شعار الموقع (Our Logo)

 

 

«سحر ما فات في كنوز المرئيات» هو عنوان الفيلم الوثائقي الذي كتبه وأخرجه مدكور ثابت. والعنوان يحمل نبرة كتب التراث المصري، خاصة مع بدايات عصر التنوير، وكأنما رفاعة رافع الطهطاوي قد بعث، وبدلاً من أن يمسك بالقلم ليكتب: «تخليص الأبريز في وصف باريز»، راح يجمع ما سجلته ذاكرة نهاية القرن التاسع عشر لتقوده إلي تفسير ما حدث ــ بالفعل ــ طوال القرن العشرين.

وهي ذاكرة حية، لأنها سجلت علي شرائط سيلولويد، سجلتها الكاميرا أثناء وقوعها. ومن هنا امتيازها، لأن أي مؤرخ، في الحضارة الورقية، حضارة ما بعد اختراع المطبعة في القرن الرابع عشر، حتي دخولنا في طور جديد من الحضارة، ألا وهو طور الحضارة البصرية ــ السمعية، أقول: المؤرخ الأكاديمي التقليدي ليس أمامه من مصادر لدراسة هذا العصر أو ذاك، هذه الظاهرة أو تلك، سوي الوثائق المكتوبة وأشكال التعبير التي وصلت إليها الجماعة الإنسانية ــ الاجتماعية كي تتحدث عن نفسها، وأعني بذلك لوحات الرسامين والتماثيل وطرز المعمار.. إلخ، وكلها تجيء إلي المؤرخ صامتة، بلا حراك.

أما ما تركته هذه الجماعة الإنسانية ــ الاجتماعية أو تلك مسجلاً علي شرائط، فالمؤرخ المعاصر يستطيع أن يدرس الوقائع وهي في سياقها الحركي، والأجهزة التي يستخدمها تسمح بإرجاع المشهد وإعادة عرضه، كما تسمح بنقله إلي «وسيط» جديد، هو الوسيط الرقمي (ديجيتال)، وهو ــ علي عكس شريط السينما ــ لا تمحي خطوطه ونغماته اللونية بمرور الزمن، ولا يفقد خاصيته مهما أعيد نقله مرات ومرات.

نحن، إذن، أمام مؤرخ له رؤية محددة لحركة أي مجتمع، إلا أنه مؤرخ لم يأت من حضارة الورق، بل من حضارة المرئي ــ السمعي، وهو ما يفسر، لا عنوان فيلم مدكور ثابت فحسب، بل استخدام مدكور السينمائي لمكتسباته التقنية ليكشف لنا عن حقيقة ما كان يحدث.

وما كان يحدث يبدأ ببانوراما عريضة لقاهرة اليوم، بعماراتها الشاهقة وفنادقها التي تطل علي النيل، وبكوبري معاصر، ككوبري 6 أكتوبر، يمتد بموازاة أول كوبري ربط أطراف القاهرة بما نسميه وسط البلد، وعملية الربط هذه ليست مجرد وسيلة انتقال، بل أولي مؤشرات الدخول في عصر «الحداثة» Modernik إنه كوبري قصر النيل، ومعه الأوبرا وتياترو الأزبكية وتوسيع دار الكتب، ثم علي اليمين ــ وقد نسي ذلك مدكور ولم ينبه إليه سعيد شيمي ــ علي اليمين عصا المايسترو التي بتلويحها يبدأ عزف سيمفونية أولي الحضارات الكبري، الحضارة الفرعونية، وقد تركت لنا حياتها مدونة علي مسلات وعلي جدران معابد وداخل المقابر، بل علي الأمشاط وأدوات الزينة والملاعق، ومفردات هذه الحضارة قابعة في المتحف الذي أنشأه مارييت باشا، تطل علينا كما تطل الأسود الأربعة الإيطالية تظهر أسلوب النحت، وهي رابضة فوق مدخل كوبري قصر النيل.

