مع دخول العالم في عصر نظام الكمبيوتر الرقمي بدأ يشيع استخدام مصطلح جديد هو “الواقع الافتراضي”. وقد أثارت حلقة تلفزيونية، شارك فيها عدد من المفكرين إلى جانب مجموعة من المتخصصين في مجال الكمبيوتر، دارت حول السينما والواقع الافتراضي المتحقق في السينما في أوضح أشكاله لاستفادتها من أحداث تقنيات الكمبيوتر في حقل صناعة الأفلام، إشكالية خطيرة، تتجاوز عالم السينما الفني نحو ما تقدمه السينما من فكر وما تؤسس له من مفاهيم، إشكالية ناتجة عن الامكانات الكامنة في أجهزة الكمبيوتر الحديثة وآفاقها، تتعلق بقدرة الكمبيوتر على إلغاء الواقع المادي وبالتالي احتمالات الوصول إلى الحقيقة، والاستغناء عن الواقع المادي عن طريق خلقه بدلا منه، واقعا افتراضيا جديدا، يؤدي، في تجسده المبرمج عبر جهاز الكمبيوتر، إلى إنتاج صورة واقع أو “حقيقة” لا مرجعية مادية لها ولا يمكن التثبت منها. فالكمبيوتر، هو التقنية الوحيدة القادرة على خلق أشكال لا أساس لها في الواقع، والكمبيوتر، بقوم بذلك على أساس فرضية، وليس على أساس مادة موجودة في الواقع. في الأصل، فإن تقنيات السينما تعتمد على خواصها الفيزيائية والكيميائية التي تجعلها قادرة على عكس صور الواقع المادي بشكل مباشر، والكاميرا السينمائية، على سبيل المثال، لا تستطيع أن تصور أي شيء إلا إذا كان موجودا أمام عدسة آلة التصوير، سواء أكان موجودا بشكل طبيعي، أم كان موجودا على شكل مادة مصنعة، ديكور منزل مثلا، أو دمية أو مجسم لشيء ما. وهكذا، فإن العالم الخيالي الذي تعرضه أفلام الخيال العلمي، وهو عالم غير موجود أصلا، لا يتجسد في شكل إلا بعد أن يتم صنعه ماديا كنموذج وتكوينه مسبقا حتى يمكن لآلة التصوير أن تسجله. لا يحتاج جهاز الكمبيوتر إلى ذلك، فيكفي أن تتبلور الفكرة داخل رأس المبرمج، وهي تتبلور على شكل فرضية، كي يتمكن من برمجتها ومن ثم تجسيدها عبر رموز رقمية لتوحي بوجود شكل مرئي مسموع، يمكن تقديمه كحقيقة واقعية. يحمل هذا الإنجاز العلمي المذهل في طياته تبعات خطيرة عندما يتحول إلى ممارسة شائعة تستفيد منها وسائط الأعلام السمعبصرية، من نوع السينما أو التلفزيون، وتستخدمها لا من أجل التعريف بحقائق الواقع بل من اجل تزويره. ولا يقتصر الأمر على تزوير الواقع الحاضر بل يمكن أن يشمل التاريخ عن طريق إعادة برمجة “وثائقه”. والأمر لا يقتصر فقط على تزوير معلوماتنا عن الواقع، بل يتعلق أيضا بإلغاء معلوماتنا عن التاريخ، بما يؤدي إلى الشك بمفهوم الحقيقة ذاته. وفي هذا الصدد طرح أحد الفلاسفة المشاركين في الحلقة التلفزيونية مثالا دقيقا من السينما المعاصرة، فقد أشار المتحدث إلى مشهد في الفيلم الأمريكي “فوريست جامب”، والذي نرى فيه بطل الفيلم الممثل توم هانكس، يصافح شخص الرئيس جون كنيدي، وليس ممثلا يقوم بدوره، ويتبادل معه الحديث في مشهد سينمائي متقن الصنع صورة وصوتا لا يرقى إليهما الشك. هذا في حين أن توم هانكس ربما كان وقتها لم يولد بعد، أو كان طفلا. فالفيلم جرى إنتاجه عام 1994 في حين أن المشهد المذكور يعود إلى ثلاثين عاما خلت. فقد استخدمت في هذا الفيلم احدث تقنيات الكمبيوتر لإعادة إنتاج واقعة تاريخية محددة ومسجلة وموثقة على شريط سينمائي. فقد جرى استخدام مشهد تسجيلي لإحدى حفلات الاستقبال لأفراد من الجيش