شعار الموقع (Our Logo)

 

 

التقيتُ أمير كوستوريكا في الدائرة السادسة في باريس. لم أشأ أن أكلّمه عندما رأيتُهُ يدلف وحيداً الى إحدى صالات السينما هناك. كان جميلاً ووحيداً وشاعراً. كجنديّ سُرِّح للتوّ من الخدمة الإجبارية. كالهواء حين تقبّله عتمةٌ في قلبه. دخلتُ وراءه وكنتُ أنا الآخر أليماً. على غرار مدينة تجرحها فظاظة الصيف. جلسنا، كلٌّ من جهة، في الصف الأخير من الصالة. هو الى اليمين، وأنا الى اليسار.

في الصفوف التي أمامنا جلس فرنسيون. عرفتُ هذا بدليل الحبّ العظيم الذي أكنّه لبلادهم الشاعرة.

في الصالة، كان ثمة أميركيون بالطبع، وسيّاح آخرون. عرفت هذا أيضاً بدليل أنهم يؤمنون بمعجزة الحياة رغم... معجزة الموت التي تنتهجها حكوماتهم.

كانت وجودي في الصالة كافياً ليجعلني داخل معجزة الحياة. باريس، أمير كوستوريكا، الحبّ، الشعر، اليأس و... بلادي، كان هذا كله قد وضعني تحت أوجاع الزمن. وكان أيضاً يحرّرني منها.

دخل أمير كوستوريكا الى الصالة ليشاهد فيلمه "معجزة الحياة". ودخلتُ لأرى الحياة المسروقة، مصنوعةً بخبز الحبّ والغبطة والتمرد، على يد المخرج الذي يقع بطله الصربي المسيحي لوقا في غرام بطلة بوسنية مسلمة تدعى صباح.

لم يفعل أمير كوستوريكا شيئاً عظيماً: وضع في معجنه القليل الكافي من الحبّ، القليل القليل فقط من خميرة الحبّ تلك، وكان هذا كافياً ليصرع فيلمه الموت ويفوز بالحياة.

لم أشأ أن أنظر الى المخرج الرومنطيقي "الساذج" الذي كان يجلس قبالتي الى أقصى الجهة اليمنى من الصفّ الأخير في تلك الصالة الباريسية. فقد كنتُ أعرف السرّ بالغريزة. بغريزة الفجيعة. وبغريزة الحبّ. لم أكن في حاجة الى مشاهدة قصة حبّ "ساذجة" كهذه، لأعرف أن الحروب قليلة قليلة الى هذا الحد. وأن هذه الحروب لا تستطيع أن تصنع معجزةَ حياةٍ واحدة. وأنها لا تستطيع سوى أن تكتب معجزة الموت.

لم أكن محتاجاً البتة الى أن أعرف أن معجزة الموت التي تصنعها الحياة الوحشية المعاصرة ساذجة وسخيفة وحقيرة و... عادية تماماً. كهؤلاء البشر. كهؤلاء السياسيين. كهؤلاء الآلهة خصوصاً... إلاّ عندما يصيرون حالمين. عشّاقاً وشعراء.

لم يكن الفيلم ساذجاً البتة، ولا كان ساذجاً ذاك الحبّ الذي اجترح معجزة الحياة فيه. الموت وحده، في الفيلم وفي الخارج، كان ساذجاً وصغيراً وقليلاً الى حدّ الموت. لم أشأ أن أنظر الى المخرج. فقد كان يكفيني ما أراه على الشاشة. وأمامي.

عندما أسلس كوستوريكا القيادَ للحبّ وذهب الفيلم لينتشل معجزة الحياة من شدق الموت وزمنه، رأيتُني أدلف بغرائزي الى قلب زمن الموت هذا، وأمدّ يديَّ الضارعتين في اتجاه الشاشة.

كنتُ غريباً حقاً. وساذجاً. ورومنطيقياً. كنتُ أعرف أن القليل القليل من الشرف والغضب والحرية سيظل يكفي لصناعة معجزة الحياة. في بلاد أمير كوستوريكا. وفي بلادي أيضاً. كنتُ أعرف أن الأقلّ من القليل يكفي. أن جسدين، أن رجلاً وامرأة ينتميان الى شعبين متقاتلين، يستطيعان بالحبّ أن يوقفا الموت.

رأيتُ أمير كوستوريكا يخرج من الفيلم مخفوراً بأحلام شعبه وبموسيقى الفيافي والقفار في بلاده. كان صامتاً كالثلوج التي تضرّجت بالدم. ليّناً وعالياً ولذيذاً كالأشجار التي تحفّ بعبوره.

لم أشأ أن أخدش عينيه بمعجزة الموت الممهورة بـ"هويتي"، أو أن أفعل شيئاً يبكّت شعرية الأمل والحلم والحبّ. رأيتُ العصافير تخرج معه من السينما وتطير في سماء الجادة التي تُدعى بولفار سان جيرمان دي بري.

كان يمشي وحيداً. ممتطياً فرس غرائزه الشعرية. كأمير خارج على القانون الدولي المستتب، كان يعبر الجادة الباريسية. سعيداً كأولئك الذين يسرقون نار الأرغفة ليدفئوا ليل الفقراء.

ثم رأيتُهُ يمشي في كل مكان، وسط الحدائق، في خراج المدينة، وعند التخوم المبللة بالألم واليأس والموت.

كالنبلاء الأشراف من قطّاع الطرق، كان يعبر، منتعلاً جزمةً للصيد وضاحكاً كعبث الأنهر.

... ثم رأيتُنا، هو وأنا، ندخل معاً صالةً مجاورة. ووراءنا يدخل للتو مايكل مور. هناك، في الصف الخلفي من الصالة، جلسنا نحن الثلاثة، كلٌّ في مكان، لنشاهد معاً على الشاشة، الوجه الوحشي الآخر من المرآة.

قبل أن نخرج من هذه الصالة، صفّق الفرنسيون بغزارة. ومعهم صفّق أميركيون كثر. وكان ثمة سيّاح آخرون يقولون في الشارع إن المعجزة، معجزة الحياة، يمكن أن تحقّقها الشعوب، كل الشعوب بلا استثناء. خصوصاً الشعوب المهيضة أجنحتها.

لم أقل شيئاً. خرجتُ الى الشارع الليلي وحيداً. لم أر أمير كوستوريكا ولا مايكل مور. تقدمت قليلاً في اتجاه المقهيين الشهيرين اللذين تفصل بينهما مكتبة "لا هون". جلستُ في الأول. طويلاً وعميقاً جلستُ. طويلاً وعميقاً ووحيداً، شربتُ النبيذ. ثم رحتُ انتظر الطائرة التي ستقلني في صباح اليوم التالي الى... معجزة الموت والصمت والعار في بيروت.

النهار اللبنانية في 8 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

فـي بــلاد أمــــيـر كــوســــتـوريـــكـا

عقل العويط