كنت اعمل في احدي المؤسسات الصحفية العربية في لندن حين تعرفت علي الأستاذ "ع" او "عين" الذي كنت التقي به في غرفة التدخين، وكانت ملتقي اشبه بنادي مفتوح 24 ساعة للعاملين في الجريدة ومطبوعات المؤسسة من المدخنين. كان تجاوز الستين بقليل، ويسعل دائما كما لوكان مريضا بالتهاب في الحلق والصدر والشعب الهوائية، ومصابا بالسل، علي الرغم من أني لم اره يبصق دما ابدا، وتصادقنا بسرعة. كان "عين" يأتمنني علي كل أسراره ويقول عني اني أمين وكتوم وأجيد الاصغاء. ذات يوم ابلغته في غرفة المدخنين بأني ساسافر الي مصر لزيارة اختي اصلاح التي تسكن في حدائق حلوان، وسألته ان كان يريد ان احمل معي أي شييء خفيف لأهله في مصر، فأعطاني "عين" حقيبة صغيرة لاحملها الي شقيقته مديحة التي تعيش في الاسكندرية. الا اني لم اسافر الي مصر لأسباب كثيرة، واحتفظت عندي بالحقيبة لفترة، ثم انتقلت للعمل من باريس كمراسل للمجلة التي كنت اعمل فيها مع السعوديين في لندن، وبسبب انشغالي، انقطعت عني اخبار "عين" حتي علمت ذات يوم بأنه انتقل الي رحمة الله، فحزنت كثيرا. هذه هي حال الدنيا قلت لنفسي، وانا لله راجعون، وصبرت نفسي، فهكذا، هكذا كانت تردد كليوباترا مع امي الحاجة سيدة، وجدي الشيخ الحاج سيد محمد مرزبان في حينا قلعة الكبش. وكنت اقول ل"عين" انه كان يشبه جدي مقريء القرآن في اشياء كثيرة، ولا اعلم الآن لماذا لم اصارحه برغبتي في الزواج من سارة ابنة مديحةشقيقته الارملة التي كنت اتردد علي منزلها في حي الانفوشي في الاسكندرية، وكان يحملني هدايا لها في كل مرة اهبط فيها الي مصر، ولم أكن أظن ابدا اني سأجرؤ بالطبع علي مصارحته بأني ضاجعت الأم والابنة، فالمؤكد انه كان بوعي او من دون وعي منه، كان ارسلني لهذا السبب الي هناك، كما لم احاول ابدا فتح الحقيبة، ومعرفة محتوياتها، وكنت اؤجل ذلك الامر الي فرصة قريبة. كنت احب "عين" لانه كان يحكي لي حكايات غريبة مسلية مثل جدي الحاج سيد. ذكر لي "عين" مرة بأنه التقي ملكة مصر كليوباترا، بدمها ولحمها أجل، في احدي مركبات الاندرجراوند في لندن، ومرة اخري قال لي ان رجالا في ملابس بيضاء مثل العاملين والممرضين واطباء المتشفيات قبضوا عليه في الاندرجراوند، و لم يقل لي بالضبط من هم فقد كان هذا مايحاول معرفته مني- واقتادوه الي احدي المتشفيات، واجروا عليه تجارب طبية، ثم اعطوه بضعة اقراص في علبة، ونبهوا عليه بان يبتلع قرصا قبل النوم، واذا استيقظ فجاة بسبب كابوس مرعب انقض عليه في نومه، فعليه عندئذ ان يبتلع قرصا آخر، و لما طلبت منه ان يحضر لي علبة الاقراص تهرب، واخذ يضحك طويلا في خجل. وكانت مشكلة "عين" الكبري انه كان يحلم باخراج فيلم بعوان "البحث عن كلام العيون" لم يستطع ان ينجزه في حياته، ولذلك كان يحكي لكل الناس عن قصته، ولست متأكدا بالطبع من ان كان "عين" حكي لكم حكاية فيلمه هذا. ماعلينا. أجل كان يحلم "عين" بفيلم، وكان ينتهز جلسات تدخين الحشيش التي تجمعنا ببعض الفتيات الايرلنديات لكي