قبل الولوج إلى التفاصيل الدقيقة لفيلم " المنعطف " من إخراج جعفر علي، وتمثيل يوسف العاني، طعمة التميمي، سامي عبد الحميد، سميرة أسعد، سعاد عبد الله، زكية خليفة وآخرين، لابد من التوقف عند رواية " خمسة أصوات " للكاتب الروائي غائب طعمة فرمان التي أعدّها كل من الشاعر والسينارست صادق الصائغ ونجيب عربو وحوّلاها إلى سيناريو فيلم حمل اسم " المنعطف " الذي أُنجز عام 1975 بينما رواية غائب كانت قد صدرت عام 1967، وهي تتحدث عن حقبة الخمسينات من القرن الماضي. ومن الطبيعي أن يضفي مُعِّد النص لمساته الفنية على المادة الخام، ويطوّعها بما يخدم الفيلم بوصفه نصاً بصرياً. يا ترى إلى أي مدى استطاع المُعِّدان أن يحافظا على روح النص وأمانته العلمية على الأقل من الناحية التاريخية، والالتزام بالأبعاد الفكرية لكاتب النص، وعدم " تجييرها " لمصلحة حزب سياسي محدد حتى وإن كان وطنياً. فالمعروف عن غائب طعمة فرمان، وهو الروائي " الأكثر شهرة، والأوسع انتشاراً في صفوف قراء عراقيين من مختلف الاتجاهات السياسية رغم الإرهاب الفكري آنذاك " كما يذهب د. زهير شليبه في مقاله الموسوم " الإخلاص للنص الإبداعي وحده ". وحقيقة الأمر أن فرمان ليس شيوعياً، ولم يكن لسان حزب سياسي معين، بل كان يسارياً، وديمقراطياً، ووطنياً بامتياز، والأهم من كل ذلك أنه كان يكتب نصاً إبداعياً يتوافر على شروط نجاحه الفني الأمر الذي أكسبه مزيداً من القراء في الوسط الثقافي العراقي الذي يتألف من أغلبية يسارية متفتحة. ومما لاشك فيه أن عمله كمحرر في صحيفة الأهالي الناطقة بلسان الحزب الديمقراطي الوطني قد أكسبه خبرة واسعة وعميقة بالمحمولات السياسية والاجتماعية والثقافية لمختلف شرائح المجتمع العراقي، خاصة وأن الصحيفة قد أسندت إليه باب الرد على رسائل القرّاء وأسئلتهم الشائكة. نخلص إلى القول بأن فرمان لم يكن متحزباً لتنظيم سياسي معين، كما لم يكن بوق دعاية لهذه الجهة السياسية أو تلك، وأن وجود بعض الشخصيات المتحزبة في أعماله الروائية ليس دليلاُ دامغاً على شيوعيته، وحتى في " خمسة أصوات " لا تطل علينا أية شخصية شيوعية متحزبة باستثناء " محسن " السجين السياسي الشيوعي الذي نعرفه من خلال رسائله إلى الصحفي " سعيد ". المشكلة في إعداد هذا النص الروائي الذي يعالج الاشكالات السياسية والاجتماعية والثقافية في فترة الخمسينات قد رُحِلت دلالته الفكرية لأسباب دعائية محضة، وإلا فما هو الداعي لأن يستهل المخرج فيلمه بخطاب مباشر للرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر وهو يعلن تأميم عمليات شركات نفط العراق المحدودة في الأول من حزيران عام 1972؟ هل تعرّض مُعِّدا النص إلى ضغوط سياسية، أو ابتزاز فكري من قبل أزلام النظام السابق بحيث وافقا على زج هذا المفتتح الفج لرواية تعالج هماً وطنياً لا يناسب عملاء، مكشوفين مثل أدعياء النظام البائد؟ لاشك في أن هناك " ترغيباً وترهيباً " نعرفه " نحن العراقيين على وجه التحديد " ولكنه أفضى بالنتيجة إلى تزوير حقيقة تاريخية ربما تمر على " غير المُدققين " من الأجيال اللاحقة، أو أنهم لصقوا هذه المقدمة الزائدة كي يمرروا هذا الفيلم من دون التعرّض إلى متاعب ومنغصات قد تحول دون ظهور هذا الفيلم إلى الوجود. البنية البوليفونية تعتمد رواية " خمسة أصوات " على بنية بوليفونية، أو على تعدد الأصوات كما هو الحال في البناء السمفوني بحيث يمثل كل صوت شريحة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو