المرأة الحلم ذلك الكائن الأسطوري الذي يخرج من الكهف في ضباب الفجر، و يجمع حوله الأطفال دون أدنى فضول عن آبائهم. ذلك الذي يرى جموع الرجال تأتي وتذهب، ويمد جذوره في الأرض محتفيا بقيمة المكان ((البيت)) و قيمة الطفل التي لا تعوض،مديرا ظهره لاتساع الفضاء، مدركا أن داخله هناك ما يفوق اكتشاف العالم إثارة و غرابة.
هذا
الكائن هو الذي يشكل نساء المخرج بيدرو المودوفار، المخرج الذي
وصف أحد
النقاد الغربيين أفلامه بأحد الملاجئ القليلة المتاحة اليوم للأدوار
النسائية
الكبيرة. ((ماذا فعلت لاستحق كل هذا))، ((امرأة على شفير انهيار عصبي)) وصولا إلى ((كل شيء عن أمي)). فيلم يعرض فسيفساء نسائية معبرة عن شخصيات نسائية و أخرى اختارت أن تكون نسائية و بعض الأشباح الرجالية، تدور في فلك مشوق و غريب. في عالم بيدرو المودوفار الرائع. ففي شقة مدريدية تضج بألوان جريئة تجتمع أم ((مانويلا)) و ابنها الشاب ((ستيفان)) لتناول العشاء و مشاهدة فيلم السهرة((كل شيء عن حواء)). مانويلا ((سيسليا روث)) وهي ممرضة أرجنتينية تضع أمالها بحذر في ابنها الذي يريد أن يكون كاتبا. يمد ستيفان يده إلى مذكرته و يكتب عنوانا، تسأله مانويلا ماذا كتب، و يقول ستيفان أنه عنوان كتاب سيؤلفه((كل شيء عن أمي)) و يبتسم الاثنان. تفكر مانويلا و هي أمام الشاشة أنها قد فعلت ما يمكن فعله لستيفان. لكن صوت ستيفان يعلو من وقت لآخر و هو يتساءل عن النصف الممزق من صور الأم، النصف المنزوع من حياته هو أيضا. تقرر مانويلا اصطحاب ستيفان لعرض مسرحية »عربة اسمها الرغبة«، لإعجابه ببطلتها الممثلة هوما »ماريسا بارديس« و ستكمل هديتها بإخباره بقصة النصف الممزق. و بعد العرض تنتظر مانويلا و ستيفان هوما عند الباب الخلفي تحت وابل من المطر لأخذ توقيعها لكن هوما تخرج بعجلة و تركب سيارتها، يحاول ستيفان اللحاق بها لكن سيارة عابرة تصدمه. تنطلق الكاميرا باتجاه مانويلا و هي ترتدي معطف أحمر و فوق رأسها مظلة ملونة و هي تحت المطر، وبعد لقطة مقربة تظهر بها ملامح مانويلا الجامدة يختل نوازن الكاميرا وتتأرجح بين تصوير الشارع و مانويلا التي تركض باتجاه ستيفان الملقى على الأرض مع مذكرته، و يتأرجح الصوت بدوره إذ يعلو صراخ مانويلا تارة، و هطول المطر الغزير تارة أخرى. في ردهة المستشفى تتجول الكاميرا حتى تجد مانويلا الجالسة بصمتا.بينما يظهر صوت ستيفان »الأطفال الذين يكبرون مع أمهاتهم يحملون نظرات تفوق سنهم، نظرة شبيهة بنظرة الكتاب، في حالتي فالأمر طبيعي فأنا كاتب«. يتوفى الابن في عيد ميلاده السابع عشر، و يستمر بزيارة مانويلا و هو يبتسم، ليطبع تعابيرها بحزن أعمق. و هنا ينتهي الجزء الأول من الفيلم ، و ينتقل التركيز من العلاقة الحميمة بين مانويلا و ستيفان إلى شخص الأم التي تقرر سلك الطريق الذي سلكته قبل عشرين عاما لكن هذه المرة بالاتجاه المعاكس، بالمرة الأولى كانت تهرب مع طفلها من لولا، اليوم هي عائدة إلى لولا لتخبرها بأنه كان لهما ابنا و قد مات و كان اسمه ستيفان. من هي لولا؟ هي النصف الممزق من الصور. هي ستيفان الأول والد ستيفان الثاني، لكنها منذ زمن قد أصبحت لولا. تقصد مانويلا برشلونة، و قبل أن تنهي يوما واحدا تجد نفسها تعتني بصديقة قديمة »اريجاتو«، و أما لراهبة حامل و مصابة بالإيدز »روزا« و أخيرا تجد نفسها مساعدة للممثلة هوما التي تعرض مسرحيتها بشكل دائم في المدينة. و حيثما تلتفت تجد مانويلا آثار لولا لكنها لا تجدها، فلولا هي التي سرقت نقود أريجاتو وممتلكاتها، و هي المسئولة عن طفل الراهبة حيث تزرعه و تتبخر. تنتقل مانويلا بين هذه الشخصيات و هي تثير علامات استفهام صغيرة لكن بحزم يمنع طرح أي أسئلة. حتى يأتي اليوم الذي تتخلف فيه أحدى الممثلات عن الحضور، فتحل مانيلا مكانها، و تأدي الدور بإجادة تزيح علامات الاستفهام الصغيرة بواحدة أكبر و أكثر إلحاحا، و عندما لا تجد مفرا من تقديم تفسير لهوما تعترف لها بأن هذه المسرحية قد لعبت دورا مهما في حياتها، فقد تعرفت على زوجها عندما كانا