يحكي لي بالتفصيل عن حكايته قبل ان يموت. وحكي لي "عين" مرة هذه القصة الغريبة. قال انه في قسم الآثار المصرية داخل المتحف البريطاني في لندن كانت ترقد جثة مومياء في الظلام الحالك الا من بضع أضواء خافتة تتقاطع مع الرأس والوجه والجسد المسجي. يسمع أنين للمومياء في الحبس. يصل بعض اعضاء حرس المتحف وفي صحبتهم فتاة صغيرة. تجلس الفتاة خارج الباب تنتظر. يدلف حارسان مجنحان الي الداخل. تلقي فتاة من فوق كوبري قصر النيل بوردة الي المياه وتراقبها والتيار يسحبها الي البعيد. يبلغ الحارسان الجثة المطوقة بأن عودتها الي البلاد رهن بعثورها علي مخطوط قديم ضائع كتبه كبير الكهنة في عهد الدولة الحديثة، ويشتمل المخطوط علي خريطة لمواقع كنوز المعابد التي تم اخفائها واهالة التراب عليها في انحاء مصر سرابين الوادي والجبل، واحد لايعلم بأمرها.بعد قراءة التقرير علي جثة المومياء الراقدة في الداخل يخرج الحارسان المجنحان. بعد قليل يصل المواطن المصري الصحفي جمال منصور ( 45سنة) المقيم في باريس، يصل الي بلده مصر في حر شهر يوليو، للبحث عن نسخة فيلم ضائع (فيلم تسجيلي 16مم بوزيتيف (موجب) - نسخة واحدة ) بعنوان "كلام العيون" يحكي عن مصر ويقص حكاية شعبها، كما يرويها حكواتي في مقهي شعبي عتيق، كما في مقاهي السيدة زينب، وقد التف حوله رواد المقهي، وراحوا يصغون .وكان جمال منصور اخرج هذا الفيلم "دوبل باند" بببوبينتين او شريطين، شريط صورة وشريط صوت، كما سوف نعرف من بعد، اخرجه في باريس حيث كان يدرس السينما، وموله بالمجهود الذاتي، و بمساعدة اشخاص من الجالية المصرية التي تعيش هناك، وهذه هي باختصار قصة الفيلم الضائع الذي يدعي "كلام العيون " الذي اخرجه بالفعل جمال منصور وقت ان كان شابا وثوريا وماويا في فترة السبعينيات، والظروف والملابسات العجيبة التي تحكمت بصنعه، وكما سوف نتبينها ونفهمها هنا، وكذلك اثناء عملية البحث عن ذلك الفيلم الضائع في بر مصر. قال عين: تذكر انه في عام 1976 كان الرئيس المصري انور السادات قد وقع معاهدة سلام كامب دافيد مع اسرائيل التي عارضتها قطاعات كبيرة من الشعب المصري، واراد الرئيس السادات اخراس المثقفين المصريين علي كافة اتجاهاتهم وبخاصة بعد ان خرجت مظاهرات غاضبة ناقمة في الشارع المصري "ثورة الخبز" التي اطلق عليها الرئيس انتفاضة حرامية، فقامت السلطة بقمعها واعتقلت الشرطة عشرات المثقفين المصريين من ضمنهم صحفي وكاتب سياسي مصري كبير،، وكرد فعل من بعض افراد الجالية المصرية في باريس - طلبة ودارسين وصحفيين ورجال اعمال ومدرسين في الجامعة - تجاه تلك الاحداث التي كانت تعصف بوطنهم مصر، اجتمعوا في باريس، وفكروا في انجاز عمل ما، يؤكد علي تواصلهم مع مصر وشعبها، وتضامنهم مع نضالاته، وتفكيرهم الدائم في وطنهم في غربتهم، وخرج احدهم الشاب جمال منصور بطل الفيلم، وكان ذهب الي باريس ليدرس السينما، واشتهر ككاتب قصة قصيرة واعد قبل سفره للدراسة، خرج بفكرة عمل فيلم، هو فيلم "كلام العيون" من