يليق بالبعض أن يروي سيرته، ولا يليق بالبعض الآخر. يوسف شاهين من ذاك البعض الأول، حياته ثرّة، غزيرة المحطات والتفاصيل، ولطالما أتقن كشفها وتعريتها والإفصاح عن طابعها المركّب [تبعاً لشخصيته]، وبخاصة في ثلاثيته الذاتية المشهورة "اسكندرية ليه؟" [1978] و"حدّوتة مصرية" [1982] و"اسكندرية كمان وكمان" [1990]. وها هو يكمل فصول تلك السيرة في جديده البديع "اسكندرية... نيويورك"(*) على طريقة الشيخ العائد الى صباه، أو بالأحرى الى بدايات تفتّحه على الحب والمرأة والشغف بالفن تمثيلاً ورقصاً وسينما، في أميركا الأربعينات، زمن هاجر الشاب الاسكندراني المتعدّد الأصل والمنبع الثقافي [والده من أصل لبناني ووالدته يونانية] الى كاليفورنيا ليلتحق بمعهد باسادينا لإعداد الممثلين. هناك، ترتسم ملامح القدر الذي ينتظر ابن العشرين العائد في 1948 الى مصر ليبدأ مساره السينمائي منجزاً عام 1950 فيلمه الأول "بابا أمين"، دائباً في إنتاجه الغزير، نحواً من أربعين فيلماً في نصف قرن. وإن تقاطعت سيرة يوسف شاهين مع معظم أفلامه وألمع مراراً الى تلك المرحلة الأميركية المعلّمة في شخصه وعمله السينمائي، إلا أنّ اموراً كثيرة ظلّت الى الأمس طيّ الذات، كأنها تنتظر أوان البوح والخروج من الذاكرة الى العلن المشهدي، فأتى في "اسكندرية... نيويورك" يكشف ما ضمر من تلك السيرة الغنية على هدي موقف انساني وسياسيّ وحضاريّ فرضته التطورات [السياسية في شكل خاص، وشاهين سينمائيّ سياسيّ بامتياز]، إنما في ثوب عاطفي نوستالجي لا يخلو من مرارة وأسى ومقارنة بين جيلين وزمنين وقيم انسانية وفنية متبدّلة. *** الحبّ هو البدء والمنتهى في جديد يوسف شاهين. الحب ولا سواه. هو الدواء الأوحد لعالمنا المريض المتوحّش. لطالما دعا يوسف شاهين الى الحب في أفلامه خلاصاً من أمراض العالم، ولطالما مجّده وأنشده بالصورة. بيد أنه في ذروة تمجيد الحبّ وتحيّته هنا في "اسكندرية... نيويورك" يرى إليه سبباً كافياً بذاته لأن نحيا له ومن أجله، وان ننظر الى العالم والآخرين من خلاله، وان نتألم منه ونستسلم لناره المتوهّجة، وأن تأسرنا وتغزونا المشاعر الجميلة الناتجة منه، وان نبرأ به من ألم الوجود، وأن يكون الوجع والسعادة، الدموع والفرح، اللقاء والفراق، الحلم والواقع، البداية والنهاية. في الحب وحده الخلاص، منه نتعلّم التسامح وقبول الآخر. يوسف شاهين آخر رسل الحب في عالمنا، يهديه نشيد التعظيم والتمجيد، يحضّنا عليه ويسوقنا دامعين متأثّرين الى نيرانه الملتهبة مثلما عاش في أتونها ليخرج بحكمة الحياة الأبلغ. تلك رسالة يوسف شاهين ومرامه، بل وصيته، أمدّ الله بعمره وعمر عطائه: الحب، الحب، ولا شيء سوى الحب. بورك هذا الشقاء. *** ثلاثة أزمنة تتقاطع في "اسكندرية... نيويورك"، زمن المخرج يحيى في مرحلة عمرية ناضجة [محمود حميدة الذي لم يغزُ رأسه الشيب] ومرحلة متقدمة في العمر [محمود حميدة ايضاً وقد غزا رأسه الشيب] ومرحلة شابة في اميركا [احمد يحيى، اختيار ممتاز لدورين متوازيين]. مرة جديدة نحن ازاء بنية متراكبة، متقاطعة، متراصّة، من