التي رعاها جون كنيدي قبل موته، كما جرى دمج لقطات للممثل المعاصر توم هانكس مع المشهد التسجيلي بحيث صرنا نرى الاثنين يتصافحان ويتحاوران. كما تمت الاستفادة من تقنية الكمبيوتر ليس فقط لإعادة تركيب صوت جون كنيدي بهدف توضيح محتوى الحديث الذي دار بين جون كنيدي ومن كان معه آنذاك، بل أيضا لإعادة صياغة محتواه من اجل أن يتشكل حوار جديد مع الممثل الحالي، حوار لم يتبادله جون كنيدي آنذاك مع احد، ولا يمكن واقعيا أن يتم تبادله بين رئيس وجندي عادي، ولا يمكن تصوره إلا كحوار من نسج الخيال . وكل هذا المشهد المتخيل صوتا وصورة بدا في الفيلم حقيقيا تماما وقد يستقبله المتفرجون بعد عشرين أو سبعين أو مائة عام على انه حدث حقيقي وتاريخ إن لم يكونوا مسلحين بمعلومات تفصيلية وبمعارف غير مشكوك بها حول الفيلم وما تم فيه من خداع. في حينه، أثارت هذه اللعبة التقنية، والتي استخدمت عدة مرات في فيلم “فورست جامب”، جمعت في إحداها بين توم هانكس والرئيس نيكسون، إعجاب البعض ولكنها بالمقابل أثارت غضب الآخرين الذين استشفوا من ورائها ابعادها المستقبلية الخطرة. فمثل هذه اللعبة التقنية قد تكون أحيانا قابلة للكشف عن طريق مقارنتها مع وقائع ومعلومات متوافرة ولكنها أيضا قد لا تكون قابلة للكشف عندما ينتج عنها خلق مادة مسموعة مرئية لا أساس واقعيا لها أي لا يوجد فيها لا جون كنيدي ولا توم هانكس وهي لم توجد إلا في عقل مبرمج وفي ذاكرة جهاز كمبيوتر وأصبحت مع ذلك ذات وجود مادي، ولو على شكل وثيقة بصرية سمعية. والاشكالية الفعلية هنا تكمن في أن المسألة تتعدى إمكانية خلق مادة خيالية على غرار مثلا أفلام الخيال العلمي، ويجري استقبالها واستيعابها على أنها مادة خيالية، إلى إمكانية تغيير التاريخ الحقيقي وتحريفه أو استبداله بتاريخ جديد وهمي ولكنه، مع ذلك، مقنع. هنا لا مناص من ان نستدرك ونقر بأن هذا التجسيد الذي يختلط فيه الواقع بالخيال ليس جديدا، من حيث المبدأ، على السينما. فقد عرفت السينما منذ بداية القرن العشرين، أي منذ سنواتها الأولى، تجارب مختلفة في استخدام تقنيات الحيل السينمائية والمؤثرات البصرية. وهي تجارب مهدت لاحقا للسينما على أن تكون قادرة على التحايل على الحقيقة واختلاق حقائق جديدة. وأفضل مثال على ذلك في تاريخ سينما القرن العشرين هو الأفلام النازية التي انتجت في المانيا زمن الحرب العالمية الثانية. ومع السنوات طورت السينما هذا الجانب فيها باتجاه خلق أفلام تشويقية خيالية مختلفة غير أن الأمر على خطورته بقي على الأغلب في حدود كونه لعبة تقنية تسعى وراء إثارة فنية، وفي كونه جانبا من جوانب من سحر السينما. تبدأ الخطورة الفعلية عندما تتحول هذه الوسيلة التقنية الترفيهية الى وسيلة لتزوير الواقع والتاريخ. قبل “فوريست جامب” بنحو عشرين عاما عرضت صالات السينما في العالم فيلما جديدا من أفلام الجاسوسية، التي شاعت موجتها في سبعينات القرن العشرين، كان من الواضح انه موظف لدعم أغراض الحرب الباردة التي شنها العالم الرأسمالي ضد الأنظمة الاشتراكية. يوجد في ذلك الفيلم مشهد يتضمن في لقطة واحدة صورة مركبة أثارت في حينه ملاحظات شبيهة بالملاحظات التي أثيرت حول المشاهد المركبة في فيلم “فوريست جامب”. كان هذا في فيلم “الأفعى”، الذي لعب فيه الممثل الأمريكي