شعار الموقع (Our Logo)

 

 

كان لاحداث الحادي عشر من ايلول العام 2001 وقعها الشديد ليس على الولايات المتحدة فحسب وانما على العالم بأكمله من هنا قام المبدع باخذ دوره الانساني في محاولة لتفسير او التشابك مع الحدث الجلل كل حسب اسلوبيته الخاصة، وكان للسينما نصيبها الوفير من الاعمال، ولئن جاءت في معظمها كما هو حال السينما الاميركية في التمجيد للحروب والدعوة لها في محاولة للانتقام للضحايا الذين سقطوا من دون اي مشقة في تناول التفاصيل العديدة التي ادت مثل هذا الزلزال الذي عصف ولا يزال بالعالم، وينال من اناس ابرياء في اركان اخرى من المعمورة دون ان يكون لهم ذنب فيما جرى.

سقت تلك المقدمة كي اشير الى فيلم «السيد ابراهيم وورود القرآن» واحد من اذكى الاعمال الفرنسية الحديثة «2003» الذي لفت انظار النقاد اليه في مهرجان فينيسيا العام الماضي وتم تكريم بطله عمر الشريف عن مجمل اعماله وقعه المخرج الفرنسي فرنسوا ديبرون وجال الكثير من المهرجانات السينمائية العالمية، ولا زال يعرض في صالات السينما العالمية بنجاح جماهيري عدا عن عروضه الخاصة في الاندية السينمائية والمناسبات التكريمية التي تقام ضمن ورش عمل وندوات خاصة تنشد التعاطي مع القضايا الساخنة بالعالم على نحو انساني محملة بالمشاعر النبيلة في كسر حمى الانتقام من الجاليات العربية او الاسلامية المهاجرة في اوروبا او الولايات المتحدة.

يستهل فيلم «السيد ابراهيم وورود القرآن» احداثه بالتعريف بالمكان الذي تسري فيه احداثه داخل حارة شعبية باريسية تعج بالحركة لاناس بسطاء مهاجرين، ونساء وحدات ينتظرن عرض المارة، ومحلات لبيع انواع البضاعة من خضار وفاكهة ومواد تموينية، وشوارع مزدحمة، مثل الغرف التي تعيش فيها العائلات المطلة على  شرفات وادراج وجلبة السوق المكتظة ومن الواضح ان فيها اقليات دينية مثل الطائفة اليهودية في زمان يكاد يكون غير هذا الزمان وانما يعود الى حقبة الخمسينات او بداية الستينات من القرن الماضي.

تختار كاميرا الفيلم ان تركز على صاحب المتجر الذي يشير اليه جيرانه بانه العربي المسلم علما انه يوضح دائما هذه المسألة لجيرانه بانه مسلم ولكنه تركي الاصل «يؤدي دوره عمر الشريف» ويكون لقاؤه اليومي مع زبون شاب على عتبة المراهقة لا يتجاوز الستة عشر عاما يعيش مع والده المرهق بعمله ليلا ونهارا والمنفصل عن والدته التي اختارت شخصا اخر وتقيم معه في مدينة  اخرى، فالفتى الذي صار زبونا دائما للسيد ابراهيم صاحب المتجر لا يتوانى بين حين واخر عن سرقة اشياء بسيطة في كل عملية شراء من المحل، وينتهز السيد ابراهيم وجود هذا الشاب كفرصة له للتواصل مع اناس الحي والحارة التي يعيش فيها ويكون خياره مع هذا الفتى اللاهي والعابث احيانا مع نساء وفتيات الحارة.

وغالبا ما يدخل الاثنان في نقاش عن العديد من المسائل التي تخص كل منهما، ويبدأ شيء من الود الذي يتعزز في كل لقاء بينهما، قبل ان تأتي الشرطة وتجد الفتى ان والده قد وجد منتحرا في احدى محطات القطارات، وتقوده هذه الوحدة للالتصاق بالسيد ابراهيم ويأخذ الفتى يكتشف شيئا فشيئا عن جاره صاحب الدكان صاحب الاخلاق الحسنة والدائم الابتسامة والذي عاش لسنين طويلة في حارتهم كمثل ونموذج للانسان المكافح والامين، ولكنه يشده الحنين دائما الى مسقط رأسه في بلدة بالجنوب التركي «ثمة اشارة بالفيلم كونه كرديا» عندما يقرر العودة الى اهله في سيارة حديثة برفقة الفتى وهناك يصاب بحادث سير ويوصي بنقل ملكية متجره الباريسي الى الفتى الذي نراه وقد ارتدى ملابس السيد ابراهيم واخذ مسلكا اخر في حياته ينشد الراحة والطمأنينة تماما مثل صاحب المتجر ويمضي وقته بقراءة القرآن ويوزع اوراق الورود الناشفة بين ثنايا سوره في دائرة من الاحداث المتعاقبة عندما يلحظ ان احد زبائنه قام باخفاء شيء من البضاعة داخل ملابسه على نحو يذكر ببدايات علاقاته الاولى مع السيد ابراهيم.

حس انساني رفيع بالقيمة والجمال يمتلكه مخرج الفيلم في اشارته الى ضرورة التواصل بين البشر والتعبير عنها بلغة سينمائية رفيعة وينجح في اضفاء الواقعية على احداثه في مرحلة زمنية سيطر بامكانياته التقنية على اجوائها بالملابس والاكسسوارات واوجد حلولا بصرية لدى محاولته تصوير انتقال بطليه من الاراضي الفرنسية الى تركيا مرورا ببلدان اليونان والبانيا عبر تسليط الكاميرا على فضاءات السماء الزرقاء وكان لشريط الصوت المليء بالموسيقى ذات الالحان والترانيم الصوفية ابعادها الجمالية المضاعفة في توكيد فكرة الفيلم الاساسية، ولم ينظر اليها كوسيلة توسل للمشاهد او مدفوعا بسحر الشرق الذي طالما اشبعتنا فيه نماذج سينمائية اخرى فارغة المضامين.

فيلم «السيد ابراهيم وورود القرآن» رؤية سينمائية بليغة ناضجة تأتي في وقتها تماما محملة بالكثير من الوان الابداع والافكار النضرة التي تدعو الى المحبة والتعاطف مع الانسان في خياراته الانسانية ومغزى وجوده في عالم مضطرب بالشكوك والاثار المدمرة وينأى بعيدا عن التعالي عليه او التقليل من موروثه الخاص الثري رغم بساطته الظاهرة والمليء بمكنونات الشرق الحضارية طارحا عنه كل القشور والصور النمطية التي اسبغتها السينما العالمية طوال حقب ماضية بانه مصدر الشرور والعنف والغباء والثراء الفاحش والذي ينوي تدمير العالم المتحضر!

الرأي الأردنية في 22 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

الفيلم الفرنسي «السيد ابراهيم وورود القرآن»:

الشرق في ابهى صوره

ناجح حسن