شعار الموقع (Our Logo)

 

 

* الغضب المقدس الذي فجره الأقباط أعطي ـ دون قصد ـ الشرعية للأصولية الإسلامية * ردود الفعل العنيفة تؤكد أن القضية سياسية تتعلق بهواجس الأقباط علي صورتهم أكثر من كونها فنية  

قبل أن تمضي معركة فيلم "بحب السيما" أسوة بمعارك أخري مشابهة يجب أن نستعرض ما حدث فيها بشيء من التمعن والتحليل. ربما لا يوجد الكثير الذي يمكن إضافته بشأن الفيلم الذي أشبع تحليلا ونقدا. ولكن ما يجب تناوله الآن هو تداعيات هذه المعركة التي أظن أنها علي المدي البعيد لن تكون في صالح الأقباط.

انتفاضة الأقباط

فجأة ـ وبدون مقدمات ـ وجد المجتمع أن هناك وجها غير مألوف للأقباط ظهر في ردود الأفعال الانتفاضية  تجاه فيلم "بحب السيما". وجها غاضبا يميز قسماته بعض التشنجات. ذهب البعض  للقضاء طالبين المصادرة. علا صوت الضجيج، وتحول المشهد إلي ما يشبه معركة مصغرة بين الأقباط والفن. وكان طبيعيا أن يستشعر بعض المثقفين الخطر، وكثير منهم قريب من الملف القبطي المتخم بالمشكلات مثل السيد ياسين وصلاح عيسي ونبيل عبد الفتاح وآخرون. وسبق أن وقفوا  في نفس الخندق مع الأقباط المطالبين بالمواطنة الكاملة. شعروا أن هناك "تزمتا قبطيا" تحت ركام الأحداث مسكوتا عنه، لم يسفر عن وجهه  من قبل علي هذا النحو الغاضب. وبينما ظلوا لسنوات يحاربون الأصولية الإسلامية، وجدوا أنفسهم للمرة الأولي إزاء ما يشبه أصولية كانت غائبة عن المشهد السياسي. أصولية تحركها مشاعر الغضب الذي وصفه أصحابه بالمقدس، وقد يكون كذلك. ولكن المشكلة الأساسية أن وسائل التنفيس عن هذا الغضب لم تختلف كثيرا عن الوسائل التي يتبعها الأصوليون الإسلاميون في التعبير عن مشاعر مماثلة.  اللجوء إلي سلاح المصادرة، ورفع شعارات عقائدية، وتحريك لمشاعر شعبية غاضبة ظهرت في صيحات أطلقها بضع عشرات من الشباب في ساحة الكاتدرائية في تكرار كربوني لرد الفعل الشعبي الغاضب تجاه حادثة جريدة النبأ. هكذا وجد المثقفون تلاقيا بين الأصولية الإسلامية والتزمت القبطي دون أن يكون لهما أهداف مشتركة. الأصولية الإسلامية تريد مجتمعا إسلاميا خالصا.. غارقا في التشدد وأسيرا للقراءات غير الرحبة  للنصوص الدينية. أما التزمت القبطي فإنه  يريد حضورا مجتمعيا ملائكيا نقيا صمغيا احتفائيا بالأقباط. الأصولية الإسلامية  تصارع من أجل أسلمة المجتمع، أما التزمت القبطي فيسعي  فقط من أجل أن تظل له صورة نقية طوباوية في المجتمع. الظاهر إذن أن هناك تلاقيا في المصالح علي الجانبين، ولكني أتصور أن هناك حتما اختلافا في المنطلقات. وهو الأمر الذي ضاع وسط موجات الصياح والتشنج العالية.

أجندة سياسية

الخطأ الذي وقع فيه الأقباط دون أن يدروا  ودون أن يقصدوا بالتأكيد  هو إعطاء شرعية للأصولية الإسلامية في سعيها إلي فرض تصورها علي المجتمع المصري، من خلال استخدام نفس منطلقاتها وأدواتها. وبهذا عبر الأقباط عن غضب عفوي يتسم بقصر النظر  ولا يحمل أجندة سياسية،  ومنحوا من خلاله صكا للأصولية الإسلامية التي تحمل بالتأكيد أجندة سياسية.  المعركة الأساسية للأصولية الإسلامية -كما يتضح من خطابها ومواقفها ـ في السنوات الأخيرة هي ضرب مراكز الإبداع في المجتمع لصالح إنتاجها أحادي النظرة للحياة والإبداع، وخلق صورة نمطية لمجتمع مثالي شكلي في المخيلة فقط. صب تصرف بعض الأقباط في مجري هذه الأصولية، وبالتالي لم يكن مستغربا أن يرفع بعض المنتمين للإسلام السياسي عقيرتهم ضد الفيلم، ليس من باب الغيرة علي ما اعتبره البعض انتهاكا للمقدسات المسيحية في هذا العمل الدرامي، ولكن من باب سحب الأقباط علي أرضيتهم. وأتصور أن مجريات الأمور قادت إلي هذه النتيجة. وهكذا خرجت الأصولية الإٍسلامية من المعركة كاسبة، وكان الخاسرون الرئيسيون هم الأقباط أولا وأخيرا. يضاف إليهم المبدعون الذين قد يؤثرون السلامة في المستقبل من باب سد الذرائع ويبتعدون عن تقديم الشخصية القبطية. وهو ما يصب مباشرة في مصالح الأصولية الإسلامية.