يمثلان هذه المسرحية في فرقة للهوى، و بعدها تحكي لها قصة ابنها. تحاول هوما الإشاحة بنظرها لتظهر لها صورة ستيفان و هو يطرق نافذة السيارة بمفكرته و هو يرتجف تحت المطر، و في انتقال رائع نرى هوما بلقطة قريبة و هي تجلس على سلم منزل مانويلا و هي تنتظرها، و خلال الثواني القليلة التي تنفرد فيها بالشاشة تبرز هذه الممثلة المخضرمة موهبة كبيرة بأداء بسيط و معبر. أخيرا تصل مانويلا مع الراهبة و أريجاتو ،ويجلس الجميع بنجاح مانويلا كممثلة، تعتذر هوما منها و تقدم لها مكافأة نقدية نظير تمثيلها في تلك الليلة، لكن مانويلا تعتذر عن مواصلة العمل لانشغالها برعاية الراهبة التي تقدمت في حملها، لكنها تقترح عليها استخدام اريجاتو بديلة عنها. و تثبت أريجاتو أيضا فائدتها عندما تصعد إلى خشبة المسرح و تعلن عن إلغاء العرض، لكنها تعد من يودون البقاء أنها ستمتعهم بقصة حياتها، مذكرة كما تفعل دائما بوظيفتها التي تستلهمها من اسمها ألا وهي جعل حياة الناس أكثر استساغة وتناغما! توشك الراهبة على الولادة، و تخبر مانويلا أنها خمنت من يكون والد ستيفان الثاني، تتوفى الراهبة و هي تضع مولودها الذكر الذي سيكون ستيفان الثالث. تظهر لولا أخيرا و تخبرها مانويلا أنه كان لهما ابنا ستيفان و قد مات، لكن ستيفان آخر قد ولد لتوه. تركب مانويلا القطار مع ستيفان للمرة الثانية باتجاه مدريد لكنها لا تنتظر عشرين عاما بل تعود بعد سنتين لترى اريجاتو و هوما التي تحيي مانويلا و تعدها بأن تاها بعد العرض، تظهر خشبة المسرح مع ستائر مفتوحة و تظهر كتابة يهدي فيها المخرج فيلمه إلى: كل النساء اللواتي لعبن دور الممثلات ، إلى كل الممثلات اللواتي لعبن دور الأمهات إلى كل الرجال الذين لعبوا دور الأمهات و إلى أمه.. وقبل عشرين عاما بالفعل قام المخرج بإطلاق فيلم روائي قصير يتحدث عن مانويلا و ستيفان مع الممثلة الأرجنتينية سيسليا روث أيضا. وقبل التطرق إلى دلالات الفيلم نلقي الضوء على اهتمام المخرج بجمالياته السينمائية، أولا عنصر الألوان، يستخدم المخرج في الجزء الأول من الفيلم ألوان صارخة، مثلا هناك مشهد يكتب فيه ستيفان الابن في مقهى يضج بلون أحمر، الكاميرا تلتقط صورة ستيفان من على جنب، و كل شيء يبدو خارج الزمن يعبر ستيفان الشارع حيث ما مانويلا تنتظره و تكاد سيارة أن تدهسه. في هذا الجزء يستخدم المودوفار اقتباسات من تنيسي وليامز وكم معروض بشكل فوضوي من أفكاره، و ألوان مسرحية و حوارات قصيرة في خلق حالة من الترقب داخل جو غرائبي عام يصل ذروته عند موت ستيفان. و حتى القمامة لها جمالها في هذا العالم حيث نرى السيارات الباحثة عن بنات الليل تحت جسور برشلونة، و هي تستحم بنفس الضوء القمري الذي يضيء أبنية المدينة القديمة، في هذا الفيلم الأكثر إيرادا في تاريخ السينما الأسبانية والحائز على سعفة كان الذهبية و أوسكار أفضل فيلم أجنبي.نأتي إلى صلب الموضوع عندما نتحدث عن الأدوار المسرحية في حياتنا، الثيمة الأكثر ثباتا في أفلام المخرج التي تصل إلى نقطة فارقة في هذا الفيلم، فالحس التهكمي الساخر القائم على ثيمة الدوار يتراجع أمام لون جديد يغزو سينما المودوفار و يجعل نبرتها أكثر حزنا و أكثر جمالا، لكنه يظل حاضرا إذ يختصر الفيلم مرحلتي المخرج الاثنتين، الثانية التي تبدأ حقيقة مع فيلمه التالي الجميل(( تكلم معها)). وعودة إلى الأدوار نشاهد خلا ل الفيلم كيف يمكن للراهبة أن تسقط و المومس أن ترتفع و تعتلي المسرح، و ممرضة قد ترضى بأن تكون كمومس، و الناس يحتارون في كونهم نساء أو رجالا، حتى تجد مقولة شكسبير عن العالم و المسرح و الممثلين مكانا جيدا لها في هذا الفيلم. فالطبيعة بنظر بيدرو المودوفار شيء مبالغ في تقديره، بينما التمثيل أو حتى الكذب هو الغطاء الذي يحررنا لنكون أسوء و أفضل ما يمكن أن نكون. الأيام البحرينية في 3 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
"كل شيء عن أمي" للأسباني بيدرو المودوفار النساء اللواتي غسلت أعينهن الدموع يرين بوضوح علي مدن |
|