شعار الموقع (Our Logo)

 

 

من جديد تعيد السينما الاميركية تحقيق فيلم سبق لها ان حققته من قبل, ومن جديد تحاول ان تستعيد النجاح الذي كانت الصياغة الأولى قد حققته. والموضوع هنا يتعلق بفيلم "حول العالم في ثمانين يوماً" الذي مثله دافيد نيفن في خمسينات القرن العشرين, ويمثله "بطل الكاراتيه" في النسخة الاكثر حداثة. وربما لسنا في حاجة الى القول ان المقارنة بين النسختين لن تكون في مصلحة الجديدة بأية حال من الاحوال. ولكن ايضاً يمكن التذكير في السياق نفسه بأن المقارنة التي كانت أجريت في الماضي بين تلك النسخة القديمة وبين الرواية الاصلية التي اخذ عنها الفيلم, كانت طبعاً لمصلحة الرواية. ولعل هذا يصدق ايضاً على كل الافلام التي اقتبست سينمائياً, ثم تلفزيونياً, عن روايات ذلك الكاتب الفرنسي الشهير جول فيرن, الذي هو, كما نعرف مؤلف "حول العالم في ثمانين يوماً". ذلك ان خيال جول فيرن المدهش, وتلمسه لكل ما هو جديد في زمنه, كما توقعه لكل من سيطرأ من جديد التقنيات والاختراعات في عالم الغد, كان طاغياً على أعماله ويشكل بؤرة الاهمية الرئيسة فيها. واذ حققت العقود التالية لصدور اعماله, معظم توقعاته, فقدت تلك الاعمال حين اشتُغل عليها بأساليب فنية, غير لغوية (الصورة المتحركة هنا), جزءاً كبيراً من جدتها وطرافتها. وقد يكون من المفيد ان نفتح هنا هلالين لنذكر ان الفن السابع اهتم بروايات جول فيرن منذ زمن مبكر, اذ ان رواية لفيرن كانت من اول ما افتتح به فردينان زاكا عالمه السينمائي منذ العام 1902, اي بعد ست سنوات من ولادة فن السينما, كما ان فيلم جورج ميلياس "رحلة الى القمر" المأخوذ بدوره عن رواية لجول فيرن, كان واحداً من أروع وأول افلام الخيال العلمي في تاريخ الفن السابع.

غير ان الطريف في الامر كله هو ان جول فيرن الذي عاش ولادة فن السينما, وظل على قيد الحياة حتى العام الذي حول فيه ميلياس رحلته القمرية فيلماً سينمائياً, لم يكن قد توقع في رواياته ولادة ذلك العنف, ولا قدرته على الهيمنة, فنياً, على القرن العشرين كله. لكن هذا لا ينقص من قيمة الرجل ولا من قيمة أعماله, هو الذي اختُرعت الغواصة الأولى انطلاقً من فكرته, وكذلك تدين له ولادة عصر الطيران بالكثير. اما روايته التي نحن في صددها, فلعل في الامكان حسبانها اول رواية "عولمية" في تاريخ الانسانية, اذ فيها, واستباقاً لما سيعرفه القرن العشرين في كوزموبوليتية مدهشة, اختلطت القارات والاعراق واللغات, والعادات والثقافات في شكل لم تكن البشرية تعرفه من قبل.

نشر جول فيرن "حول العالم في ثمانين يوماً" مسلسلة اولاً في صحيفة "لو تون" (الزمان) الباريسية في العام 1873, قبل ان تنشر على الفور في كتاب, نشره وصديقه هتزل, الذي كان وقّع قبل ذلك بعشر سنوات عقداً ينص على نشر كل ما يكتبه فيرن خلال السنوات العشرين التالية. لكن القراء الذين كانوا, خلال تلك السنوات, يتلقفون ما يكتبه جول فيرن, لم ينتظروا صدور الكتاب حتى يقبلوا على قراءة الرواية, اذ منذ الحلقة الأولى, ارتفعت مبيعات الصحيفة في شكل مذهل, وصارت حكاية المغامرات التي ترويها, ومراحل الرحلة الكونية, شغل الناس الشاغل, فيما راح الصحافيون يبرقون الى صحفهم في شكل يومي باخبار حلقات الرواية واستقبال الناس لها... ويروى ان شركات السفر الكبرى راحت تتصل بجول فيرن عارضة عليه اموالاً طائلة في مقابل ان يجعل بعض ابطاله, في الرواية, يستخدمون وسائل السفر المملوكة للشركات! ويقيناً ان هذا كله أمن لجول فيرن ثراء, حيث يمكن القول ان الارباح التي حققها بفضل "حول العالم في ثمانين يوماً" تكاد توازي ما كان حققه في عشرات من الروايات التي كان نشرها قبلها.

