لم اذهب الي سينما القصبة لحضور فيلم العطش لتوفيق ابو وائل مدفوعا برغبة مشاهدة فيلم شهير حاز علي جوائز عالمية، فلم اعد اسقط كعادتي منذ زمن في مصيدة الاعجاب بالفيلم الفائز بجوائز عالمية، لمجرد كونه فاز بهذه الجوائز، صار الموضوع معكوسا بالنسبة لي، صرت اتعمد حضور افلام غير شهيرة، بمعني غير منظر لها وغير محتفي بها، علني اثبت لنفسي نظرية دور موضوع الفيلم و الاعلام والسياسة والمال، في انجاح افلام معينة، لم يثبت نضجها، يقترب الموضوع من موضوعة اعجابنا وتلهفنا الكبير علي اعمال ادباء حصلوا لتوهم علي نوبل، وكأن نوبل صارت بوصلة للرديء والجيد، في حين نهمل هذه الاعمال قبل فوزها. هذه المرة اختلف الدافع، ذهبت الي عطش وائل بدافع رؤية عمل مختلف قال عنه صديقي المبدع صبحي الزبيدي انه عمل خارج عن التصورات اليابسة، ولاني اثق برؤية صبحي وابداعه وطريقته في التفكير ولأني اعرفه جيدا فهو ابن مخيمي (الجلزون)، ذهبت الي العطش باحثا عن الارتواء، بعد ان مللت الزعيق والشعارات، والاساليب نفسها في تصوير عذابنا وحصارنا، ذهبت لنرانا من الداخل، نحن الذين نخفي عارنا وقبحنا وتفاهاتنا، نحن الذين نتحمل قسطا كبيرا من هزيمتنا القومية، بسبب تخلف تفكيرنا، وجبن روحنا، لم نر جنودا في الفيلم، يركضون خلف اطفال، لم نر هتافات وحجارة، رأينا الحجارة التي حطم بها الاب ماسورته، رغبة في ان يقتله ابنه، لم نر احتلالا، رأينا صراخ الزوجة علي ابنتها الهاربة، (ارجعي يا جميلة يما) حطمتني هذه الصيحات، وأسالت دمعي في ظلام القصبة، تخيلت هذه المرأة العربية الفلاحة وكأنها تنادي علي العدالة، والقوة والجمال، الغائبين في غياهب عفننا الداخلي، لم نر انفسنا، بنفس تلك الرؤي القديمة، وزوايا النظر المكرورة، رأينا احتلال التخلف لجسمنا ودمنا وعظمنا، ورأينا كيف يعيق هذا التخلف مجري حياتنا ويحولها الي هامش وجنون وعذاب وفقر روحي فظيع، لم يقل عطش وائل ابو توفيق ما اراد قوله بثرثرة او تحريض، قاله بصور وملامح وجوه صامتة غالبا. قاله بذكاء وتقشف وايحاءات غاية في الجمال، فحين قطع الاب اعناق الطيور امام ولده المرتبك، قرأنا في ملامح ولده الاستنكار الصامت والخوف المحبوس غير القادر علي الافصاح عن نفسه، زرقاوي الطيور هذا الاب المسكين، يقطع رقاب الطيور، بشجاعة كبيرة ودون ان يرمش له جفن، في الوقت الذي لا يستطيع ان يواجه فيه كلام واشاعات سكان القرية التي هرب منها، كان للمكان الذي جري احداث الفيلم فيه او عليه، طاقة كبيرة، علي البوح و الكلام الصامت، والافصاح عن واقع مرير انساني، وعن هزيمة نهائية وسحق كامل، الجبل فلسطيني مصادر بدأ وكأنه استسلم للواقع وصار قانعا بالآتي المرعب وشاهدا صامتا علي موت مستمر، وكرامة مدفونة تماما مثل الاب المنكوب بفقدان ارضه وفقدان عقله وشجاعته، وضميره، كان يعكس بملامحه الخشنة والعدوانية المهزومة والتشوه الذهني والنفسي الداخلي المستفحل منذ زمن طويل عبر اجيال عديدة ضياع هذه الامة، في متاهات امراضها وقيمها البلاستيكية. بين مقصلتين داميتين، عاش الاب المجنون، الضحية الجميلة والقبيحة مع عائلته التي لا حول ولا قوة لها، طيلة احداث الفيلم، الجنود من جهة والقرية من جهة، لكنه كان يفضل ان يموت ويطرد مرة