إياب وتقدّم مستمرين بحثاً عن الزمن المفقود على طريقة بروست، فزمن يوسف شاهين مشوّش وملتبس، من راهن وذاكرة، وكلاهما متداخل ومترابط في نسيج واحد محوك بخيطان الحلم ["الحياة حلم" بحسب كالديرون]، وكم في شريطه من حلم وواقع يتصلان توليفاً بمشهد واحد موصول الى درجة الاختلاط القصوى. الانسان إبن ذاكرته. راهنه ثمرة ماضيه وتشكلاته وترسبات لاوعيه او وعيه الراسخ غير المنزاح. لم يُشفَ يوسف شاهين من المرحلة الأميركية، وهذا مبرّر عودته اليها اليوم، إذ كانت مرحلة التفتّح على العشق [المرأة الأولى في حياته شاباً فتياً وافداً من اسكندريته بتولاً خجولاً]، وعلى عشق المسرح والتمثيل والسينما والافتتان بعالم هوليوود ونجومها، الراقصين بخاصة. اميركا كانت الحلم [أرض الأحلام] والمثال عهدذاك. كانت موطن التكوّن والإعداد وانطلاق المشاعر والرغبات وتفتّق الموهبة [في التمثيل بدءاً، وفي أدوار شكسبيرية برع فيها يوسف/ يحيى الشاب] قبل أن يقوده الممثل فيه الى الإخراج السينمائي وإدارة الممثلين. أميركا المعشوقة هذه لم تكن اميركا الممقوتة من يوسف/ يحيى اليوم. لم يكن على خصام معها من جرّاء سياستها الظالمة والمنحازة ضد العرب ومع اسرائيل. اميركا المنقلبة، في نظر يوسف شاهين، تحوّلت وتبدّلت ولم تبقَ تلك التي عرفها في أربعينات الهوى والشباب والتحصيل الأكاديمي. هي اليوم أميركا التي تمزّق مشاعره بين حب وكره، بين وفاء وتنكّر، بين ذكريات عذبة طيبة وصورة قبيحة راهنة. يحبّها لماضٍ له سعيد فيها، ويمقتها لحاضر جائر تتكشف عنه معاداةً للعرب وقضاياهم، وفي مقدمهما فلسطين الجرح النازف، والعراق المحترق الآن. ومع ذلك، لا يرى شاهين مفراً من مجادلة أميركا ومحاججتها، باللين والمنطق حيناً، وبالقسوة أحياناً. لا يبغي قطع شعرة معاوية معها، أو حبل السرّة الذي يربطه برحمها. يحب منها وجوهاً ذات صلة بماضٍ لا يبارحه ويستوطن ذاكرته ووجدانه. ويرفض وجوهاً أخرى من أميركا لم تبق تلك التي عرفها وأودعها جزءاً من روحه وماضيه. أميركاه هي اميركا معهد باسادينا حيث دراساته المسرحية الأولى ومرحلة الإعداد المتوّجة، بحسب الفيلم والسيرة الحقيقية، بدرجة التخرّج المتميزة. أميركاه هي اميركا حبّه الأول الكبير للإيرلندية الأميركية الجميلة جينجر [يسرا اللوزي شابة، ويسرا ممثلته الأثيرة في الشخصية وقد تقدمت في السنّ]. أميركاه هي اميركا الفن والمسرح والسينما وأفلام فينشنتي مينيللي ووليم ديترلي ودوغلاس سورك وفرد استير وجينجر روجرز وجين كيلي وسائر نجوم الميوزيكال الأثيرين لديه. أميركاه هي اميركا الحب والرقص والفرح والنجاح وتحقيق الطموحات في "أرض الأحلام" آنذاك. *** أعساه شريط ذاكرة وسيرة وحنين أم شريط "تصفية حساب" وإعلان موقف وخطاب سياسيين حيال اميركا ما صنعه يوسف شاهين؟ لعلّه، في تقديري، الأمران معاً، وعلى نحو متوازن، جدليّ اشتهر به السينمائي العربي ذو التكريس العالمي. هو نشيد حب مؤثّر من ناحية، ورسالة سياسية من ناحية ثانية. يسعى الى القول لأميركا لم أبقَ أحبك اليوم مثلما احببتك بالأمس، تبدّلت أنتِ، ولم أتبدل. انا يوسف شاهين الذي هاجر يوماً، في أربعينات القرن الفائت، الى أرضك الحلم، وعدت منها عاشقاً ملتاعاً وممثلاً مجلّياً ومفتتناً بالسينما اداة تعبيري الأغلى. أحب فيك ذاكرتي وذكرياتي ولا أحب غربتي الآنية في مدنك وشوارعك ومطارحي الأولى في باسادينا وسواها. تغيّر وجهك يا أميركا وتبدّلت قيمك فلم أعد أعرفك ولا أتعرّف الى وجهي في مرآتك اليوم. يلتهمني الحزن والأسى، تؤلمني الذكريات، خيّبني حلمك الذي تحوّل كابوساً يقضّ مضجعي وينغّص عليّ عيشي ويحرمني من أجمل أيامي في أرضك الشاسعة المعطاء. اعطيتني العلم ثم أرغمتني على التنكّر لصورتك وفضلك عليّ بسبب الظلم والموت اللذين تنشرانهما في أرض جذوري وأهلي وانتمائي. عذراً أميركا، لم أبقَ أحبك كما من قبل. نفسي تقارع نفسي، روحي حزينة ومتألمة حتى الموت. *** راوٍ استثنائي للذاكرة والسيرة الذاتية يوسف شاهين. نرسيس جميل متعاظم، لكن ثمة ما يستحق في حياة عبقري قدّم الى السينما العربية والعالمية تحفاً خالدة أن ينظر الى صورته في مرآة الذاكرة ويفتتن بها. هو لا يفعل غير استعادة مقاطع من سيرته الأولى المكلّلة بالنجاح، المملوءة مشقات وصعوبات، المزدانة بعشق رومانسي حارّ وجارف. يهدينا في نشيده إحدى أجمل قصص الحب الذي يمكن ان نراها على الشاشة، قصته مع جينجر [يسرا اللوزي] الشابة النضرة زميلته في معهد باسادينا الكاليفورني، التي وقع في هواها من نظرة أولى قذفته الى عالمي الحلم والواقع، فالفى نفسه بين ذراعيها، تارة على فراش الجسد البكر، وطوراً في المشهد الحلمي الراقص الذي لا يشبه الا دنيا التهويم والأحلام المقدودة من حكايات الأميرات والقصور وألف ليلة وليلة. لكنّ يوسف/ يحيى اضطر الى مغادرة اميركا للعودة الى مصر، تاركاً وراءه حبيبة ملتاعة واستاذة داعمة وحنون [ماجدة الخطيب، باهرة الحضور على مألوفها في سينما شاهين] والكثير من الاصدقاء والذكريات الحلوة. وإذ يعود الى أميركا بعد خمسين عاماً في إطار تكريمي له ولأفلامه، ومعه زوجته جانّ [لبلبة] التي دعمته طوال حياته وأبدت أقصى التفهم والحب لزوجها الصعب المزاج [يصف نفسه في الفيلم بالخجول و"الوحش" في آن واحد]، يلتقي ثانية حبّه الأول جينجر [يسرا الكبيرة هذه المرة] وقد غزت ملامح العمر وجهها مثلما غزا الشيب رأسه، ومعاً يستعيدان زمن عشقهما الفتيّ الذي أثمر ابناً يدعى اسكندر [يؤديه أحمد يحيى أيضاً] لم يكن السينمائي العجوز يدري بوجوده، ولا بنون له من زوجته، فيصعق في عمق مشاعره إذ عرف إحساس الأبوّة متأخراً ومن حيث لا يتوقع. غير ان صدمتين مفجعتين ستؤلمانه شديداً، رفض ابنه راقص الباليه له، واكتشافه أسراراً شديدة الإيلام في ما عاشته جينجر إثر هجره لها عائداً الى موطنه. المأساة تطارد يوسف/ يحيى الى الأرض البعيدة التي أبعدته السينما والمهنة الناجحة عنها. في لقاء يوسف/ يحيى مع جينجر كان يواجه اوجاع الماضي الجميل الذي ولّى الى غير عودة ولم تصمد منه سوى ذكريات، بعيدة وقريبة. وفي لقائه ابنه مواجهة بين جيلين وذهنيتين ومفهومين ومجموعتي قيم مختلفة يفجّر