يشارك المخرج والروائي الفرنسي الان روب غرييه في فعاليات مهرجان الاسكندرية الدولي لهذه السنة خلال الشهر المقبل، حيث سيجري احتفاء خاص بالسينمائي صاحب «الرواية الجديدة» التي اشبعها تنظيراً وكتابة وتعريفا بمقالات مطولة، مما قاده الى شهرة عالمية وزاد شهرة وحضورا دوليين دخوله في المجال السينمائي باسلوبية جديدة ايضا تقف على نقيض ما يقوم به زملاء له في الابداع كانوا قد اختاروا السينما وسيلة للتعبير. جاءت اهمية اعمال الان روب غرييه السينمائية بتنافر غريب عما عرض به كأديب للرواية، الذي يتبع فيها اسلوبية متفجرة عن الصناعة السائدة في السينما العالمية، والفرنسية تحديدا التي اشبعها مخرجوها بالمدارس والتيارات التنويرية والتحديثية والمختلفة عن النماذج المنفردة التي حققها اقطاب ورواد الموجة الفرنسية الجديدة: جان لوك غودار، فرنسوا تروفو، ايريك رومر. اتجه الان روب غرييه بافلامه القليلة الى محطات واماكن وازمان غير متداولة في السينما سعى فيها الى ابلاغ تصوراته الظلالية والتمثيلية للكينونة الانسانية المتناقضة بتفاصيل الحياة والملتبسة مع الواقع ولطالما وصف البعض من النقاد افلامه بالغرابة، والتمرد على القواعد الراسخة والمثقلة بالوان من المقاييس المعقدة على جوانبب العمل السينمائي برمته من الصورة، والصوت، والممثلين بحيث تجيء تلك الافلام «الشخصية» مناسبة للتعبير عن رؤيته الذاتية للعالم، لاكتشاف نفسه، واكتشاف ما يدور حوله بالاحرى، انه باختصار اكتشاف العلامات الدالة على قيمة ما يعايشه بالواقع دون ان يسلك دروب الواقعية وتياراتها الادبية والفنية. ذلك هو جوهر العمل السينمائي الذي لم يأت طبقا للتخطيط المسبق الذي يعتمد على دراسة العلاقة بين المنتج والسوق الاستهلاكية، لكنه نتاج التجربة الذاتية للمبدع وخبرته الخاصة بالحياة هواجسه، احلامه، وكوابيسه، طموحاته وانكساراته، وفهمه الدقيق لوظيفة الفيلم بغية وصف لحظات المرح والاسى، والغضب والسعادة والهزيمة بآن واحد. يأخذ العديد من النقاد على الان روب صاحب سيناريو فيلم «العام الماضي في مارينباد» الذي اخرجه الان رينيه العام 1961 انه كما في اعماله الادبية الروائية يلجأ غالبا الى الغموض والثقافوية المفرطة والمبالغة التعبيرية، ويواجه مثل تلك الاتهامات بمقولة لزميله الشاعر والسينمائي جان كوكتو «الفن ليس الوسيلة المعقدة لقول اشياء بسيطة، بل الطريقة الاسهل للتعبير عن امور اشد تعقيدا». ولقد تعرض كثير من النقاد ومن بينهم نقاد عرب لافلام غربية بالتحليل واحتاروا في تصنيفها عندما كان البعض منهم يتجه في احكامه عن نظرة جاهزة، وثابتة على انه سينمائي متخصص بالزمن والذاكرة وحقيقة الامر ان غرييه ينظر باستخفاف الى تلك النتائج فلا اثر في افلامه او في رواياته للماضي، او المستقبل بل نحن ازاء زمن حاضر على الدوام. وعلى نسق هذا يتبدى للمشاهد لافلامه انه ضد التحليل النفسي في افلامه ولا تحمل شخوصه ابعادا نفسية كونه جزءا من الايديولوجية الواقعية التي تختصر كل شيء الى دلالات مفهومة وعلى هذا الاساس يرى وظيفة الفن بانها تعبير يخلق اشكالا ذات صلة بالواقع البشري وطالما ان هذا الواقع غير قابل للتفسير فان الاشكال التي تعالجه هي بدورها غير مفسرة فالعمل الفني بالنتيجة غير قابل للتفسير، انه شيء موجود. ولا يكتسي عالم روب غرييه الرداء الانساني، لكنه يسعى اليه بعيون بشرية، دون ان يقدم راوي افلامه بايراد ذلك صراحة، نظرا لما كان هذا العالم المثقل بقيوده وجبروته ونهمه قد فرض سطوته