احتفى مهرجان السينما العربي في دورته السابعة في باريس بعرض فيلم "باب الشمس" ليسري نصر الله ضمن الأفلام المُصنفة خارج المسابقة, كما سبق لمهرجان "كان" في دورته السابعة والخمسين لهذا العام أن احتفى بعرضه تحت محور "نظرة ما" وخارج لائحة المسابقة أيضاً. وقد تآزر في كتابة سيناريو الفيلم كل من المخرج نصر الله, والكاتب اللبناني إلياس خوري, والمخرج والناقد السينمائي اللبناني محمد سويد. والفيلم مُستمد من رواية "باب الشمس". وحينما قرأ نصر الله رواية "باب الشمس" بعد صدورها مباشرة, قال في دخيلته: "من المستحيل تحويل هذه الرواية إلى فيلم سينمائي". لكن تأمله العميق في الرواية, وإطالة النظر فيها حرّضاه على تحويلها إلى فيلم بعد أن حصل على دعم مادي كبير من قناة Arte الفرنسية - الألمانية, وSoread 2M المغربية, وأفلام جيماج, وأفلام مصر العالمية. وعلى رغم الملاحظات والانتقادات الكثيرة التي وُجهت إلى الفيلم إلا أنها تظل محصورة في إطار التطويل والإسهاب المُتعَمدين لأن مدة الفيلم وصلت إلى 4 ساعات و39 دقيقة, فضلاً عن الاستراحة بين الجزء الأول والثاني. يرتكز الفيلم, كما في النص الروائي ذاته, الى بُعدين فني وتاريخي, وقد أمسك بهما المخرج في آنٍ معاً. الفيلم يمتد إلى مساحة زمانية ومكانية واسعة. فقد عاد بنا المخرج إلى أوائل الأربعينات من القرن الماضي (1943), ثم توقف عند حرب 1948, مروراً بالوحدة المصرية - السورية عام 1958, والحرب الأهلية في لبنان, ومجازر صبرا وشاتيلا, وانتهاءً بنزوح الفلسطينيين من بيروت عام 1982, آخذاً في الاعتبار أن الفيلم يبدأ في شتاء 1994 بالتزامن مع توقيع إتفاق أوسلو ليعود عبر تقنية الاستعادة الذهنية متوقفاً عند الأحداث الدامية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني عبر نصف قرن من الزمان أو يزيد. أما المساحة المكانية للفيلم فقد توزعت بين سورية ولبنان, فقد اختيرت مواقع التصوير في قلعة الحصن, ونهر طاحون, ومعلولا السورية, وفي دوما, وتل الزعتر, وعين الحلوة, ومار الياس, وشاتيلا, وميّة وميّة, والجميزة اللبنانية. وقد اشترك في هذا الفيلم أكثر من ثلاثين ممثلاً معروفاً من ستة بلدان عربية وهي لبنان وفلسطين وسورية والأردن وتونس ومصر, فضلاً عن الممثلة الفرنسية بياتريس دال. كما اشتركت قوات نظامية من الجيشين السوري واللبناني, إضافة إلى المئات من الشخصيات القروية التي أدت أدوار النزوح والعودة في أطول فيلم في تاريخ السينما العربية على الإطلاق. المأساة والذاكرة الفردية في أكثر من حوار صحافي أكد المخرج يسري نصر الله أنه معني بالذاكرة الفردية للفسلطينيين أكثر من عنايته "بالقضية الفلسطينية نفسها التي تحبها الأنظمة, وتكره الفلسطينيين!". فعبر المصائر الفردية, وما تنطوي عليه من أحلام وطموحات, ونجاحات وإخفاقات, وانكسارات ولحظات استرخاء يختصر فيلم "باب الشمس" تاريخ الشعب الفلسطيني, ويجسد جانباً منه "عبر الآلية التي تفترض أن الجزء يفضي إلى الكل" من خلال قصتي حب آسرتين ومعقدتين في آنٍ معاً وهما قصة حب يونس, المناضل القديم في المقاومة الفلسطينية, والوالد الروحي للدكتور خليل, الذي يتزوج من نهيلة ريم تركي, وقصة حب الطبيب خليل (باسل خياط) من شمس (هالة عمران). إن الذي ساعد على تماسك هذا الفيلم, وأبرز حبكته الفنية المتينة هو الترابط القوي بين الدكتور خليل والبطل يونس الذي سقط في غيبوبة داخل مخيّم شاتيلا, حيث يمارس خليل فضلاً عن مهنته الطبية, دور الراوي الذي يبذل قصارى جهده كي يحث يونس على الاستفاقة من غيبوبته, ويستعيد وعيه, ويسترد ذاكرته المفقودة وهو راقد على سريره يتأرجح بين الحياة والموت. من خلال تقنية الفلاش باك يذكرنا الراوي بفترة شباب يونس, وحبه لنهيلة, وهربه من الجليل إلى لبنان حيث تتداخل هذه القصة مع سيرته الذاتية وحبه الملتاع لشمس, ثم تتفجر قصص وحكايات أخرى تتناول المصائر الفردية لأناس فلسطينيين عانوا نكبة 1948, والحرب اللبنانية, والمجازر التي تعرضوا لها في أكثر من بلد عربي! لقد رفضت أكثر الدول العربية, باستثناءات محدودة, دعم هذا الفيلم, أو المساهمة فيه مقدمين حججاً واهية, بل ان بعض المسؤولين حاولوا إقناعه (أي المخرج) بالتراجع عن إخراج فيلم يساند هؤلاء الفلسطينيين الذين باعوا أرضهم! كما يذهب نصر الله. وعلى رغم الدعم الهائل الذي قدمته جهات فرنسية إلا أنها لم تقيّد المخرج أو كُتّاب السيناريو بأي شروط تُذكر. إذ قال نصر الله انه لم يتدخل احد إطلاقاً في توجهات وأفكار الفيلم, ولا في السيناريو الذي كتبه مع مؤلف الرواية إلياس خوري وسويد, وأنهم الثلاثة كانوا مقتنعين بعدم التعامل مع القضية على أساس مفهوم الضحية... حرص نصر الله على ترسيخ الدلالات الرمزية فضلاً عن الدلالات الواقعية للفيلم. ففي المشهد الافتتاحي يقول أحد المحاربين: "إذا كانت فلسطين برتقالة, دعونا نأكلها قبل أن تأكلنا" بينما تظهر خلال الأسماء والعناوين كومة من البرتقال المقشّر في لقطة شديدة الدلالة والتعبير. تكمن جرأة المخرج نصر الله في أنه تعاطى مع كائنات بشرية لها أحلامها, ونزواتها, وأخطاؤها بعيداً من الصراخ السياسي والزعيق اللامُبرر. وقليلون هم الذين عملوا ضمن هذا السياق الذي يركز على الشخصية الإنسانية للفسلطيني, كما يؤكد نصر الله, باستثناء عدد محدود من المخرجين أبرزهم إيليا سليمان وميشيل خليفي وتوفيق صالح. جريدة الحياة في 6 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
إذا كانت فلسطين برتقالة فلنأكلها قبل أن تأكلنا عدنان حسين أحمد |
|