من خلالها خطابه السياسي [المباشر قليلاً!] من أميركا المتحوّلة، فضلاً عن المقارنة بين الاسكندرية ونيويورك، وترمز الأولى الى حضارة الانفتاح والتسامح القديمة، والثانية الى نموذج تفكير وعيش أميركي معاصر لا يضاهيها تسامحاً وانفتاحاً رغم الطابع الثقافي الكوسمبوليتي [بضعة مشاهد لمحمود حميدة، "ألتر إيغو" يوسف شاهين، تائهاً في جموع شوارعها الصاخبة]. والمقارنة نفسها أفضت الى عنوان الفيلم النهائي، وعلى نحو أبلغ من الأوّلي الذي كان "الغضب". فغضب يوسف شاهين لا يعمي بصيرته ولا يعطّل عقلانيته إذ "لا مثيل لمتعة العقل" في تعبيره. *** أبعد من السيرة والذاكرة والموقف السياسيّ الجدليّ، شريط يوسف شاهين الجديد، أعود فأكرر، نشيد تمجيدي للحب وتحية عشق للمسرح والرقص والسينما. في الفيلم مشاهد راقصة من أجمل ما صنعه يوسف شاهين، بل من أجمل ما رأيناه في تاريخ السينما، وستكون مشاهد انطولوجية يُرجع اليه استشهاداً وإثباتاً مرجعياً لعبقرية يوسف شاهين عاشق الفن والحياة وساحر الأحلام. وسط ديكورات جميلة لحامد حمدان، وعلى موسيقى بديعة لفاروق الشرنوبي ويحيى الموجي، وعلى خلفية صوتي علي الحجار وهدى عمار الرهيفين، تدور اللوحات الراقصة الرائعة في أداء للبطلين الشابين [الاكتشافين، وعوّدنا شاهين على اكتشافاته المدهشة للممثلين الشبّان وعلى عظمة ادارتهم أسوة بالمحترفين] أحمد يحيى ويسرا اللوزي، ورفاقهما الشبّان وإن يكن الإطار الذي يحتضنهما مصنّفاً في خانة "الكيتش"، فيوسف شاهين دائم اللجوء في أفلامه الى الاصطلاحي Conventionnel إذ لا يأبه للسفسطة المفرطة، بل للمشاعر والكلمات والمواقف الإنسانية [هو ذو نزعة إنسانية عالية] والنظرات التي يعبّر بواسطتها الى الآخر فيكملها هذا أو يتحداها ويقاومها. قلت ماضياً، وأكرّر، يوسف شاهين سينمائي عيون، سينمائي نظرة تثقب الوجدان الى عمقه، ومن حسن طالعه انه محاط بممثلين وتقنيين يستسلمون لنظرة المعلّم، وفي مقدمهم هنا مساعده في الكتابة والاخراج، الشاب القدير خالد يوسف، ومدير التصوير الممتاز رمسيس مرزوق الذي بثّ في "اسكندرية... نيويورك" مناخات توازي ما يخلقه كبار مديري التصوير في العالم لشريط حقبة وإعادة إحياء تاريخية لا يشوبها سوى بعض الاختلاف في الايقاع التوليفي الجيد في لحظات والقاصر في لحظات أخرى [أنجزته القديرة التاريخية رشيدة عبد السلام] ولعلّ هفوات في لقطات الحقل/ الحقل المضاد مسؤولة عنه اكثر منها. وعيب آخر جوهري، وإن أدرجناه تحت الخيار الاصطلاحي [الذي تعتمده السينما الهوليوودية أيضاً] جعل لغة الفيلم المصرية [مع هنّاتها غير الهيّنات كلفظة "دبلوم" التي ينبغي أن تكون "ديبلوم" diplome]، لا الانكليزية، لسان معظم شخوص الفيلم في الإطار الأميركي. تحيّة حبّ إليك يوسف شاهين سينمائياً رسولاً للحب والفن والفرح والحياة والتسامح. نحبّك جميعاً أيها الشيخ الدائم الشباب. أبكيتنا. النهار اللبنانية في 9 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
يوسف شاهين يهدينا تحفته الجديدة "اسكندرية... نيويورك"
جورج كعدي |
|