هذه اللقطة الافتتاحية الطويلة تومئ إلي أسلوب المخرج، بناء سيمفوني، افتتاحية، الموضوع (التيما) الموسيقية الأولي، ومحركها قطبا صراع، صراع بين ما ترسب في كيان المصري من ممارسات حياتية، تبدأ بالسخرة، وانتشار البنوك ذات الأصول الصهيونية (ولا أقول اليهودية) المحركة لعالم «البيزنس» في كل قارات كوكبنا الصغير، واستخدام المحتل للعنف، إلي حد نصب المشانق في دنشواي، ثم انفراج الأمل، وانفراج الأمل بصرياً هو انتشار الآلاف والآلاف لتحية الوفد المصري برئاسة سعد زغلول، لكن أين عبدالعزيز فهمي، يا مدكور، ثم لماذا أسقطت من حسابك أهم ركيزة في بناء أصلب طبقة عمالية في العالم، وأعني به: «محمد فريد»؟ مجرد تساؤل مشاهد «متضامن» مع رؤية زميل فنان تابعته منذ بدايته، وكان وقتها أخي الأصغر.

هنا ينتشر الأمل ويعبر عنه المخرج بميزانين يعطينا الإحساس بكتل بشرية انصهرت مشاعرها في هتافات، هتافات تخرج من القلب، وليست هتافات مأجورة دفع ثمنها عضو برلمان.

هذه المرحلة يقدمها لنا مدكور ثابت في دورة حياتها. لكنه سينمائي، وليس مؤرخا مكتبيا، وعلي هذا فالوثيقة التي يبحث عنها هي وثيقة فيلمية. وتدفعه الرغبة في الدقة والموضوعية إلي أن يتجه إلي أول الشرائط السينمائية التي صورت في تاريخ إنسانية نهاية القرن التاسع عشر. إنها شرائط مخترع آلة تجميع جزئيات الواقع المكونة لحركته، أي: كاميرا السينما، شرائط الأخوين لوميير. وبدأ بأول شريط صور في تاريخ السينما، هو وصول القطار إلي محطة سيوتا، قرب ليون، بفرنسا.

كان ذلك أواخر عام 1995. لكن بعد ذلك بستة أشهر فقط أرسل لوميير مصوريه في العديد من أنحاء العالم بدءاً من مصر. وقد سمحت جمعية أصدقاء لوميير لمدكور باستخدام الشرائط التي صورت في مصر، وهذا الجزء من الفيلم يحتاج لمعالجات صعبة، للوصول إلي تجانس بين سرعة الكاميرا وقتذاك وسرعة العرض الحالي، وتجانس بين الكشافات الضوئية، وتجانس في تثبيت المرئيات كيميائياً، ولو لم نضع في اعتبارنا كل ذلك، لما استطعنا تقييم مخرج الفيلم، وأيضاً المصور المبدع سعيد شيمي الذي أوصل الخط اللحني لمصر المعاصرة، وهو تصويره الحي، بالخط اللحني الذي ترسم مسافاته وإيقاعاته الشرائط ــ الوثائق ـ بدءاً من لوميير.

حقاً لقد عشنا في قاهرة نهاية القرن التاسع، وتعرفنا علي الغزاة الذين جعلوا من مصر بقرتهم الحلوب، من صهاينة ورجال أعمال، ثم اكتشفنا الوجه المشرق لدي أجانب آخرين، جاءوا ليتعرفوا علي أول حضارة كبري عرفها التاريخ، ويدرسونها في مدارسهم منذ التعليم الابتدائي، وحتي الآن (ولا يوجد لدي المشرفين علي الفضائيات المصرية أدني فكرة عن ذلك).

ومن علبة فيلم يخرج مدكور مرحلة تاريخية، ليقارنها بما يجده في علبة فيلم آخر، ويجمع مادته الفيلمية ويذهب ومعه سعيد شيمي حاملاً كاميرته، ليرينا ما تبقي حالياً من معالم ذلك التاريخ في المتاحف، في دور الوثائق.. إلخ.