على مناحي الحياة الانسانية وقام بتشويهه على نحو غرائري بالجريمة، حتى كاد ان يمحو الفوارق بين الحقيقة والخيال. وانخرط بالسينما مدفوعا بنظرته الى العمل الادبي التي جسدها بمقولة «الرواية الجديدة» التي تقف على نقيض كل القامات الابداعية في القرن السابق وما قبله، واطلق صرخته باعمال روائية وافلام سينمائية مليئة بنظرته العميقة الى الوجود. يرى الان روب غرييه، صاحب روايات: «البصاص» 1955، «الغيرة» 1956، «في التيه» 1959، وجميعها اعمال ادبية فريدة اثارت جدلا وصخبا وسجالات نقدية في ارجاء المعمورة قبل ان يتجه الى السينما العام 1961 عندما كتب كما اشرنا لسيناريو فيلم «العام الماضي في مارينباد» ان كتابة الرواية وصناعة الافلام عملات منفصلان ولكن احداها تكمل الاخرى فالرواية تنجز في اجواء من ا لوحدة والتأمل الذاتي والخصوصية، بينما الفيلم السينمائي هو عمل جماعي يقوده مخرج في اجواء من الابهار والاقتحام لأمكنة واشخاص والضجيج الاعلامي. ومع ذلك فان اعماله الادبية بشكل او باخر تعبر بوضوح عن اهتمامه وحرصه بان تكون بمثابة مقدمات اولية في انجاز افلامه التي ابتدأ في تحقيقها بفيلم «الخالدة» 1963 بوصفه مخرجا، وفيه يحاكي الصورة المعهودة للشرق وعوالمه العمرانية والبشرية الشديدة الغموض، في حين يتناول بفيلمه «القطار السريع عبر اوروبا» الدور الذي يضطلع به المؤلف نفسه ازاء ابداعاته، اما فيلم «الرجل الذي يكذب» فموضوعه المتاهة التي قدمها بعمله الادبي المعنون بذات الاسم، لكن ابرز ما بفيلمه التالي «عدنا وما بعدها» هو الالوان واستخداماتها، ويعرج على الاشياء وتوظيف مفرداتها بفيلم «منزلقات اللذة المتدرجة»، وفي فيلم «اللعب بالنار» يحفل باجواء اقتناص اللقاءات الغرامية، وكما يشير كثير من نقاد السينما العالميين فان جميع اعماله السينمائية تحفل بالكثير من المشاهد الحميمة، والعنف والجريمة وهي عناصر يغلفها سرد روائي ذو تراكيب معقدة، فهو يستطيع الطلب من تقني المؤثرات ان يصنع صوتا مخالفا لوقع خطوات شخص يسير، او العكس فانه امر مقصود، ولا تشده دائما الموسيقى التصويرية في اعماله وهو على قناعة تامة بان الفيلم صوت وصورة وينبغي اعارة كل مفردة عن اللغة السينمائية التي يوظفها بافلامه الاهتمام اللائق في بناء الفيلم. رافق «غرييه» الموجة الفرنسية «في خروجها من الاستديوهات الى الاماكن والديكورات الطبيعية فهو كثيرا ما يتعايش مع الامكنة التي يبغي تصويرها وفي احيان اخرى يلجأ الى الديكورات في الاستوديو ويجري تفاهما وتناغما مع مصممي مناظر افلامه. لا يتردد غرييه في التأكيد ان اهم ما تتسم به الصورة السينمائية هو انها في الحاضر على الدوام، وان صادف ان قدّم احداثا تعود الى الوراء فهو يلجأ الى تنبيه المشاهد ان هناك (فلاش باك) قادما، ويدعوه الى تهيئة نفسه لتلقي الحدث. تحفل افلام غرييه بالكثير من الصور الفوتوغرافية والبطاقات البريدية مثلما تحفل بالمرايا والالواح والانعكاسات، اضف الى ذلك ان كثيرا من عناصر افلامه يعتريها التشوه والتحول تحت ضغوط العاطفة نظرا لتكرار الاحداث او وقوعها مصادفة. فيلما بعد فيلم تتأكد قيمة غرييه كمبدع سينمائي من طراز عالمي مختلف يواجه السائد بفرادته ورغبته الحارة في مناقشة قضايا مسكوت عنها ويراها شديدة الالتصاق بالواقع لا بالواقعية. الرأي الأردنية في 16 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
السينمائي والروائي الفرنسي الان روب غرييه: الغموض في مواجهة انكشاف الواقع عمان/ ناجح حسن |
|