شعار الموقع (Our Logo)

 

 

رحلتنا معه الى أبديته، تبدأ بصوت حزين، يخرج من عمق صورته الجامدة، يخبرنا بموته  القادم بعد ساعات، هي ساعات نهاره الأخير.  فتوماس قرر وضع حد لحياته ولم يبق أمامه سوى مسح غبار ماضيه. يبدأ مشهد الوداع الحياتي بسيارة جيب يقودها المهندس المعماري توماس وينتهي فيها، بعد جولة يوم طويل مع كل الذين عرفهم وشكلوا صورة حياته القصيرة. سيظل، النهار بطوله، متجولا بسيارته في مدينته، لا تغير فيه، سوى، طقسه ووجوه  جلاس المقعد الأمامي للسيارة.  تسعة أشخاص التقاهم  توماس  قبل موته، سيربطهم سيناريو محكم يستكمل بهم صورة حياته.  لقد حصر المخرج  الدنماركي سيمون ستاهو فيلمه بهذة المساحة/ مقعد السيارة، وأعتمد كثيرا على الحوار/ الديالوغ  لتوصيل العالم الداخلي لهذا الكائن الممزق.

فيلم طويل بكامرتين..

كاميرتان منصوبتان على جانبي السيارة هما كل ما أستخدمه المخرج. بقيتا في مكانهما، حتى في المرات القليلة التي لامست أقدام توماس ( ميكائيل بيرسبراند) الأرض. هذة التقنية تطلبت من الممثلين أداءا أستثنائيا، وخاصة من بيرسبراند الذي تعود على أدوار عالية النبرة، عنيفة، خلاف دوره الجديد الذي تطلب أيقاعا بطيئا وعميقا، حزينا وحاسما كموته. حشده  لكبار الممثلين السويديين  ساعده في توصيل فكرة فيلمه. وأعتماده عليهم نابع من تقديره  لقدرة هؤلاء على الانسجام والتفاعل مع أدوار كهذة، تقوم على القدرة التعبيرية لا الجسدية. و"نهار وليل" ليس بعيدا عن هذا العالم السينمائي السويدي، إنه أمتداد لعالم بيرغمان، طعمه طاغ  فيه. وللدقة الطعم الأسكندنافي، الباحث دوما عن جوانيات الكائن البشري والشجاع  في كشفها كان الأطغى.  

خطوات ثقيلة نحو الموت

لأجل قطيعة نهائية مع وجوده الفيزياوي  قرر توماس  التخلص والهروب من أقرب الناس اليه. أخبر الجميع أنه سيرحل الى نيويورك للعمل هناك. بوجه صارم وقاس كالحجر طرد  أبنه. وقطع صلته بعشيقته، ودع أمه وأخته ومطلقته، وهجر صديقه الحميم. في كل مرة كان يودع أحدهم، كان يقترب بخطوات ثقيلة من ليله المنتظر. لقاءان منفصلان وآنيان لا يمتان بصلة لماضيه حركتا بصيص الأمل الخاوي  في روحه المظلمه. المومس الحامل ( توفا نوفوتني)  والرجل العجوز ( هانس الفريدسون) المستخدم في أحدى المرافق الصحية العامة، أعادا الأبتسامة اليه. الأبتسامته الوحيدة التي ارتسمت على وجهه بعد أكثر من نصف ساعة على بدء الشريط. المومس الشابة رفضت  طلبه. رفضت أطلاق رصاصة الرحمة عليه مقابل منحها كل مدخوره المالي. لم ترض لنفسها  فعل القتل، وهي  تنتظر مجيء طفلها البكر. أما العجوز، فسيعثر توماس في روحه على ما يفتقده: النقاء  والسمو. لم توسخها قذارة مكان عمله، على العكس حول هذا المكان، فلسفيا، الى واحة راحة جسمانية للناس، يتخلصون فيها من قذاراتهم،  فتنظف أجسامهم وتخف أرواحهم من أعبائها. مع  فقر هذين الكائنين  ثمة غنى روحي وسعة لحب الحياة، يفتقر لهما كل من عايشهم توماس.

فردية قاتلة

"نهار وليل" يمس موضوعة الفردية والأنانية، أكثر مشاكل الفرد، في مجتمعات الرفاه، كم هي الفردية قاسية وكافية  لتمزيق روح الأنسان. حالة توماس، مثالا، رجل يملك ما يكفي من سبل النجاح، ومع هذا يقرر الانتحار لعزلته الداخلية. قد يصعب فهم هذة الحالة الوجودية حتى على أبناء هذة المجتمعات والمخرج ستاهو واحد منهم. لقد أراد ستاهو، سينمائيا، عرضها كاملة قدر المستطاع. في كل لقاء كان ستاهو يربط جزءا خاصا في كل. عندما يصعد أحدهم في السيارة، يصعد معه عالم كامل، مضطرب، ينقل جزءا مؤثرا في قرار السائق. وحتى الذين يقفون بجانب سيارته سيضغطون، أيضا، بأصابعهم على جرحه، مثل  مدرب كرة القدم ( فارس فارس). فهذا الأجنبي يداري حزنه، لفقدان حبيبته التي ماتت، بإنغماس كلي بالكرة. حديثه البسيط والحزين، عن عزله أبنه بين زملائه، لاعبي الفريق، ستعيد لتوماس معرفته بنفسه. كم كان أبا فاشلا. لم ينتبه لولده، وأي حذاء رياضي كان يحتذي، وماذا كان الأخرون يملكون.  لقد كان غارقا في أدمان كحولي وعمل جيد المرتب.

دواخل ممزقة

لقد تجنب ستاهو البحث في المكونات الخارجية لبطله وركز كثيرا على عوامه الداخليه واستخدم للتعبير عنها وسائل تعبيرية سينمية مناسبة. طيلة تجواله في المدينة كان الجو ممطرا والضباب يحجب رؤية الخارج. كان التصوير داخل كابينة السيارة تعبيرا عن ضيق حالته النفسية. ومع كل حركة ندرك ان اللحظة التي أعلن عنها الصوت قريبة ولا مناص منها. أنه المصير الوجودي للكائن الممزق الروح ولا مفر منه! لقد كتب ستاهو بنفسه سيناريو فيلمه واستطاع ان يوازن بين متطلبات التعبير السينمي والحوار الطويل. حول حركة السيارة البطيئة الى نوع  أخر من الحركة التعبيرية لدواخل توماس، وجعل المتفرج ينظر في عمق الصور. في عمق الكائن الضجر. ان تسريب حالة الضجر، أي نقل عدوى حالة الممثل الى جمهوره،  كانت من المهمات العسيرة على ستاهو تحقيقها. لكنه نجح في ذلك، وهذا ما سيضع  "نهار وليل"  بين الأفلام المهمة.  كما سيشار الى كل ممثليه وبينهم اللبناني فارس فارس كمبدعين من الوزن الثقيل يجددون حضور السينما الاسكندنافية عالميا.

أسم الفيلم: نهار وليل

أخراج: سيمون ستاهو

الممثلون: ميكائيل بيرسبراند، ميشيل نيكفيست، فارس فارس، لينا أندريه، توفا نوفوتني، ماريا يورانزون،سام كاسيل، ماريا بونيفيه،هانس الفريدسون.

أنتاج: دنماركي سويدي مشترك،2004

موقع "إيلاف" في 20 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

رحلة يوم طويل.. نحو الأبدية

ستوكهولم/ قيس قاسم