبا في حي شبرا وزمن البراءة الأولي لتلتقي بزميلتي الدراسة «يسرية» وتجسدها في براعة الفنانة التونسية التي تتدفق حيوية وتلقائية تؤهلها لأن تكون إحدي فناناتنا المجيدات هند صبري، الزوجة المحملة بكم هائل من مشاكل وتفاصيل الحياة اليومية لكن حياتها لا تتوقف، وضحي التي مازالت خطواتها تتعثر بين حلمها في الحب والزواج وحلمها بالسينما. وعبر حيلة الخطابات التي تأتي من مجهول أيضا تظن مرة أنه أستاذها في المدرسة وتظن أنه جارها وتظن أنه أبوها المنسي والذي نسيها تماما فتقرر البحث عنه لتجده في النهاية يتعامل معها باعتبارها رقما من أرقام بناته اللائي أنجبهن من نساء عديدات لا يحمل في وعيه منهن غير الأسماء بالكاد. فتعود وقد ترسخ في وعيها أن الذي يجب أن يحظي بأبوتها هو زوج الأم (ربيع)الذي كفلها بالتربية والرعاية حتي صارت شابة ثم تدرك أن تعامله مع خبر موت الأم بكل هذه اللامبالاة كان مجرد صيغة للهروب من أزمته الحقيقية وهي كراهيته للموت الذي خطف ابنه الوحيد من قبل، وأن المرأة التي أتي بها للشقة بعد الوفاة بقليل هي أم ابنه وجاءت لتعزيته ليس إلا. و«سلمي» لا تفعل شيئا في الحياة سوي أن تعمل عملا لا تحبه تماما ولا يشبعها علي نحو كبير تصل إلي حدود الكشف عن جوهر حقائق الحياة مثل حقيقة الحرية.. وحرية اختيار العمل في علاقتها بذلك الشاب جارها الذي جسده في مهارة فنية وحضور إنساني واضح عمرو واكد، الذي ظنت أنه هو الذي يرسل لها تلك الخطابات. يحدثها عن دراسته كمهندس واختياره لعالم العرائس الذي يحبه ويجد متعة بالغة في التعامل معه علي الرغم من أنه لا يدر عليه دخلا كبيرا. ثم في عالم صديقات الدراسة يسرية وضحي وأبيها الذي لا يعرف كم عدد زوجاته وأبنائه واختار التصوير مهنة يحبها. بدت «سلمي» بين الجميع فاقدة لهويتها ربما لأنها لا تفعل شيئا باختيارها أو بمحض الحب. وربما لأنها البنت التي تربت في شبرا ثم أخذتها أمها لتزرعها في المعادي. ويظل هاجس الماضي يلح علي حاضرها ويضغط عليه. الشخصية الوحيدة التي تجسد فتاة فعالة تعمل وتتزوج وتنجب وتتفاعل مع الحياة بكل إيقاعاتها ومشاكلها وأصدقائها وأهل حيها هي يسرية التي تفهم هويتها عبر حركتها الدائمة في الحياة، فلا تقع في الأوهام لكنها تعيش بكثير من الواقعية والتفاعل مع الآخرين. من أجمل مشاهد الفيلم مشهد الصديقات الثلاث وهن يلعبن بكرة جاءت إلي أقدامهن بمحض المصادفة عبر أطفال يلعبون في الحارة، فينخرط الثلاثة في اللعب والبهجة المفتقدة وكأنها رغبة في العودة إلي زمن البراءة. والفيلم في مجمله ناهيك عن تفاصيله يؤكد عبر دراما الكلمة والصورة علي موهبة كاتبة سيناريو تنبئ بمستقبل واعد، حيث التجربة في مصر فقيرة علي نحو ما مع كاتبات السيناريو الجيدات. الغالبية منهن يمارسن كتابة الثرثرة دون جماليات ودون معني واضح. ثرثرة ليس أكثر وكأن المجتمع كله لا يتحرك والجميع يستهلكون فقط الوقت والطاقة والعمر لإنتاج حالة اللافعل. نساء في المتن في «أحلي الأوقات» تتجاوز هالة خليل مع وسام سليمان الخطاب النسوي، وكذلك الخطاب الأبوي، وتتماهي مع كل الأفكار التي يساندها العقل والمنطق علي الرغم من أن الواقع من حولنا لا يغذي حلم إنسانيتنا دعوة إلي معانقة الحياة ودخولا في جدل معها دون الوقوع في فخ الشكلانية لتقديم سينما جميلة فقط، كما أن «أحلي الأوقات» منح البنات مكانة مدهشة للحركة داخل المتن، علي الرغم من أنه لم يدفع الرجال تماما إلي الهامش. كلمة أخيرة: أتصور أنه علي الرغم من كبوة السينما المصرية، فإن هناك نهضة يجب الاحتفاء بها وهي ظهور مجموعة من المخرجات الشابات مثل: ساندرا وهالة خليل، وكاتبات السيناريو مثل: وسام سليمان وعزة شلبي ومني الصاوي، وأخريات جسدن سينما تتجاوز مأزق الواقع وتضع النساء في المتن، وربما تكرس لحركة اجتماعية تعيد للإنسان المصري رجلا كان أو امرأة مكانته، حيث الواقع تجاوز الفن وألقي بالجميع في الهامش. جريدة القاهرة في 24 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
نعمات البحيري تكتب: ثورة البنات في السينما المصرية |
|