النوع التسجيلي لكي يحكي قصة مصركما يرويها حكواتي في مقهي شعبي في حي السيدة زينب، وقد التف حوله الناس والاطفال ورواد المقهي ويبدا الفيلم بلقطة كبيرة لشجرة جميزخضراء عملاقة ثابتة مثل الوتد في المكان، لاتهتز ابدا مع الريح، ومن ارادها مثل مصر بسوء قصمه الله، ونري اشعة الشمس الذهبية تخترق فروعها وتمسح بحنان علي اوراقها، وكأنها تداعبها وتهدهدها، ويسمع لتلك المداعبة حفيف غير ان الحكواتي الذي يحكي قصة الفيلم لايظهر في صورة الشجرة، لكننا نستمع فقط عبر شريط الصوت في اول لقطة الي اصوات تحريك الملاعق في اكواب الشاي الساخنة وشفطات احتساء الشاي الساخن بنهم، والاصوات التي توحي باجواء المقاهي الشعبيةونستمع الي صوت الحكواتي الحاج خليل الشعشاعي : " كان فيه مرة واحدة بتحبل تجيب عيال، بس مش كل العيال كان فيه واحدة بتحبل تجيب عيال، بس مش كل العيال بس مصرمش أي واحدة تحبل تجيب عيال بس مصر واحدة تحبل تجيب زين العيال وتردد الجوقة في مايشبه الكورال في المقهي مع خليط من اصوات النرجيلة وشد الانفاس وحركة الشارع في الخارج
تردد معقبة علي الحكواتي : الله الله، مصر واحدة تحبل تجيب زين العيال علي ضي شمسك نعشق ونتدفي يامركبة الزمن مافل مجدافها نتغني والهلال في عشقك الحلال والحنة والزفة ونري في الفيلم مراكب في النيل تبحر في ضوء القمر وهي صور ثابتة علي حائط الغرفة الصغيرة التي صور فيها الفيلم في باريس غرفة الطالب المصري الذي يدري السينما وهي في الاصل غرفة لسكن الخدم وتضم صالة وضع فيها الكاميرا 16مم التي اقترضها من قسم السينما في جامعة فانسان حيث كان يدرس وهي الكاميرا الوحيدة في القسم وقد انتصبت في وسط الصالة امام صور مصر التي اقتطعها من الكتب التي تتحدث عن مصر وتضم صورا غوتوغرافية قام بقصها ولصقها علي الحائط وتضم صورا للمعابد والاثار، كما اضيف الي الفيلم بعض اللقطات التسجيلية المهربة للمظاهرات والزحام والطوابير الواقفة امام الجمعيات التعاونية وتصور شقاء الناس الغلابة المحرومين الذين لم تنجح اتفاقية السلام في تغيير حياتهم، بل فتحت الباب لطبقة جديدة من القطط السمان في عصر الانفتاح الاقتصادي، صنعت ثرواتها من العمولات وتوكيلات الشركات الاجنبية في مصر وينتقد الفيلم الشيوعيين المصريين كما ينتقد الاخوان المسلمين وسلوكياتهم وتطرفهم، ولا ينصح باتباع جماعة سياسية محددة ويستخدم فن التحريك للسخرية من الرئيس الذي يظهر في مشهد في مجلس الشعب، ونتابع مسخرة لعبة الديمقراطية في مجلس المصفقين والمنافقين كما وصف في ذلك الحين ونسمع احدهم يردد هتافا في مظاهرة ويقول : جابلك ايه ياصفية( زوجة المناضل الوطني المصري سعد زغلول ) جابلك ايه ياصفيةعبد الناصر لما مات ؟ جابلي عجل من المنوفية اسمه انور السادات ويهبط سيف فجأة من خارج الكادر في فيلم " كلام العيون " ليطيح برأس الرئيس في مجلس الامة ويفصل رأس الرئيس عن جسده كما في افلام الرسوم المتحركة وينتهي الفيلم باغنية للشيخ امام وكلمات احمد فؤاد نجم انه لاخلاص الا بالرصاص وتظهر المجموعة التي صنعت الفيلم وهي تحمل البنادق وتغني النشيد وتتردد عبر الفيلم هتافات ان الشعب المصري الذي صبر طويلا علي الظلم والقمع والالم لا يستطيع ان يخرس الي الابد وهو حتي ان اعتقلوا كل مثقفيه والقوا بهم في خلف القضبان في الحبس فسوف يهب حتما ذات يوم وينتفض ووقتها سوف يقوم ويكسرالحاكم، وكان ذلك الامر الذي استشرف الفيلم وقوعه ونبه اليه بخروج احد افراد الشعب واغتيال الحاكم .حدث هذا بالفعل بعد عرض الفيلم- الذي صنع ببونتين بوبينة صورة وبوبينة صوت،ويحتاج الي جهاز عرض "دوبل باند" يستوعب الشريطين ويعرضهما في وقت واحد - عرض مرة واحدةفي باريس في مدرج من مدرجات جامعة فانسان باريس 8. عرض فيلم " كلام العيون " اخراج جمال منصور يوم 5 يونيو 1976 وشاهد الفيلم الذي هو ببوبينتين او شريطين شريط للصوت وشريط للصورة حشد من المصرييين والعرب عراقيين وسوريين وفلسطينيين ووزعت عليهم قبل الدخول نظير مبلغ ضئيل كراسة تضم نص الفيلم واغانيه مترجمة الي الفرنسية ليقرأوها قبل عرض الفلم بدون ترجمة وبلغته الاصلية حتي يفهموا موضوعه ويتمعنوا في اغانيه ومن ضمنها هذه الاغنية ماتهل علينا ياقمر الصبح يامنور ومدور هل علينا تبقي قلوبنا جوه عنينا تبقي عنينا جوه قلوبنا وتهل علينا ماتهل علينا بقي ياقمر الصبح يامدور ومنور هل علينا
وهي جميعها تستلهم اغاني التراث واغاني الاطفال الشعبية الشفهية وتركب
عليها مضامين ومعاني وحكايات جديدة مروية علي لسان ابن البلد وزين العيال
الذين انجبتهم مصر وتاريخها العريق الممتد في الزمن الي سبعة الآف عام مضت
وكان الفيلم صور بافلام مهربة من وحدة انتاج في التلفزيون الفرنسي وبيعت
لمخرج الفيلم بنصف سعرها وانتج الفيلم بتبرعات من افراد الجالية المصرية
الذين راحوا يتوافدون علي تلك الغرفة الصغيرة في ميدان " بوليفار جرونيل "
في الحي الخامس عشرالتي تقع في اعلي دور وتطل علي شريط المترو المتجه من
ناحية الي ميدان الاتوال " النجمة " ومن ناحية اخري في الاتجاه المعاكس الي
بوابة او بورت دو فانسان، ويتابعون بشغف مراحل انتاج هذا الفيلم " كلام
العيون " الذي صنع باموالهم وتمر الايام، فيسافر حسن توفيق الي الريف ويتزوج من ممرضة فرنسية ويسافر مصور الفيلم مع شريطي " كلام العيون " شريط الصورة وشريط الصوت الي لندن، حيث يستطيع هناك بفضل عمل احد اصدقائه في معمل سينمائي ان يستخدم التسهيلات التي يتيحها المعمل في ضم الشريطين في شريط واحد بوزيتيف للاحتفاظ بهذا الفيلم "التاريخي" الذي استطاع ان يمسك بلحظة توهج مصري حقيقي، لحظة تفاعل ابناء مصر في الغربة في فرنسا مع الاحداث التي تعصف بوطنهم، وتبلور مشاعرهم تجاه تلك الاواصر الخفية التي تربطهم دوما بمصرالام الوطن ونيلها وطيبة والفة المصريين وبساطتهم ويمسك بذلك النشيد المقدس الذي تغني به جندي من جنود فرعون بعد ان تاه في الصحراء وعاد الي وادي النيل وشط مصر، وعندما يبدأ النشيد نشاهد في الكادر مناظر بانورامية للسماء وتكوينات لقطات من حياةالدلتا والمنظر الطبيعي للحقول الخضراء الساحرة الممتدة الي مالانهاية مأخوذة من نافذة طائرة هاهنا تحت هذه السحب الراحلة في سماء مصر يحط الطير المهاجر علي شواطيء البحر الواحد وتخضر عيناه في اخضرار الموج القادم متلهفاللقاء والفناءوالغناء والميلاد المتوسم في حضن البحر فهل هي ياتري الرغبة فقط في لقاء المكان بعد طول سفر؟ صوت : ايها الطير المهاجر وهل لك من صاحب خير من زهرة اللوتس التي تتعلم التحليق ؟ الطير المهاجر داخل رسم فرعوني في معبد مصري فرعوني قديم يغمر زهرة اللوتس بقبلاته( جرس كنيسة، علامة الصليب،عش حمام تنطلق منه حمامات كثيرة ) فيتفتح رحم الزهرة ليغمر حزن انكسارات البدايات المتعثرة بينابيع الامل وتقف زهرة اللوتس في صمت المساء لتتحدي يااولاد اندفاعات الريح المجنونة وتغني لفرح اشراقات النور علي سطح البحر الواسع ويكتمل النشيد عندما يعلن الراوي انه: في المساء عندما تجرفك احزان اليوم المثقل بهموم المدن الشاحبة المنقرضة سوف يجيئك ايقاع نغماته تسبح مع التيار ويكون صدي اقدامه بوم بوم بوم يدوي في الافق بنشيد الانتصار الاول استطاع فيلم " كلام العيون " ان يمسك بروح مصر بعفويته وبساطته ليشكل من دون قصة تتطور في الفيلم من بداية ووسط ونهاية، مجموعة بورتريهات او صور متحركة ملتهبة العواطف لتكون تعبيرا عن حضور مصري في الغربة متفاعل مع حضارة بلده وسحرها ولغزها وجوها وامتدادا لها، حضور لايجد افضل من كلام العيون لكي يخاطب بلده واهلها ويعبر عن حبه لها وعشقه لارضها. وكان من الصعب بالطبع ان يعرض مثل هذا الفيلم" كلام العيون " في مصر لانه يدعو الي حمل السلاح في مواجهة الظلم الذي تمارسه السلطة علي شعب مصر، ويحث بل يحرض علي التمرد والتخلص من الحاكم الظالم، لذلك بقي كلام العيون حبيس العلبتين، علبة بها شريط الصورة وعلبة اخري بها شريط الصوت الي ان حملهما مصور الفيلم معه الي لندن، عله يستطيع بمساعدة ذلك الصديق ان ينجح في ضمهما في علبة واحدة سهلة الحمل، لكي يعرض فيمابعد في مصر كوثيقة علي فترة وشاهد علي زمن وحضور، يعرض في مصر عندما تستقر الاوضاع ويتبدل النظام، وتحين الفرصة المناسبة لعرضه. وتمر الايام، وتتفرق المجموعة التي صنعت الفيلم ويلتحق الصحفي جمال منصور للعمل في مجلة اسبوعية لبنانية هاجرت بعد نشوب الحرب الاهلية في لبنان الي باريس ويشرف فيها علي قسم خصص لمناقشة قضايا المهاجرين العرب في فرنسا والعالم، ويتفرغ تماما لعمله الصحفي، ويسافر لعمل تحقيقات عن المهاجرين العرب في اوروبا واميركا، لكنه يظل يحمل في قلبه فيلم "كلام العيون" وكان احد الدارسين العراقيين شاهد ملصق الفيلم الذي علق في اماكن التجمعات الطلابية في العاصمة ويدعو الي مشاهدة الفيلم بالمجان في جامعة فانسان الشهيرة فحضر عرض الفيلم واعجب به كثيرا وكان يراسل مجلة للمعارضة العراقية تصدر في لندن فكتب مقالا عن هذا العمل الذي اعتبره حدثا سينمائيا مهما- لاتصاله مباشرة