إلا أن المشكلة الرئيسية في فيلم: «سحر ما فات في كنوز المرئيات» هو طموح المخرج في أن يجمع خيوط تاريخنا المعاصر، ويقدمه كاملاً في ساعتين وبضع دقائق.

وهذا مستحيل، علينا.

ومع ذلك، فالفيلم الذي عشنا تفاصيله كمشاهدين يفتح الطريق أمام نوع جديد من الكتابة بالكاميرا. وهو فيلم يتفرد بخصائصه. وكم وددت أن ينتقل مدكور ثابت من عصر البليكول 35مم إلي عصر «السينما التفاعلية»، بأن ينقل كل وثائقه إلي محول ديجيتال، ثم يعيد إخراج كل الوثائق، ويستخرج كافة وسائل الرؤية المتاحة حالياً، من أقراص صلبة، ودي في دي، وتخزين في ذاكرة.. إلخ.

وعلي المستوي الفني، هذا، كما قلت في البداية، بناء سيمفوني، يكفي أن نشهد ربط تاريخ إنشاء كوبري قصر النيل بمرور جنازة المناضل جمال عبدالناصر، بحركة الجموع، وهي تنصهر في شجن يمتزج باليأس الحانق، وعلي أرضية موسيقية لموسيقار اليونان المبدع «ميكيس تيودوراكس»، وقد عرفه جمهورنا عن طريق فيلم زوربا، والرقصة الشهيرة، سواء في فيلم كالويانيس أو في الباليه الذي أخرجه إخراجاً رائعاً عبدالمنعم كامل.

يكفي أيضاً أن نعيش حصار ضباطنا المناضلين في الفالوجا، ورغم ندرة الوثائق الفيلمية، فيما عدا ما احتفظت به الدكتورة هدي عبدالناصر، ابنة الزعيم الراحل والمحررة بالأهرام سابقاً، رغم ذلك، فقد أكمل مدكور البناء نفسه.

ان «سحر ما فات في كنوز المرئيات» يسير علي نقيض تقاليد الفيلم التسجيلي الكلاسيكي، فهنا لا يوجد معلق محايد يقودنا كما يقود عسكري المرور حركة السيارات، فهذا «تعسف»، يتناقض مع أبسط مبادئ التلقي للأعمال الفنية، فالعمل الفني ينفذ إلي وجداننا بلغته هو، وليس بالكلام المسموع.

وعند مدكور ثابت، التعليق يجيء من المخرج مباشرة فكل ما يفعله هو كتابة يوميات. يوميات شاب طموح دخل معهد السينما، واستطاع في سن مبكرة أن يقدم عملاً سيمفونياً، يحمل تأثير فيرتون، هو ثورة المكن، وأعقبه فيلم قصير لا أثر للحدوتة فيه، بل يمكن القول أنه أحد الأفلام المحققة لتأثير التعبير Ver fremendung Effekr والذي ترجم عندنا بسذاجة: «تأثير التغريب» وقد ترجمه أناس لم يشهدوا أي عرض لصاحب هذا الاتجاه الكاتب المسرحي برتولت بريشت ولا لفرقته البرليز انسانبل.

أردد ما قلته لمدكور في نهاية العرض: لقد عدت إلي نفسك بعد رحلة طويلة في دهاليز رفيق رحلة العمر الدكتور فوزي فهمي، ولا ينبغي أن تشغلك الدهاليز وتنسيك السينمائي الرائد في طواياك المستترة. فالفيلم هو: السينما بضمير المتكلم، سرد بجزئيات ما تلتقطه الكاميرا ويعيد الوعي ترجمته في لغة قادرة علي الوصول إلي الملايين.

جريدة القاهرة في 24 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

د.صبحي شفيق يكتب عن «سحر ما فات»

السينما علي طريقة رفاعة الطهطاوي