هي عمل يقوم فيه ابطاله, او لنقل شخصياته الرئىسة, من ابطال وغير ابطال, بالسفر من قارة الى قارة ومن عالم ومن مغامرة الى مغامرة. اما الشخصية الرئيسة فهي السيد اللندني المهذب فيلياس فوغ, الذي يراهن رفاقه في النادي ذات يوم على ان في امكانه ان يقوم بسفر حول العالم في ثمانين يوماً. وهو بالفعل يصطحب تابعه الوفي "باسبارتو" وينطلق في رحلته متجهاً نحو الشرق, من دون ان يدري اول الامر ان ثمة من يطارده. ومن يطارده هذا هو شرطي لندني يريد القبض عليه اذ حامت من حوله شكوك بأنه كان قد سرق مصرفاً. طبعاً سنعرف في النهاية ان الشكوك غير صحيحة وان السيد فوغ بريء, لكن الشرطي لن يدرك هذا الا بعد ان كان قد قطع الوف الكيلومترات التي تفصل بين لندن في دورة حول العالم. المهم ان فيلياس فوغ وتابعه, يبدآن الرحلة بانتظام وقد خيل اليهما اول الامر انها ستكون مجرد نزهة... لكنهما وحتى قبل ان يبارحا فرنسا عند حدودها مع ايطاليا, يدركان خطأهما, وان الصعوبات آتية لا محالة وفي شكل يتفاقم تدريجاً. وهذه الصعوبات هي التي تشكل عنصر المغامرات الطريف والخطر في هذا النص الذي امتعت قراءته اجيالاً وأجيالاً من القراء الفرنسيين, ولكن غير الفرنسيين ايضاً, اذ نعرف ان "حول العالم في ثمانين يوماً" ترجمت الى معظم لغات الارض وقُرئت على نطاق واسع, وخصوصاً من جانب الشعوب والامم العديدة التي قيض لفيلياس فوغ وباسبارتو, والشرطي المطارد لهما, ان يمروا في ديارها. وهذا الموكب الغريب, سيزيد عدده في الهند شخصاً اضافياً هو عبارة عن الأرملة الحسناء أدل, التي اذ يصل السيد اللندني وتابعه الى ديارها, تكون قد ربطت الى كومة من الحطب لكي تحرق لتدفن مع زوجها بحسب التقاليد الهندية... لكن فوغ لا يبالي بتلك التقاليد, اذ تأخذه الشفقة على السيدة ويتمكن من انقاذها ما يضطره الى اصطحابها معه في بقية رحلته, ويشكل اعباءً اضافية بالنسبة اليه, لكنها, هي, ستكون عبئاً سعيداً, اذ للمرة الأولى سيخفق فؤاد اللندني النبيل وسينتهي الامر بهما الى الزواج. ولكن قبل ذلك كان يتعين, بعد على فوغ ان يكمل رحلته حتى يربح شرطه. لكن المسكين, تبعاً لحسبانه الديكارتي لأيام رحلته, حين يصل لندن اخيراً, وتبرأ ساحته من التهمة الظالمة, سيخيل اليه ان سعادته لم تكتمل اذ خسر شرطه, لأنه تأخر عن موعده يوماً... ولكن... لا. ذلك انه يكتشف انه حقق شرطه تماماً من دون ان يدري: ذلك ان في اتجاهه حول العالم ناحية الشرق, انما كسب يوماً كاملاً, خلال دورتة الثمانين يوماً, بحسب فارق الساعة. وهكذا يصل الى النادي في الموعد المضروب تماماً, ليجد انه ربح الشرط حقاً, اضافة الى اكتسابه حبيبة لفؤاده, واكتشافه للعالم كله وثقافاته.

عندما كتب جول فيرن (1828-1905) هذه الرواية, كان يقترب من الخمسين من عمره, وكانت شهرته قد طبقت الآفاق, اذ كان قد نشر عدداً كبيراً من اعماله الكبيرة, والتي ينتمي معظمها الى ادب الخيال العلمي, كما الى ادب المغامرات, في حس انساني تقدمي لا شك فيه. ومن أبرز اعمال فيرن "ميشال ستروغوف" و"20 ألف فرسخ تحت الماء" و"رحلات استثنائية" و"قصر في الكارابات"... ولقد كان شعاره يوماً: "ان كل ما يمكن الانسان تخيله, سيكون اناس آخرون قادرين على تحقيقه".

الحياة اللبنانية في 19 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"حول العالم في ثمانين يوماً":

العولمة في بدايات أدبية

إبراهيم العريس