شعار الموقع (Our Logo)

 

 

يروي الكاتب المصري صلاح عيسى في مقدمة كتابه المتميز عن "الثورة العرابية", كيف ان الرئيس جمال عبدالناصر جمع, اول سنوات حركة الضباط الاحرار وعند بداية اهتمام هؤلاء الضباط بالفكر والتاريخ, عدداً كبيراً من المؤرخين والباحثين المصريين, لكي يقوموا بإعادة كتابة تاريخ مصر من جديد. يومها, وبعد اجتماع او اجتماعين ارتؤي دعوة المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعي لحضور الاجتماعات على اعتبار انه كان من اوائل الذين كتبوا "تاريخ" مصر خلال القرنين السابقين, جامعاً احداثاً ووثائق في منتهى الاهمية. وحينما دخل عبدالرحمن الرافعي قاعة الاجتماع, وعرف فحوى الموضوع وفحوى المهمة التي كلف بها المؤرخون والباحثون, نظر اليهم باستغراب. وحتى بشيء من المرارة, وقال غاضباً: "تريدون كتابة تاريخ مصر؟ أفلا تعلمون انني كتبته منذ زمن بعيد؟".

في احتجاجه هذا كان من الواضح ان عبدالرحمن الرافعي انما يعبر عن نظرة الى التاريخ تراه كتلة جامدة وربما نهائية من احداث مرت متتالية في شكل واضح لا يحتمل تأويلاً او اعادة تفسير. وهي نظرة لم يكن الرافعي, بالطبع, يعرف انها امحت منذ زمن طويل, وان التاريخ - حتى وبخاصة ما مضى منه - انما هو كيان حي, ينظر اليه ويعاد النظر فيه دائماً وأبداً, ويعاش حتى من جديد في كل مرة, ليس فقط على ضوء اكتشافات جديدة تتعلق به, بل حتى على ضوء تقاطعاته هو نفسه واستحواذ احداثه على تفسيرات جديدة - من دون أن تخطئ القديمة - في كل مرة يوجد فيها تقاطع من تلك التقاطعات. ولم يدرك عبدالرحمن الرافعي يومها ان ثمة فارقاً كبيراً, بين الماضي والتاريخ. وان مهمة الثاني طرح الاول على بساط البحث, طالما ان الماضي لا يمكن له ابداً ان يموت.

مناسبة هذا الكلام, بالنسبة الينا, هي استشراء ظاهرة السينما التاريخية خلال السنوات الاخيرة. صحيح ان هذه السينما لم تغب ابداً عن مسار الفن السابع, لكن الحقبة الاخيرة شهدت تكاثر الافلام التاريخية, بما فيها افلام "السير الذاتية" والملاحم الاسطورية وما شابه. وطبعاً للبحث في هذه الظاهرة يستحسن اللجوء الى علم الاجتماع وعلم النفس الجماعي... اما ما يهمنا هنا, فهو الرابط الذي قد يمكن لنا ان نقيمه بين الجديد الذي تقدمه السينما التاريخية, والحكاية التي نقلناها عن صلاح عيسى. ولعل ما تم تداوله حين الكتابة عن فيلم "الملك آرثر" الذي يعرض حالياً, وهو من اخراج انطوان فوكوا, يشكل خلفية طيبة لهذا الحديث. ذلك ان السمة الاساسية التي توقف عندها النقاد كانت اصرار الفيلم على ان يستعيد الملك آرثر من الاسطورة - بل الاساطير الكثيرة التي احاطت بشخصيته ومآثره على مدى التاريخ - ليضعه في قلب التاريخ الممكن - وعن عمد لا نقول هنا: التاريخ الحقيقي, طالما ان نظرة الفيلم لا يمكن اعتبارها نهائية الى ملك أُسطر الى حد لا يطاق - ويقينا ان محبّي الملك آرثر وأنصار حكايات "روبن هود" و"فرسان الطاولة المستديرة" وحتى "البحث عن غرال" وغير ذلك من الحكايات والخرافات التي ارتبطت بسيرة ذلك الملك "الغامض", لن يروقهم ابداً ذلك الاعتداء على الاسطورة, حتى ولو كان لحساب نظرة واقعية الى التاريخ.