مواجهة العلمانية

ويؤكد ذلك ما انتهت إليه بعض التصريحات والأحاديث الإعلامية الصادرة عن أقباط  والتي اعتبرت أن علي المسيحيين والمسلمين مواجهة العلمانية. أطلقوا هذه التصريحات وهم لا يدرون أن حل مشكلات المواطنة، وحصول كل المصريين علي حقوق المواطنة الكاملة، بما فيهم الأقباط لن يتأتي إلا باستكمال بناء مجتمع علماني مدني، تكون فيه الدولة محايدة تجاه أصحاب الأديان المختلفة. العلمانية الحقيقية تعني الفصل الكامل بين الدين والدولة. وهي الصيغة المثلي الملائمة للحالة المصرية التي تشهد تعددية دينية وسياسية وثقافية. والدين المسيحي ذاته يقوم علي مبدأ الفصل بين الدين والدولة.  والقبول بعكس ذلك يعني التسليم بقيام دولة دينية إسلامية يتحول فيها الآخر الديني إلي مواطن من الدرجة الثانية أو بعبارة أدق إلي "ذمي" في صيغ جديدة معاصرة. وتنحية الدين عن الدولة لا يعني استبعاده من بنية المجتمع. سيظل هناك مجتمع مؤمن، يشغل الدين ضميره الحي النابض. وتحتل المؤسسة الدينية دورها الصحيح في الحفاظ علي القيم الروحية والإنسانية. إنها ليست دعوة للإلحاد- كما يصورها الأصوليون- لكنها دعوة في الأساس إلي رد الاعتبار للتدين الصحيح النقي بعيدا عن التلوث بمناورات السياسة والسلطة. وقد اكتشف المثقفون المسلمون المستنيرون هذا الأمر. ويكاد يتبني الأستاذ جمال البنا نفس الخطاب من خلال سعيه الدائم إلي التأكيد علي حتمية فصل الدين عن السلطة، حتي لا يصبح الدين أداة للشرعية السياسية، وتبرير السياسيات علي حسب الجوهر والمضمون الإنساني والروحي، جوهر الدين.

الأصولية الإسلامية

الأصولية الإسلامية تسعي إلي بناء دولة دينية. ولها أساليب في تحقيق ذلك أهمها محاصرة الإبداع. ولم يكن مستغربا أن يكون مطلب الرقابة علي السينما أحد البنود الواردة في مبادرة الإصلاح التي طرحها الإخوان المسلمون منذ بضعة أشهر. بالتأكيد هناك مشاهد في الفيلم - كنت أتمني عدم وجودها- ورغم ذلك كنت أتمني أيضا أن يكون نقد العمل الفني- علي أرضية مدنية أسوة بأي عمل درامي-  من خلال مبدعين ونقاد في حوار يستخدم أدوات النقد السينمائي المتعارف عليها  في مناخ من الحرية التي نتمناها لا يسوده تشنج أو عصبية دينية، ولا يلجأ أحد إلي خطاب ديني في نقد العمل الفني حتي لا يقع في فخ استخدام نفس الخطاب والآليات التي تلجأ إليها الأصولية الإسلامية.  أي أن يكون نقد الفن في مصلحة الفن وليس ضده.

هذا الفيلم ـ رغم ما قد يرد عليه من انتقادات لها وجاهتها ـ يعبر عن بداية عودة الشخصية القبطية التي غابت عن الفن لسنوات في الوقت الذي سعت فيه الأصولية الإسلامية إلي تغييبها عن الواقع سواء باستخدام آليات العنف المادي أو العنف الطائفي النصوصي. ولم يكن ليصادف رد الفعل الانتفاضي لولا مناخ التشدد الذي تشهده الحالة المصرية. في مناخ مختلف شهدته مصر في الستينيات حتي منتصف السبعينيات عرض فيلم آخر مشابه هو "الراهبة"، ولم يصادف اعتراضا وتشنجا علي هذا النحو إلا عندما أطلت الأصولية الإسلامية بقوة علي المشهد المصري، وما ارتفق بها من انغلاق قبطي في محاولة للدفاع عن الذات المهددة.

القضية إذن ـ كما سبق أن ذكرت ـ سياسية تتعلق بهواجس الأقباط علي صورتهم أكثر من كونها فنية. الانتباه لهذا الأمر كان ضرورة حتي يدار المشهد بهدوء ورصانة. ولكن الصوت العالي والتشنج كانت لهما الغلبة. وخرج الأقباط خاسرين. وخرجت الأصولية الإسلامية وحدها منتصرة في معركة جاءت لها علي طبق من ذهب.

جريدة القاهرة في 3 أغسطس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

بعد التزمت والتشنجات

ماذا خسر الأقباط في معركة «بحب السيما»؟

سامح فوزي