شعار الموقع (Our Logo)

 

 

انه "امبراطور" السينما اليابانية بامتياز... ومن الصعب على أحد ان يتصور ان ثمة حاجة لمزيد من الشرح والتفسير, أو حتى التعريف, حين يذكر هذا الفنان الكبير بلقبه الامبراطوري هذا... بين هدأة الفن السابع على الأقل. فأن تقول "امبراطور" في عالم السينما معناه أنك تقصد اكيرا كوروساوا, الراحل في العام 1998 عن ثمانية وثمانين عاماً, بعد ان ملأ دنيا السينما ضجيجاً بحضوره المتميز, ثم خاصة بأفلامه العديدة والتي قفزت بالسينما اليابانية الى خارج حدود اليابان... وجعلت حتى أغرب الأسماء معروفاً ومتداولاً وأحياناً شديد الالفة.

ولكن قبل أكثر من نصف قرن من يومنا هذا, حيث عرض فيلم "راشومون" في مهرجان البندقية في ايطاليا, لم يكن أحد يعرف شيئاً عن صاحبه, ولا عن السينما اليابانية نفسها... بل لم يكن أحد ليعرف أي شيء عن كل ما يمت الى ثقافة اليابان بصلة. فجأة في العام 1951 عرض "راشومون" الذي كان صاحبه قد أنجزه قبل ذلك بعام... وفغر أهل السينما افواههم, ليس فقط لغرابة الفيلم وغرابة موضوعه. وليس فقط لأنهم, في زمن الاكتشافات السينمائىة الآتية من خارج الحلقات الأميركية / الأوروبية المعهودة في ذلك الحين, اكتشفوا عالماً سينمائياً جديداً - بل ايضاً وعلى وجه الخصوص - لأن "راشومون" بدا لهم جميعاً فيلماً شديد الحداثة, معنىً ومبنىً, ويقول ان ثمة هناك في اليابان مخرجاً كبيراً لا يتورع عن التجريب وعن المغامرة, في الشكل وفي المضمون, من دون ان يخشى سوء فهم لعمله. ومنذ ذلك الحين راح أهل السينما, ثم فئات متقدمة من الجمهور العريض يعتادون على اسم كوروساوا, ثم على أفلامه, وصولاً الى التعود على المناخات السينمائية اليابانية, حتى اكتشفوا في نهاية الأمر ان كوروساوا لم يكن ذلك "الياباني" الذي يعتقدون, اذ بدأوا يدركون ان هذا الفنان نفسه كان يعتبر في بلده أوروبياً / غربياً أكثر من اللازم, وأن الاقبال على أفلامه هناك, بالتالي كان دائم الفتور.

ومع هذا علينا ان نتنبه هنا الى ان "راشومون" نفسه كان وسيظل الأكثر يابانية بين أفلام كوروساوا كلها. وهو كان ترتيبه الثاني عشر بين نتاجات هذا المخرج, اذ كان قبله قد حقق, ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية, عدداً كبيراً من أفلام عادت واكتشفت لاحقاً. اما بالنسبة الى "راشومون" فلعل يابانيته, التي لا تزال صارخة حتى يومنا هذا, نابعة من كونه مقتبساً عن عمل أدبي لواحد من كبار الكتاب الذين التصقوا بالتراث الياباني وهو ريونوسوكا آكاتا غاوا... بل عن عملين لهذا الكاتب. وربما من هنا أتت تلك الحداثة التي طبعت الفيلم, كما سنرى.

المهم ان "راشومون" تفجر أمام المتفرجين في ذلك المهرجان ونال جائزته الكبرى, ليصبح كوروساوا خلال السنوات القليلة التالية ثالث ثلاثة اعتبروا دائماً كبار السينما اليابانية الكلاسيكية, الى جانب فيروغوشي ويوسيجيرو أوزو. ولنقل منذ الآن ان كوروساوا ظل الأكثر تجريبية بينهم. ومن هنا لا يعود غريباً ان تكون تجريبيته قد بدأت باكراً, ومنذ ما قبل "راشومون".

لكن هذا لا يقلل من أهمية وجدة هذا العمل المأخوذ كما أشرنا عن قصتين عرف كوروساوا كيف يدمجهما معاً ليؤلفا كلاً واحداً ويقف فريداً في نتاجات كوروساوا التي انقسمت دائماً بين أفلام تاريخية تنهل من التراث ومن مسرحي الكابوكي والنو, وبين أفلام اجتماعية معاصرة. وفي الاحوال كافة كان يحلو لكوروساوا ان يقول عن نفسه وعن سينماه دائماً: "أنا قبل أي شيء آخر انسان عاطفي, ولا يمكنني ابداً بالتالي ان أنظر الى الواقع نظرة باردة". والحال ان مشاهدتنا لـ"راشومون" ستؤكد لنا هذا, على رغم ان "الواقع" الذي صوره المخرج هنا, واقع تاريخي يكاد يبدو الينا, نحن الشرقيين, شبيهاً بحكايات "ألف ليلة وليلة".