مع الاحداث التي عاشتها مصر في تلك الفترة أي بداية السبعينات - و يرقي الي مستوي افضل الافلام الكفاحية التجريبية التي عرفتها السينما العالمية في تاريخها، وكان مندهشا من ان يصنع فيلم كهذا ويشاهده ويحبه الناس، وهو مصنوع بتلك الامكانيات الضئيلة التي لاتذكر وفتات الموائد من الافلام، وان يتحمس المصريون المغتربون لصنعه في باريس لكي يعرض علي الناس وينقل وجهة نظرهم ولايبخلون بالتبرع له من اموالهم لشراء شرائط الخام. وتمر سنوات وينشغل كل فرد من المجموعة التي صنعت الفيلم بحياته، وذات يوم يكتشف جمال منصور مخرج فيلم "كلام العيون" ان سمير مصور الفيلم اختفي من لندن، بعد ان اشتغل سائق تاكسي لفترة، ومل الحياة في لندن، وسمع انه عاد نهائيا الي مصر وهو يلعن الغربة في كل مكان، وحمل معه فيلم "كلام العيون" واحد لايعلم ان كان اثناء تواجده في لندن نجح في ان يضم الشريطين لهذ الفيلم "كلام العيون" الذي عرض يوم 5 يونيو - ذكري النكسة- عام1976 في جامعة فانسان في باريس (وكان من ضمن الحضور وشاركوا في التبرع لشراء خام الفيلم وتابعوا مراحل صنعه في تلك الغرفة الصغيرة في بوليفار جرونيل صحفي مصري معروف ومديرة قسم السينما في احد المعاهد الثقافية العربية في باريس ومخرج سينمائي مصري يدعي عنان نديم (الذي كان كثيرا مايردد بعد ان شاهد الفيلم انه كان يتمني ان يصنع فيلما كهذا ثم يتوقف عن اخراج الافلام والي الابد) احد لايعلم ان كان مصور الفيلم سمير نجح في ان يضم الشريطين في شريط واحد اثناء تواجده في لندن.. وحين يتيقن جمال منصور من ان سمير غادر بالفعل لندن نهائيا وعاد الي مصر- قال البعض ان سمير الذي كانت له ميول دينية كان قبل ان يقوم بتصوير فيلم "كلام العيون" انضم الي احد الجماعات الاسلامية المتطرفة وكانت هذه الجماعة طلبت منه ان يذهب ليصور حال اللاجئين الافغان في بيشاور علي حدود الباكستان فذهب الي هناك بالفعل وصور لحسابها فيلما تسجيليا فلم تدفع له مستحقاته فسخط عليها وعلي تلك الجماعات ونفث عن سخطه في الانتقادات التي وردت في مابعد في فيلم "كلام العيون" بشأنها، وتفضح اساليبها الخبيثة الملتوية في استقطاب البشر بكافة المغريات والكلام المعسول ثم استغلالهم و تسخيرهم من بعد في خدمتها، وكان ناقما واعتبره البعض مرتدا، وعرف في مابعد انهم علموا بامر الفيلم وشاهده احدهم- مبعوث خاص - من ضمن الحضور الذي اتي لمشاهدة الفيلم، وكتب تقريرا ضد الفيلم نوه فيه بضرورة التخلص منه باية وسيلة (انظر التقرير الملحق) لانه يسييء الي سمعة الاخوان المسلمين، ويسخر منهم ويهزأ بالاعيبهم ويكشف عن استخدامهم الارهاب باسم الاسلام للوصول الي سدةالحكم. وحين يتيقن جمال منصور من ان سمير عادالي مصر بفيلم "كلام العيون" يقرر ان يذهب الي مصر للبحث عن "كلام العيون" ويعرف ماذا حدث لهذا الفيلم وعندما يصل الي مصر يتصل باخت سمير وتدعي سناء، التي تعمل ممرضة في مستشفي الساحل التعليمي في بولاق، يتصل بها هاتفيا ويقدم لها نفسه ويطلب