يول براينر دور جاسوس سوفييتي يخترق أجهزة التجسس الأوروبية والأمريكية. ونراه في المشهد المعني واقفا، أثناء الاحتفالات الرسمية بمناسبة ثورة اكتوبر، فوق المنصة التي تعلو ضريح لينين في الساحة الحمراء وسط موسكو، جنبا إلى جنب مع قادة الحزب الفعليين المصطفين لتحية الجماهير العابرة للساحة. وكان كل شيء في مشهد الاحتفالات حقيقيا باستثناء وجود يول براينر فيه. وكان تنفيذ هذا المشهد متقنا بصريا من الناحية التقنية إلى درجة يستحيل معها الشك بأن شخص الممثل لم يكن حقا واقفا مع قادة السلطة السوفييتية. فالقضية هنا اذن ليست فقط في اعادة تركيب وعرض وقائع قديمة على شكل فيلم، انما في خلط الوقائع الحقيقية الموثقة مع مواد مختلقة متخيلة، وهي امكانية باتت تتخذ مع قدرات الكمبيوتر المذهلة ابعادا جديدة لأنها تتحقق بمهارات لم تعرفها السينما من قبل وبكلفة مادية بخسة نسبيا بالمقارنة مع ما تكلفه تقنيات السينما التقليدية مما يسهل استخدامها بشكل متواصل وشيوعها. والتقنية التي استخدمت لإنجاز المشهد المذكور في فيلم “الأفعى” وهي تقنية كانت متطورة في حينه وباتت الآن تقنية متخلفة بالمقارنة مع ما تستطيع أن تنجزه السينما حاليا مستفيدة من إمكانات الكمبيوتر الحالية وما يمكن أن يستخدم فيه، فقد اكتفى الفيلم بالصورة دون الصوت. ويشير مثال فيلم “فوريست جامب” الى ان الباب اصبح مفتوحا أمام السينما لإحلال الفكرة مكان الحدث والخيال مكان الواقع وسنرى في المستقبل أفلاما يقوم ببطولتها ممثلون لم يخلقوا أصلا في الحياة وتجري أحداثها في أماكن تبدو حقيقية تماما ولكنها غير موجودة إلا كصور تمت برمجتها في جهاز الكمبيوتر. وقد يكون من المفيد هنا التذكير بالطموحات المعلنة والتي تهدف الى الوصول الى امكانية انتاج فيلم روائي يقوم ببطولته ممثل ميت كان في حياته نجما مرموقا، اعتمادا على اعادة صنعه بواسطة الكمبيوتر وبرمجته ليؤدي الدور المطلوب منه. لا تقتصر خطورة هذه الامكانات الموجودة في الكمبيوتر على سهولة تنفيذها في السينما التي هي بحد ذاتها وهم بالواقع، بل تكتسب خطورتها من حقيقة تقبل الناس لهذا الوهم وهذا ما عبّر عنه رأي جاء في كتاب صدر في الستينات بعنوان “السينما فنا”، ففي هذا الكتاب نقرأ الفكرة التالية والتي نشعر الآن بمدى أهميتها: “لا يتوقع المشاهد -أو يتوقع جزئيا- إيهاما ماديا ملموسا من السينما والجمهور يحاول أن يصدق ليس ما يراه بل ما يفهمه، فليست أمانة الصورة بالنسبة للواقع هي التي تؤخذ بعين الاعتبار وإنما السهولة التي يمكن تقبلها بها على أنها واقع قائم بذاته”. هذه الإشكالية التي تثيرها التقنيات الالكترونية الجديدة رافقت السينما مند نشوئها فالسينما التي يفترض فيها أنها تعكس الواقع المادي بواسطة وسائل فيزيائية وكيميائية (عمليات التصوير ومادة الفيلم الخام ووسائل التظهير ومن ثم العرض) أقنعت الناس بواقعية ما تعرض في حين أنها لا تفعل اكثر من أن تقدم وهما بالواقع ومع أنها تسمى بالصور المتحركة فهي لا تعرض إلا وهم الحركة، غير أن التقنيات الالكترونية أضافت إلى خاصية الوهم الحركة امكانية نفي حقيقة الواقع نفسه. الخليج الإماراتية في 16 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
انطلاقاً من ثورة الصورة في الكمبيوتر
عدنان مدانات |
|