تدور أحداث "راشومون" في يابان القرن العاشر... وتحديداً خلال حقبة حروب أهلية كانت تعصف بالبلد, وتمزقه اقطاعيات, ومعاقل لزعماء العصابات وأمراء الحروب. ومنذ البداية يطالعنا حطاب وكاهن جالسين قرب معبد وهما يتحدثان شاكين لبعضهما البعض قساوة الزمن الذي يعيشان فيه. وهما خلال حديثهما, يتذكران حكاية محاكمة جرت وقائعها قبل فترة يسيرة, وتجابهت فيها اربع صيغ متناقضة تطاول حادثة دموية واحدة, اي ان ما روي خلال المحاكمة هو الاحداث كما رآها وعايشها - وربما شارك فيها - أربعة أشخاص متناقضين ها هو كل واحد منهم, يروي حكايته امام القضاة. أما الحادثة نفسها فتخص مقاتل من طائفة الساموراي كان يمر مع زوجته وسط الغابة حيث هاجمهما قاطع طريق مرعب وعنيف هو المتوحش تاجومارو. وحدث عندئذ ان الزوج الساموراي قد مات خلال ذلك الهجوم... ولكن من دون ان تتضح حقيقة ما حدث تماماً: فهل اغتصبت المرأة يا ترى؟ وهذه الزوجة هل كانت موافقة ضمنياً على ما حدث, أي هل تواطأت مع قاطع الطريق؟ والزوج, هل تراه جابه المهاجم, ام انه هرب بكل جبن ونذالة ما إن رأى امرأته تهاجم؟ هل تراه قتل؟ هل انتحر كيلا يغوص شرفه في الوحل؟ ان هذه الاسئلة وما يماثلها كانت هي فحوى الاستجوابات المتعددة والمحاكمة بالتالي. وكانت الاجابات ضرورية للوصول الى الحقيقة النهائىة؟ ولكن كيف كان في إمكان القاضي ان يصل الى تلك الحقيقة, في وضعية جعلت كل واحد من الشهود أو من المشاركين في الحدث, يروي ما حدث من وجهة نظره الشخصية التي ما كان في امكانها ان ترى من الحقيقة سوى جزء يسير فقط؟ ان كل واحد من اشخاص الحدث, بما في ذلك روح الزوج الراحل التي مثلت بدورها أمام القاضي, راح يروي الحكاية على طريقته, من دون ان يمكن لرأي واحد ان يصل الى الحقيقة؟ فأين هي هذه الحقيقة ومنذا الذي يمكنه ان يزعم امتلاكها. حتى الحطاب الذي يحكي امام الكاهن تفاصيل الحكاية انما هو هنا ليروي حقيقته الخاصة, لا حقيقة الحدث. فمن هو الذي يجب تصديقه؟ الكل ولا أحد في الوقت نفسه. وذلك لأن النتيجة التي سيستخلصها الكاهن لنا ونيابة عنا, تكمن في ضعف الطبيعة البشرية. وليس فقط ضعفها في الوصول الى اليقين, بل ضعفها في التعامل مع ذلك اليقين حين يجابهها. وهكذا نصبح أمام سؤال ينتمي, بامتياز, الى عوالم بيرانديللو. أما كوروساوا فإنه, لكي يختم فيلمه, اضاف نهاية من الصعب القول انها تشكل الخاتمة الحتمية للعمل: حين ينتهي الحطاب من حكايته يسمع بكاء وليد, ويبحث ليعثر عن طفل متروك في الغابة, فيحمله معلناً انه سيربيه.

يظل "راشومون" على رغم مرور تلك العقود منذ تحقيقه, واحداً من أجمل أفلام السينما اليابانية, وقمة في افلام اكيرا كوروساوا (1910-1988), الذي حقق قبله وبعده أفلاماً عدة نال معظمها سمعة عالمية كبيرة. ومن بين افلام كوروساوا: "الساموراي السبعة" و"حياة" و"دودسكارن" و"درنسيو اوزالا" و"كاغيموشا" و"ران" وغيرها من أعمال تعتبر اليوم من كبار كلاسيكيات السينما العالمية والسينما اليابانية.

جريدة الحياة في 4 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"راشومون" لكوروساوا:

من يملك الحقيقة؟

إبراهيم العريس