دينية أو أسطورية، وبالتأكيد سوف يكون العمل الفني أكثر ثراءً كلما تعددت الأصوات وازدادت، وتعمّقت رموزها ومدلولاتها. في فيلم " المنعطف " ثمة تركيز واضح على ثلاث شخصيات رجالية يعملون في صحيفة " الناس " وهم سعيد " طعمة التميمي " الكاتب المميز الذي يكتب عن قضايا الناس العامة، وشريف " يوسف العاني " الشاعر والموظف في صحيفة الناس، ونبيل بيك الشاب الغني، الميسور الحال، وفي دائرة أخرى نكتشف حميد " سامي عبد الحميد " الموظف الذي يعشق زميلته سلمى، وشخصيتين نسويتين وهما سلمى " سعاد عبد الله " الموظفة التي تقع في حب " حميد " وتتخلى عنه لاحقاً عندما تكتشف أنه متزوج، وأم هناء " سمر محمد " زوجة حميد وأم لعدة أطفال مرضى. وهناك شخصيات أخرى لعبت أدواراً ثانوية مهمة هي الأخرى ستار " عبد الجبار كاظم " وأبو سعيد " عبد الجبار عباس " وأم سعيد " زكية خليفة " فضلاً عن أدوار الفنانات غزوة الخالدي ونادية فرج، وسحر فاضل، وهدير فاضل، والفنانين نائل جواد، ومحمد حسين جواد، وأزهر جواد، وسمير حنا، ومحمد فائق شكري وآخرين. يبدو أن فرمان مولع بعالم الصحافة لهذا نرى أن أغلب الأحداث كانت تدور في مبنى صحيفة " الناس " وهي صحيفة يومية سياسية عامة لم يُرد فرمان أن يؤطرها بإطار سياسي محدد، بل اكتفى بالتلميح إلى أنها صحيفة تُعنى بهموم المواطن العراقي، وأن الشخصية الأكثر ثراءً في النص وفي الفيلم هي شخصية سعيد الذي يكتب عن المشاكل الحساسة التي يعاني منها العراقيون بكل أطيافهم، ومع ذلك فإن الحرفة الفنية لكاتب النص الروائي هي التي دفعته لاعتماد المفارقة التي زادت من عامل التشويق، فحينما يستلم سعيد عدداً من الرسائل الموقعة من قبل " المخلصة نجاة " ينتبه للهاجس العاطفي الموجود لديه كما هو موجود لدى أغلب الناس، فتتحرك مشاعره تجاه هذه المعجبة، بل أنه يصبح مثاراً للتندر والقيل والقال في مقر الصحيفة، وحينما يقرر الذهاب إلى العنوان المدوّن في أسفل الرسالة يصاب بالذهول وهو يرى أماً مدمرة لديها طفلة مريضة تعاني من ورم في ساقها، وقد سبق لها أن فُجعت بابنها البكر جراء المرض، وعدم قدرتها على توفير الدواء، ثم نكتشف أن زوجها هو صديق حميم لسعيد، يسهر معه كل ليلة تقريباً، وهذا الصديق هو " حميد " العاشق المتيم الذي يرتبط بقصة حب غرامية مع سلمى الموظفة في نفس الدائرة، لكن هذه الأخيرة ترفضه في نهاية المطاف عندما تكتشف أنه متزوج، ولديه أطفال لكنه يعتبر هذه الزيجة من مخلفات الأب الذي أجبره على الزواج وهو صغير، فالآباء، على حد قوله يأكلون الحصرم، والأبناء يضرسون " لقد أخفى حميد حكاية زواجه حتى عن أقرب الأصدقاء لديه، وكان يردد بأنه يريد أن يبقى أعزباً، حراً مثل الطير. أما الشخصية الثالثة فهي شخصية " شريف " الشاعر، والمصحح، الذي لا يكف عن كتابة قصائد الحب والغزل سواء عن سلمى الموظفة الجميلة التي تنتظر فارس أحلامها أو عن بقية الفتيات الحسان. لاشك في أن هذه الشخصية وجودية، وتعيش في الحلم أكثر مما تعيش في الواقع بحيث أنه يرتضي بالزواج من مومس ليذكرنا بمفهوم " المومس التائبة " التي أشبعت بحثاً ومعالجة في السينما العالمية أو المصرية على وجه التحديد. غير أن " شريف " يموت في نهاية المطاف ميتة مشرفة وهو يبحث عن زميلة " سعيد " الذي خرج ولم يعد بحيث بدأت أمه تخشى عليه من السجن أو التعرض لطلقة طائشة في المظاهرات التي كانت تنطلق آنذاك بعد الفساد الإداري الذي عمّ بغداد، والاحباطات