ظلت ولا زالت البتراء وما حولها من صحراء ووادي رم في اسلوبيتها المعمارية وسيقها الشهير تبعث في نفس الانسان شتى المشاعر والاحاسيس والانفعالات تجاه اقوام عاشت حياتها اليومية في تلك البيئة وسط صراعات وحروب وعلاقات مع اقوام اخرى، وهي اضافة الى ذلك ارتبطت بمعان واشارات كثيرة من بينها الغموض والتحدي والاصرار على الاستقلال والتنافس والخوف من الاعداء والمجهول، واحيانا تصبح في نظر روادها واهاليها موطنا للفطنة والذكاء والاسرار. ولئن كان العرب الاوائل قد نسجوا حول البادية والصحراء القصائد والاشعار للتعبير عن الاطلال، والهمت الاساطير والخرافات كثيرا من المبدعين فان البتراء (وما جاورها) والتي اعلن اكتشافها للعالم في وقت قريب من عمر السينما نفسه، ظلت بعيدة عن البدايات الاولى للسينما الا عندما تداعت الاحداث على المنطقة اواخر التواجد العثماني ودخول الشرق الاوسط ومنها بلاد الشام تحت الاحتلالين البريطاني والفرنسي غداة انطلاقة الثورة العربية الكبرى التي فجرها الشريف حسين بن علي وبدأت كاميرات السينما (التسجيلية) في توثيق مثل هذه البيئة وتجسيد حياة الاهالي فيها خصوصا وانها شهدت ارهاصات الثورة فيما افواج العرب الباحثين عن حريتهم يتوافدون اليها. وتضمنت الافلام الكثير من المواقف الانسانية والوطنية، واشتملت على عناصر الاثارة والتشويق والمستمدة اغلبها من نصوص كان قد وصفها لورنس العرب في رحلته بالمنطقة في كتابه «اعمدة الحكم السبعة» ومنه انجزت السيما العالمية واحدا من ابرز قاماتها الكلاسيكية الشهيرة الى اليوم فيلم «لورنس العرب» الذي حقق البريطاني ديفيد لين العام 1964 واسند فيه ادوار البطولة الى نخبة من اشهر نجوم تلك الحقبة، بيتر اوتول، اليك جينس، وعمر الشريف في اطلالته الاولى على السينما العالمية. وهو الفيلم الذي قام فيه انتوني كوين بدور عودة ابو تايه الذي يشترك مع البريطاني لورنس العرب في تحرير العقبة من الاتراك، ثم في اقتحام دمشق. لكن الفيلم الذي شاهده الملايين في اركان المعمورة يحسب له (تسويقه) العالمي للصحراء الاردنية والبتراء ووادي رم حيث لا زال يعرض في مناسبات سنوية على شاشات التلفزة العالمية كنموذج من الافلام الكبيرة التي لا يطويها الزمان، رغم انه جاء من وجهة نظر غربية نتيجة لربط احداث الثورة العربية الكبرى بشخصية الانجليزي لورنس، والسعي الى التقليل من انجاز الدور العربي، عبر عدم التركيز على الشخصيات العربية التي كانت وراء هذا التحول السياسي والاجتماعي. فكل الدلائل تشير ان الخطوات الاولى لثورة الشريف الحسين بن علي ضد الوجود العثماني بالبلاد العربية كان مخططا لها حتى ولو لم يظهر لورنس ومغامراته السياسية والعسكرية في التاريخ العربي. ومع ان الكاميرا السينمائية في الافلام الروائية ظلت بعيدة عن تناول البتراء وخزنتها الشهيرة في حبكة افلامها الدرامية لفترة طويلة الا ما ندر، وتحديدا عندما قام المخرج الاميركي العالمي ستيفن سبيلبيرغ في اواخر الثمانينات من القرن الماضي بتصوير اجزاء من فيلمه الروائي الطويل «الحملة الصليبية الاخيرة» ضمن سلسلة افلام «انديانا جونز» حيث صور مشاهد عديدة في البتراء وفي السيق وداخل الخزنة بما تحمله من سحر وشغف بالمكان والبيئة وقدم الفيلم مغامرات تحبس لها الانفاس لمطاردات على ظهر الخيول بين العصابات وبطل الفيلم داخل السيق بكل عناصر التشويق والاثارة بما يجعل من مشاهدة العمل متعة كبيرة حتى وان اختلف المرء مع صانعه في افكاره التي عممها على الفيلم بأكمله، وكان العمل بمثابة (تسويق) آخر للبتراء حيث صار يجلب كل من استمتع بالفيلم الى زيارة البتراء والافتتان بتكوينها المعماري الآسر كجزء من تصوير انعكاسات سحر الشرق على الانسان الغربي. وظلت السينما الاردنية غائبة عن تناول البتراء نظرا لعدم وجود صناعة سينمائية محلية مكتملة التكوين، بيد ان عدداً من المحاولات والتجارب السينمائية المحلية رغبت هي الاخرى في تناول مثل هذا الصرح المعماري الذي ابدعه الانباط في حقبة تاريخية ماضيه، واستغلاله في تصوير واحد من افلام المغامرات والتشويق والرومانسية وهو فيلم اردني - ايطالي - لبناني مشترك حمل