غير ان المسألة هنا تتجاوز هذا الامر, لتضعنا في قلب دور جديد للسينما: دور المكان الذي يحظى فيه التاريخ بامكان ان يعاد النظر فيه, بل حتى ان يعاد الاعتبار اليه... وليس طبعاً بسبب ما يقال عادة من أن الصورة لا تكذب. فنحن نعرف ان الصورة تكذب وقد يكون كذبها اكثر خطورة من كذب النص المكتوب, بل لأن السينما يمكنها بفضل جماهيريتها, وقوة تعبيرها كفن, إن صنعها فنانون حقيقيون, ان تقنع المتفرجين بمحاججاتها, بخاصة اذا كانت هذه المحاججات منطقية. وفي فيلم كفيلم "الملك آرثر" كما في "طروادة" كما قبلهما في "المصارع" وربما كما سنرى قريباً في "الاسكندر" كما يصوره اوليفرستون, يمكن للمنطق ان يبدو واضحاً حيث يزيل الأسطرة او وهم الحقيقة... ولكن ليس فقط عبر الحديث المحايد عما يمكن ان يكون قد حدث, بل ايضاً عبر تدخل لصانع الفيلم, يفاجئ ويدهش ويضع المتفرج على تماس تام مع فكرة جديدة قد تنسف له كل الأفكار التي كان صاغها لنفسه من قبل, او صيغت له. ولعل المثل الساطع على هذا يطالعنا في ذلك المشهد الشهير الذي صوره يوسف شاهين عند بداية فيلمه "وداعاً بونابرت", حينما يقف نابليون عند الأهرامات مخاطباً قواته بالعبارة التي تتحدث عن تلك السنوات الأربعة آلاف التي تنظر إليهم من اعلى هذه الأهرامات. هذه العبارة حقيقية وكان يمكن لتصويرها وإيرادها في الفيلم ان يكونا محايدين ايضاً. فماذا فعل شاهين الذي اراد هنا ان يدلي بدلوه في تفسير التاريخ؟ انتقل من فوره الى كافاريللي (وهو واحد من العلماء الذين اصطحبهم نابليون في حملته مضفياً عليها طابعاً علمياً فكرياً يكمل طابعها العسكري ويحسنه) وجعله يتمتم: "ها هو الأحمق عاد الى اسطوانته القديمة...".

واضح ان هذا التدخل "الذاتي" من يوسف شاهين, في واقعة تاريخية "موضوعية" معروفة, إنما اتى هنا ليعيد تفسير تلك الواقعة, مما اعطى فيلمه كله طابعاً مختلفاً عما هو متوقع (وفي يقيننا ان الذين كتبوا عن الفيلم من النقاد وغير النقاد العرب, معتبرينه مؤيداً لـ"احتلال" بونابرت مصر, لم يفهموا فحوى تلك العبارة, ولم يدركوا ابداً سر تدخل شاهين في المشهد على ذلك الشكل. اعتبروا الأمر بالأحرى مجرد نكتة فضحكوا!). لقد برهن شاهين في الحقيقة ان لغة السينما, موضوعياً وتقنياً, تبدو لغة صالحة جداً لقول ما لم يكن في الإمكان قوله بأية لغة اخرى. وبرهن ان سحر السينما يكمن في هذا المجال ايضاً.

ولكن يبدو واضحاً ان الدرس "السينمائي التاريخي" الذي يمتد من شاهين الى "الملك آرثر" ليس درساً من السهل استيعابه, لا في السينما العربية - اين التاريخي منها يا ترى؟ - ولا في التلفزات العربية التي تمتلئ الى حد التخمة بكل تلك المسلسلات التي تزعم الحديث عن التاريخ بينما هي لا تتحدث في الحقيقة إلا عن الماضي - كقطب ميت جامد يتعارض تماماً مع حيوية التاريخ -. بل انها, لجمود حديثها الماضوي هذا, لا تستنكف تشويه التاريخ واختزاله لكي يظل بطولياً يتحدث عن "امجاد الأمة" و"نقاء ابطالها الميامين". ولعل مثلاً واحداً تأخذه من مسلسل - لن نسميه - حقق خلال العامين الأخيرين عن واحد من "ابطال" التاريخ الأموي في الأندلس يكفي للتعبير عن هذا كله: ففي الواقع التاريخي الذي قرأناه لدى عنان وليفي بروفنسال ولدى معظم الذين أرّخوا للأندلس... كان في خلفية تحرك ذلك "البطل" وصولاً الى انقلابه العسكري وسيطرته على مقدرات الدولة, جارية اجنبية هي اورور (صبح في الصيغة العربية), ارملة الخليفة الراحل وأم ولديه, و- تقريباً - عشيقة القائد البطل الذي طلع من صفوف الشعب ليصبح سيد الأمة. فما الذي فعله المسلسل؟ بكل بساطة ألغى تلك الجارية/ الملكة... محا وجودها. اذ, هل يعقل, في رأي اصحاب المسلسل, كما في رأي جمهورهم الضليع في قوميته وتمسكه بماضيه, ان تقف امرأة... وبيضاء... وأجنبية وعلى غير دين البطل, وراءه لكي تملي عليه تحركاته؟ صحيح ان وراء كل عظيم امرأة... ولكن طبعاً ليس حين يكون هذا العربي اصيلاً نقياً, وتكون المرأة اجنبية وجارية...! فما العمل؟ العمل الوحيد الممكن هو انتظار ازمان نضج مقبلة, تدرك فيها فنوننا العربية ان التاريخ غير الماضي, وأن فنون الصورة يمكنها ان تساهم في تصحيح الصورة... وكذلك في تشويهها والخيار لنا. وفي انتظار ذلك سنظل نعجب بـ"الملك آرثر" ونلعن يوسف شاهين الى ابد الآبدين.

جريدة الحياة في 6 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

السينما.. التليفزيون والتاريخ

إبراهيم العريس