اخري، من جبله المصادر والمحرم عليه الي جبل اخر، علي ان يعود الي قريته، التي تنتظره بسكاكين الفضيحة المجلجلة، جنود الاحتلال لم يذلوا ا العائلة في حياة تشبه حياة الحيوانات كانت لديهم قرية يعيشون فيها بكرامة، صحيح انهم يعيشون حياة ذل بالمعني القومي العام، ولكن الاب اذل عائلته واذل نفسه بنفسه، هربا من فضيحة، وكلام ناس لا ينتهي، حسنا فعل وائل حين ورط الاب والعائلة في مهنة تبدو وكأنها معادل موضوعي للذل والتشوه والعار والعذاب، صناعة الفحم، حيث النار المشتعلة دائما، والوجوه الملوثة بالسواد، والملابس المتسخة، انه الذل والعار في اوضح صورهما، اما الماسورة فكانت محاولة من الاب لرتق هذا العار بحديد محصن من التمزق، وهو لم يعرف ان كلام القرية يهدر في جوف الماسوة كما يهدر في اعماقه، تماما. لا استطيع ان اصدق ان الممثلين في الفيلم، هم ممثلون، لا يمكن ان اصدق ذلك، بالتأكيد هم ابطال الحكاية نفسها، تجسس وائل عليهم دون ان يدروا، بكاميراته الخفية، التي زرعها سرا اثناء غياب مؤقت للعائلة، زرعها في سطوح الغرف وتحت حجارة الجبل، وفوق اغصان الشجر المجاور، وفي داخل اكوام الفحم المشتعل. لا ادري لماذا احسست اني اشاهد تقلصات وجه امي وحيرتها وألمها المقهور، حين كانت تتوسل للاب بان يفرح بناته قليلا في العيد، او حين كانت تبكي وهي تحاول ان تدخل كأس ماء لابنتها المحبوسة، الاب كان يجب ان يموت، هو كان يعرف ذلك، كان يعرف انه قاس جدا ومجنون وجبان، اختار الاب ميتة جميلة ودافئة، ميتة بسيطة وســـريعة، علي يد ابنه الذي كان يحرس الماسورة، عاقب الاب نفســـــه بموت عبثي وغريب، وكأنه كان يقول، ان اموت علي يد ابني افضل من ان اموت علي يد قريتي، لكنه لا يعرف في لاوعيـــه ان القرية بنهجها وقدمها ويباس روحها هي التي قتلته، القرية التي يحمل هويتها ورائحتها، التي كان يمكن ان يكون احد مطلقي ومجرمي الاشاعات فيها لو حدثت الواقعة مع شخص اخر. كلنا نحمل قرانا في داخلنا، قرانا المجرمة والمسكينة، المتورطة في ضيق الافق والذهن والروح، وهي لا تدري. لم اخرج من الفليم مرتويا كما توقعت، زاد عطش توفيق عطشي للتغيير، ورفض القبح، لكني ارتويت من عطش فني كان يأكلني كلما شاهدت فيلماً تقليديا، يكرس الجفاف، ويعمق الاكاذيب. عزيزي توفيق: اريد ان ابوح لك بسر، ارجوك لا تفشه لاحد، لقد صادفت جميلة الهاربة مختبئة في زقاق مخيمي مساء هذا اليوم اثناء عودتي الي البيت، كانت حزينة جدا وخائفة، وحين سألتها ألن تعودي الي البيت ؟؟، فالدنيا برد هذا المساء فالعائلة بانتظارك وامك خائفة عليك، اجابتني مصعوقة : من انت ؟ من انت ؟؟ لم استطع ان اجيبها، فهربت من امامها مبتعدا وضائعا في ليل رام الله القتيل، هي لا تعرف بموضوع الكاميرات السرية، لا تعرف، وانا لم ارد ان افشي سرك. توفيق : كم احبك، كم احبك ايها الفلسطيني الجميل، لانك تجسست بأمانة وصدق ووفاء علي فضائحنا، كشفت مستورنا، وأريتنا بشاعتنا، كم نحن بحاجة للتحديق في مرايا داخلنا، علنا نخجل، قليلا، فقط لو نخجل قليلا، لا اكثر ولا اقل.
القدس العربي في 18 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
حين روي عطش توفيق عطشي: تأملات في فيلم فلسطيني لذيذ ومؤلم زياد خداش * |
|