عنوان «عاصفة على البتراء» من توقيع المخرج المصري فاروق عجرمة على نسق الافلام المصرية السائدة بتلك الفترة في نهاية الستينيات. من جهة اخرى جال السينمائي الاردني الراحل غازي هواش عبر فيلمه المعنون «نسر الشرق» الذي انتجه بالتعاون مع السينما التركية في العديد من المناطق السياحية في الاردن، من بينها البتراء، وقدم فيلما مليئا بالمغامرات ومشاهد المطاردات والاكشن لابطال اردنيين واتراك على خلفية من الاحداث التي تسري داخل الآثار في الاردن. ولا شك ان حماس هواش لايجاد صناعة سينمائية محلية ولو بامكانياته الضئيلة التي سبق له ان قدمها بفيلم جماعي مع اردنيين حمل عنوان «صراع في جرش» العام 1959، دفعه الى الاستمرار في سلسلة تجارب سينمائية ذات تقنية بسيطة ومواضيع شائعة في السينما العربية بما تحمله من الوان المغامرة المحدودة الامكانيات والخبرة. والواقع يشير ايضا الى ان السينما الاردنية غير مكتملة النضوج قد عالجت في افلامها التسجيلية موضوع البتراء الاثرية وما لها من اثر في التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتحديدا في تجربة المخرج اللبناني فؤاد نعيم الذي اقام السنوات في الاردن وقدم فيها ثلاثة من افلامه التسجيلية من بينها فيلم عن الثورة العربية الكبرى. وشارك فيه بمهرجان دمشق السينمائي الدولي، ومدته (50) دقيقة وصوره طلال الحنيطي واخذت العديد من مشاهده في الاماكن الحقيقية من البتراء ووادي رم. وفيه اثبت المخرج قدرة بالتعامل مع السينما كوظيفة جمالية وفكرية، ودورها كوسيلة سمعية بصرية متميزة في بحثها عن ملامح الواقع الحالي عبر تأمل وقراءات الماضي وقدرتها البليغة على اعادة احياء تلك الحقبة بما تمتلكه من صيغ عديدة للتغيير. ومثله ايضا افلحت مؤسسة «طيف» للانتاج الفني عندما حققت فيلما عن البتراء وجمالياتها ودلالاتها العديدة، كشف عن قدرة المخرج في استخدام وتوظيف اللون الوردي والبيئة المحيطة بها في معالجة الواقع دون الوقوع في فخ الدعاية والاعلان للبتراء، وكان للمخرج نجدت انزور مساهمة اخرى في تناول البتراء في فيلم روائي قصير كتب له السيناريو محمود الزيودي عن سائح بريطاني يعود الى البتراء بعد ان امضى سنوات شبابه الاول في تلك المنطقة وعلاقاته مع احد ابناء تلك المنطقة في ربط متين وذكي بين حقبتين وفيه ينجح انزور في تقديم تكوينات بصرية وجمالية بتجانس فائق بين المكان والبيئة ومنحها ذلك الايقاع المتميز في لغة سينمائية شاعرية مكثفة الدلالات والاشارات. وكانت البتراء قد شهدت العديد من التجارب السينمائية الاجنبية الاخبارية والتسجيلية، حيث تشير الوقائع في كتاب «عرار» لمؤلفه البدوي الملثم يعقوب العودات الى زيارة مخرج سينمائي اميركي الى الاردن، وان عرار استضافه وسجلت كاميرا الضيف الكثير من الوثائق عن الاماكن والناس في الاردن من بينها (البتراء). كما انجزت الاميركية مادلين بيري فيلما قصيرا بعنوان «الاردن ارض وشعب» عن مراحل التطور العمراني والحضاري في الاردن وصورت اجزاء منه في البتراء ووادي رم، وحقق المخرج الكندي فرانسوا فلوكية فيلما آخر تتبع فيه مسرى الثورة العربية الكبرى وشهادات من عاصروها مثل الشيخ فيصل بن جازي والشيخ حمادة الفواز. واستفاد العديد من صناع السينما العالمية من اجواء البتراء وخصوصيتها في افلام عالمية شهيرة مثل «السندباد وعين النمر» و«الكوكب الاحمر». الاول مأخوذ عن احدى قصص الف ليلة وليلة من وحي الخيال وما يحمله من عناصر الاثارة والتشويق ورومانسية الصحراء والثاني من الخيال العلمي الذي رأى في سحر اللون الوردي للبتراء وصخورها اجواء تماثل تلك المتخيلة في كوكب المريخ الذي تدور فيه الاحداث، ووقعه المخرج الاميركي بريان دي بالما. واخيرا.. تظل «البتراء» كنزا ثمينا لعشاق الفن السابع وتبدو فيها تلك الروح الشاعرية والصوفية المليئة بالعناصر الدرامية والتي ما زالت بحاجة الى المبدع الحقيقي للكشف عن ثرائها الخلاق الدفين بالجماليات ودلالاتها الكثيفة وتلاوين نماذجها الانسانية النبيلة. الرأي الأردنية في 7 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
البتراء في العين السينمائية:
ناجح حسن |
|