تحديد موعد، ويذهب ليتعرف عليها ويسألها اين سمير فتخبره سناء بعد ان يحكي لها قصة الفيلم واسباب مجيئه الي مصر ان شقيقها سمير عاش فترة في القاهرة بعد عودته من لندن، وكان علي علاقة قبل سفره الي الخارج بصديقة له في الجامعة، عملت بعد تخرجها وسفره الي الخارج بالتمثيل السينمائي، واصبحت خلال سنوات غيابه في الغربة ممثلة مشهورة، وحاول سمير بعد عودته ان يقنعها بان تعتزل التمثيل وتسافر معه بعد ان مل حياة القاهرة الي ريف قريته علي حدود اسوان حيث قرر ان يعيش بعد تجربة سنوات طويلة في الغربة بين باريس ولندن ان يعيش منعزلا عن تلك المدن العملاقة التي تطحن البشر وتقضي علي انسانيتهم، لكنها لاتقتنع بفكرته وترفض ان تسافر معه- هكذا تحكي لجمال منصور حين يلتقي بها ليعلم كيف وجدت سمير حبيبها القديم عند عودته وان كان تغير - لانها تؤمن بانها تستطيع تغيير احوال السينما المصرية من الداخل ولن تستفيد السينما المصرية من هروبها معه الي تلك القرية البعيدة وتقوم بتمثيل دور صديقة سمير ممثلة مصرية وتحكي في الفيلم عن حياتها وهموم المهنة في وسط مسموم وغير صحي وهي تخاطبنا في الفيلم وتلعب دورها الحقيقي وتخلط بين الدور الذي تمثله وبين شخصيتها، ويحكي الفيلم عن رحلة جمال منصور الي القاهرة، ولقائه بسناء، وتعاطفها معه وتنشأ علاقة حب بين جمال الغريب وسناء التي تقرر ان تصطحبه في رحلته داخل القاهرة اولا، ثم وداخل مصر حتي بلاد النوبة في اقصي الجنوب بحثا عن كلام العيون.. ويعرض الفيلم اثناء عملية بحثهما، بانوراما عبر تلك المحطات التي سوف تتوقف عندها الرحلة، لواقع ومشاكل وحياة الناس، اذ يعتمد اسلوب الفيلم عبر تلك الرحلة المفتوحة الي الجنوب علي عنصرين مهمين: عنصر الارتجال، أي الانفتاح علي المفاجآت التي سوف تقع وتتضمنها الرحلة بالسيارة، رحلة المخرج جمال منصور وسناء وطاقم الفيلم للبحث عن سمير وفيلم "كلام العيون"، لتكون استكشافا مفتوحا علي الحياة والبهجة والدهشة، ففي اللحظة التي تتوقف بمجموعة العمل السيارة في محطة علي الطريق، ويسأل الناس المجموعة عما يبحثون، وتكون الاجابة: نبحث عن فيلم صنع في باريس عام 1976، يرد الناس لماذا تبحثون عن فيلم قديم، ولم لاتصنعون الان فيلما عن حياتنا الان، تعالوا صوروا داخل بيوتنا واحكوا عن مشاكلنا، وحياة قريتنا، فتحمل المجموعة الكاميرا وتمشي خلف الناس، وتصور فيلما يحكون فيه عن اهم مشكلة تواجههم، وبحيث يشكل الفيلم في النهاية، سلسلة من الحكايات عن حياة الناس في مصر ومشاكلهم او لا مشاكلهم، مثل لغز او سر هذه البلاد مصر، الذي لم يكتشفه احد بعد، عبر تلك المحطات التي سوف تتوقف عندها تلك القافلة الصغيرة المسافرة في بر مصر للبحث فيها عام 2004 عن "كلام العيون". اما العنصر الثاني الذي سوف يعتمد عليه الفيلم، فهو عنصر المزج بين المشاهد التسجيلية والمشاهد التمثيلية، كما في افلام المخرج الايراني عباس كياروستمي مثل فيلم "عبر اشجار الزيتون" وكما في فيلم "مذكرات حميمة" للايطالي