التي أصابت شرائح واسعة من الشعب العراقي. وهناك شخصيات لعبت أدواراً ثانوية لكنها أثثت البنية الروائية، وعمّقت من الأصوات البوليفونية، فستار، عامل النفط الذي قاد العديد من التظاهرات، ولعب دوراً ثورياً مهماً في الفيلم، كما ساهم بقدر كبير في الكشف عن شخصية " حميد " المزيفة من خلال الرسائل التي كان يكتبها لسعيد باسم مستعار " نجاة " واستدرجه إلى منزل أم هناء كي يكشف كل أوراق حميد، ويعري شخصيته المزيفة، لكن هذا الأخير يعود إلى رشده بعد أن يكتشف صدق سعيد وستار اللذين جلبا ابنته المريضة للمستشفى وأنقذاها من موت محقق. كما ينبغي ألا ننسى شخصية نبيل بيك، الشاب الثري، الذي يسكر يومياً مع أصدقائه الثلاثة، ويستعرض أمامهم ثرائه الفاحش، فأبوه كان وزيراً سابقاً، وقد خلّف له ثروة طائلة، وهو يقف بالنقيض تماماً من شخصية شريف الشاعر الوجودي الذي يلّقب ببودلير. ومن خلال هذه الشخصية البودليرية يدين فرمان الوضع السياسي، والاجتماعي، والثقافي للعراق إبان الخمسينات. فهذا الشاعر يبني قصوراً في الهواء، إذ ذاق طعم الجوع، وسكن في فنادق الدرجة الرابعة، وتجوّل في كل أزقة بغداد وحاراتها، وعاش حياة شهريارية، وأحب أجمل فنانة في بغداد، وهو يسكن الآن في مبنى الصحيفة التي يعتبرها بيته وملاذه الأول والأخير. من خلال هذه الشخصية يعبّر فرمان عن الواقع العراقي ويدينه في الوقت ذاته، فعلى لسان شريف نكتشف أن الإنسان في العراق يشبه حصاة ثابتة على جرف الشاطئ، بينما النهر يسافر حراً طليقاً لا تعترضه حدود أو نقاط تفتيش، وعلى حد قوله " تمهلوا فأنني الزمان / أريد أن أمر في سكون / عبر بلاد الخوف والشجون / لا تُفتح العيون / فكل شيء في ربى السلام / ينوح في الظلام. " ثم يوغل شريف في عدمية حياته، فهو بلا بحر، وبلا قاع، وبلا مدينة، وبلا امرأة، بل أينما تلفت فهناك محض خراب في خراب، يذكرّنا بمقولة كفافي " إن خرّبت حياتك هنا، فهي خراب أينما حللت. " لاشك في أن يوسف العاني يتمتع بقدرات فنية فذة على صعيد التمثيل، وقد تألق بالفعل في هذا الدور المُسند إليه، وأجاده، وأبدع فيه، ولعل المشهد الأخير هو مثال ناصع لذروة تألقه، حينما يُضرب من قبل العسكر بهراوة على مؤخرة رأسه، ويظل يدور، ويدور دائخاً " كما لو أنه منتشياً بلذة الموت " وأنا أعتبر هذا المشهد من أجمل المشاهد التي أداها يوسف العاني على الإطلاق في قدرته على صدم المتلقي، وشده إليه. لقد انتزع أبصارنا من محاجرها وقد أخذته سَوْرة التحليق التي أفضت به إلى تلقي رصاصات الموت التي أسقطه أرضاً ليرسم صورة إنسان مصلوب على الأرض، ثم يكتمل المشهد حينما يحمله زميله سعيد بين يديه لتنطلق المظاهرة الجامحة التي سجلت منعطفاً مهماً في حياة العراقيين، لكن ما أضعف هذا الدور الرائع هو سذاجة بعض القصائد التي كان يكتبها شريف، أو يتلوها على سمع سلمى أو بقية أصدقائه. لنقرأ القصيدة التالية " حاجبها وتر/ وجنتها قمر / وعنقها نهر / يجري به الحليب الأخضر! يا ترى ما معنى الحليب الأخضر، وما الذي دفعه لهذه الصياغة الممجوجة سوى اللهاث الأبله وراء القافية أو تسجيع الكلام؟ لنقرأ النص التالي الذي يقع في دائرة النظم الساذج الذي يخلو من أية صورة شعرية تذكر " فكل شيء فيك يا سيدتي جميل / في منتهى الجمال / وشعرك الغزير بيدر ريش أسود / تنام في مفرقه الطيور / وثغرك الصغير علبة حلقوم على شفاهنا تذوب. " ولو أغفلنا ( شعرها الغزير الذي يشبه بيدر ريش أسود ) فماذا ترانا قائلين في ( ثغرها الصغير الذي يشبه علبة حلقوم! "؟ الصوت الثاني الذي كان يحلّق عالياً ليس في مضامين كلامه حسب، وإنما في تألقه الأدائي هو صوت سعيد " طعمة التميمي " الذي استطاع أن يشدنا بعفويته، وتمكنه، وقدرته التعبيرية في أداء أدوار مختلفة يغلب عليها طابع الصرامة حينما، أو الظرف حيناً آخر. أما " حميد " سامي عبد الحميد فقد كان أداءه رتيباً، لا تنويع فيه بالرغم من أن الدور المناط به كان ثرياً، ومتنوعاً، وملتبساً، هذا ناهيك عن علاقته العاطفية بسلمى والتي كانت تتيح له عبر القبل الطوال والمداعبات الحسية التي كان يُفترض أن تفجّر طاقاته الفنية الكامنة. أما سعاد عبد الله، وهي مطربة فجة، استطاعت أن تؤدي دوراً مقنعاً، ويبدو أن قدراتها التمثيلية أكبر بما لا يقاس بقدراتها الغنائية السمجة. حاول الفيلم أن يسلط الضوء على الوضع السياسي الذي كان يعيشه العراقيون في الخمسينات من القرن الماضي، وأرادوا الإيحاء بأن البرلمان مزيف، والانتخابات مزيفة، لكن الثورة قادمة والتغيير لابد أن يحصل على أيدي الفقراء والمظلومين. وجدير ذكره أن السمة الشعبية الطاغية على أبطال فرمان هي التي ساعدت مخرج الفيلم على أن يوزع البطولة الجماعية على ثلاث شخصيات رئيسة، وينقذنا من محنة البطل الواحد، ولو دققنا جيداً في الخلفية الاجتماعية لهذه الشخصيات لوجدناها تنتمي إلى الطبقتين المتوسطة والفقيرة باستثناء " نبيل بيك " الموظف الثري، وهو ابن لوزير سابق، وقد همّشه الروائي، ومنحه دوراً لا نكهة فيه سوى التبجح، والتعالي على الآخرين. أما البطولة الحقيقية فقد كانت لأبناء المحلات الشعبية البغدادية مثل الصحفي سعيد، والموظف حميد، وحتى للمشردين الذين لا مأوى لهم مثل الشاعر شريف الذي ينام في مبنى صحيفة " الناس ". إن ما يميز هذا الفيلم هو الحرفية العالية لأغلب كوادره بدءاً بالمخرج، مروراً بالممثلين، وانتهاءً بالتقنيين. وكما هو معروف فإن المخرج جعفر علي " 1933 " قد تلقى تعليمه في جامعة " أيوا " الأمريكية، وتخرج منها عام 1961 بعد نال شهادة الماجستير في السينما والتلفزيون، وسبق له أن درس الأدب الإنكليزي في جامعة بغداد، وتخرّج منها عام 1956. وفي عام 1965 كُلف من قبل مصلحة السينما والمسرح بإخراج فيلم " الجابي " الذي كتب قصته، وحواره، ووضع له السيناريو، ومَنْتجه، " وبذلك يكون جعفر علي مُحققاً أول فيلم روائي ينتجه القطاع العام في العراق " كما يذهب أحمد فياض المفرجي في كتابه " فنانو السينما في العراق ". وفي آذار 1975 عُرض فيلم" المنعطف " في العراق، ثم تواصلت عروضه في عدد من المهرجانات الدولية ولعل أبرزها مشاركته في مهرجان موسكو السينمائي التاسع عام 1975. أغلب الممثلين في هذا الفيلم هم محترفون، وبعضهم من رواد الحركة الفنية المسرحية والسينمائية في العراق بجيليها الأول والثاني مثل يوسف العاني، وسامي عبد الحميد، وطعمة التميمي، وعبد الجبار عباس، وزكية خليفة، وسميرة أسعد، وسمر محمد، وغزوة الخالدي. ومن التقنيين نذكر مدير التصوير نهاد علي، وهو غني التعريف، والماكيير يوسف سلمان، والمونتاج لصاحب حداد. ويجب ألا ننسى دور صادق الصائغ ونجيب عربو اللذين أعدا القصة، ووضعا حوار وسيناريو الفيلم بالرغم من الإشكالات الدعائية التي حرفت مسار الفيلم، وزحزحته في الاتجاه الذي لم يخدم مؤلف النص الأصلي غائب طعمة فرمان. جريدة العرب في 19 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
باريس/ عدنان حسين أحمد |
|