ناني موريتي، وخلال عملية البحث تتقاطع مشاهد الرحلة واحداثها في الفيلم الجديد "البحث عن كلام العيون" مع صور ومشاهد من الفيلم القديم "كلام العيون" الذي يترآي لجمال منصور في صحوه ومنامه، كما يتأكد ايضا خلال الرحلة لجمال منصور انه مراقب، وهو احساس عادة ما ينتاب المهاجر اذا عاد الي بلده، وان ثمة عيون خفية تتعقب وترصد حركته في المكان، حتي انه يتساءل ان كان ثمة جهات اخري يهمها العثور علي ذلك الفيلم والوصول اليه قبله، وربما كانت هذه الجهات، تسعي الي تدمير تلك الوثيقة وتريد ايضا القضاء عليه، ولابد من ان يحترس ويخشي علي حياته منها،وهو يخوض في مصر تلك المغامرة المفوفة حقا بالاخطار مغامرة "البحث عن كلام العيون". وقد يعثر جمال منصور علي سمير في تلك القرية البعيدة في الجنوب، ويصحبه الي مخبأ الفيلم "كلام العيون" في اعماق الجبل الذي ترقد القرية الصغيرة في احضانه، وكان علي مايظهر دفنه هناك، لكن المهم ان جمال منصور يكتشف ويكتشف المتفرجون معه، ان الفيلم الذي يبحث عنه، هو الفيلم الجديد الذي نشاهده الآن وتساقط مشاهده تباعا علي الشاشة، فليس المهم العثور علي فيلم "كلام العيون" بل المهم هو الرحلة ذاتها رحلة البحث عنه، وعبور وتطواف مصر لاستكشاف لغزها وسرها وسحرها الان.وتظهر الكلمات التالية وتنزل علي شريط الفيلم قبل كلمة "النهاية" ان "يقينا لن نتوقف ابدا عن الترحال و الاستكشاف، غير ان كل رحلة نقطعها، سوف تعود بنا في نهاية المطاف، الي ذات المكان الذي انطلقنا منه، لكي نعيد استكشافه من جديد، ونتعرف عليه ربما للمرة الاولي" وهي، كما حكي لي "عين" مقطع من قصيدة للشاعر البريطاني ت.اس.اليوت، مؤلف قصيدة "الارض الخراب". هذه هي حكاية الفيلم الذي كان صديقي المرحوم "عين" يحلم بصنعه في مصر لكن لم يمهله الوقت. ياخسارة. احيانا اتسلي بقطع الوقت في معرفة من يقوم بدور البطولة في الفيلم من الممثلين المعروفين في مصر. اقول ان يسرا مثلا تصلح لتمثيل دور الممثلة المشهورة صديقة المصور سمير قبل ان يسافر الي الخارج التي التقاها عند عودته الي مصر وطلب منها ان تعتزل التمثيل وتهرب بجلدها من اجواء السينما التجارية الاستهلاكية التافهة التي يصنعونها هناك واشعر احيانا ولاادري لماذا اني حزين مثل قبر. واحيانا اتساءل أين دفن سمير الفيلم داخل الجبل، وماذا حدث عندما اقتاد سمير صديقه جمال الذي يبحث عن فيلم "كلام العيون" وصعدا الي قمته، ولاادري لماذا كنت احس برغبة في ان اتطلع مثلهما من علي قمة ذلك الجبل في صعيد مصر، كي اتأمل في ذلك المنظر الطبيعي البانورامي الساحر في الجنوب وامتداداته في الافق، وهو ينبسط مثل نشيد صوفي، نشيد يصالح مابين الكائنات و المخلوقات ويربطها في عناق ابدي مع حركة الكون، نشيد كنت اطمح منذ زمن الي ان اسافر معه مثل سحابة راحلة،كي ادلف الي المياه من دون وجل.
موقع "إيلاف" في 19 يوليو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
البحث عن كلام العيون صلاح هاشم |
|