«البحار الهادئة لا تخلق بحارا ماهرا» هكذا قال أنيس منصور، وهكذا كان معي بلال فضل، وهو يروي لي تجربته مع الصحافة والنقد والحروب التي خاضها، وكيف كانت قاسية والتي يري أنها صنعت منه بحارا ماهرا لا يعبأ بكلام أحد فهو أصبح يتعامل بشعار «قل كلمتك وامشي»، ولكنه في فيلمه الجديد «خالتي فرنسا» لم يستطع أن يطبق شعاره بعد حملة الهجوم التي تعرض لها الفيلم، واستخدمت فيها ألفاظ قاسية لم يكن ممكنا أن يسكت إزاءها.. سألته: · هل تقرأ ما يكتب من نقد علي أعمالك الفنية؟ ـ في الحقيقة أنا من خلال عملي في الصحافة تعلمت شيئا مهما أنني لا يجب أن أحترم النقد وغيرت رأيي فيه تماما، لأن النقد في مصر وليس مصر فقط في أي مكان بالعالم ما هو إلا مجرد تعبير عن رأي الكاتب الشخصي وليس عن هدف واضح بالفيلم فلم أر حتي الآن كاتبا يأخذ مفردات الفيلم ويحللها تحليلا دقيقا وسأثبت لكي رأيي بمثال بسيط مثلا الكاتبة الكبيرة حُسن شاه كان نقدها عن فيلم «سنة أولي نصب» نقدا بناء جدا وهو فيلم مع احترامي لكل من عمل به ليس فيلما وإنما هو مجرد فسحة لشباب في شرم الشيخ، المهم أنها كتبت عنه جيدا رغم أنها في نقدها لفيلم «صايع بحر» كانت حادة جدا ونعتتني بأنني كاتب حقير وتافه وفيلمي حقير، أنا هنا كقارئ سيشتت ذهني كيف تثنين علي ما لا يستحق الثناء ثم تذمين أيضا في شيء نفترض أنه لا يستحق الثناء، ولكن يجب أن يكون لك موقف واضح من الإسفاف بشكل عام، فأتفه أفلامي أجمل كثيرا من «سنة أولي نصب»، ولكنها نظرا لعلاقتها الوطيدة بوالد المخرجة كاملة أبو ذكري كتبت عنه هذا الإطراء، فهذا هو النقد عندنا فكيف تريدين مني أن أحترم شيئا ليس له وجود فكل ناقد أصبح له أسباب لنقده، وفيلم «خالتي فرنسا» أنا وعبلة كامل كنا نعلم تماما بأننا سنواجه قذائف بسبب هذا الفيلم وهي بنفسها التي قالت لي ذلك، لأننا نعلم جيدا اتجاهات النقاد هنا والوحيدة التي يمكن أن تخرج من هذه المشكلة مني زكي وسيقال عنها إنها غيرت جلدها وما إلي ذلك مثلما حدث مع ياسمين عبدالعزيز في «صايع بحر» وقيل عنها إنها أدت دورها بجدارة، بينما كاتب السيناريو كان حقيرا وتافها! · هل ترد علي أي نقد يوجه إليك؟ ـ أنا لا أرد علي أي نقد عادة لأنني لا أعترف به أساسا كما ذكرت من قبل ولكنني كتبت فقط للرد علي حُسن شاه لأنه بصراحة استفزني موقفها وحتي أفضح أسلوبها في الحكم علي الأشياء، لأنه لم يكن موضوعي بالمرة ورأيي في الناقد أنه شخص عاجز عن فعل شيء وفي الوقت نفسه يتحدث عما يجب أن يكون عليه الفيلم، وهو لا يفعل شيئا بمعني أنه مثل الطيور الصغيرة التي تعيش علي فتات شخص يفعل شيئا وهذا التعبير قاله «برنارد شو»، فهو كان مهاجما شرسا للنقد والنقاد، وأنا حاليا أصبحت لا أهتم بأحد ولا حتي برأيي الجمهور لأن الجمهور كتلة غير متجانسة وإذا أغلقت أذني لابد أن أسمع صوتا واحدا فقط هو صوت نفسي، فأنا أفعل ما أحبه بصرف النظر عما إذا كان هذا سيرضي من حولي أم لا، وأحب أن أذكر هنا المتنبي عندما قال: أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر القوم جراها ويختصم. وهذا الرجل كتبت عنه آلاف من رسائل الماجستير والدكتوراه وحير الجميع في تحليل شخصيته، ولكن في النهاية بقيت لنا القيمة الحقيقية في شعره، لذلك أنا فضلت ألا أسمع صوت أحد وأفعل ما أريد ولن أرد إلا علي ما يمكن أن يدينني فيه التاريخ فأحد الفنانين الكبار نصحني بذلك لأننا سيأتي يوم ونموت فلابد أن أبريء نفسي من تهم قد تلتصق بي بعد أن أموت. · ووجه فيلم «خالتي فرنسا» بنقد حاد أيضا من د. رفيق الصبان فما رأيك في تحليله لمفردات الفيلم؟ ـ قرأت هذا المقال وأقل ما أصفه به بأنه مقال تافه وما أحزنني ليس نقده لي أنا شخصيا، ولكن عندما جرّح في الفنانة الكبيرة «عبلة كامل» التي كتب عنها عنوانا عريضا «انتحار خالتي عبلة كامل» هذه الفنانة الرقيقة الموهوبة كيف يكون جزاؤها التجريح والإهانة بجهل وأنا مع احترامي لما نشر هل الأستاذ رفيق الصبان ولي أمر عبلة كامل حتي يحكم علي اختياراتها كفنانة، فكيف يكتب عنها عبارات مثل «الفنانة المرهفة التي انزلقت إلي هذا المنحدر» أي منحدر هذا الذي يتحدث عنه الأستاذ رفيق الصبان؟ · في رأيك إذا لم تكن الفنانة عبلة كامل هي المرشحة لهذا الدور من كنت ترشح غيرها، وهل كانت ستواجه هذه الفنانة بنفس الهجوم الذي ووجهت به عبلة كامل؟ ـ أعتقد أنها كانت ستكون هناك مشكلة كبيرة أمامنا إذا لم تكن عبلة كامل هي البطلة لأنها هي الوحيدة التي تجيد أداء هذه الأدوار وبمنتهي الدقة والحرفية، فإذا رأيت أسلوبها في الأداء وهي تستخدم حركات جسمها دائما وصوتها المرتفع للتعبير عن نفسها وسط الجموع من الناس عبلة كامل هنا أبدعت في دورها ولا أرشح غيرها لأداء هذا العمل، أما إذا كانت يسرا هي التي لعبت هذا الدور أراهن علي أنه كان سيصبح من أهم أفلام الموسم وسيقال عنها إنها كانت رائعة وما إلي ذلك، لأن الفنانة عبلة كامل لا تلقي بالا لكلام أو آراء النقاد أو هي في الأساس لا تقرأ الصحف وتري أنها مجرد موظفة تؤدي عملها بمنتهي الإخلاص. · كتب أيضا الأستاذ رفيق الصبان: «قاهرة الهامشيين والقاع عرضها بلال فضل بطريقة فجة جعلتنا لا نتعاطف مع أحد أبطال الفيلم حتي الطفلة التي تمثل الجيل الثالث لمواجهة الأيام القادمة»؟ ـ الرأي الوحيد الذي اتفق معه فيه أن أداء مها عمار لم يكن علي المستوي الفني المطلوب، ولكن كيف سأعبر عن هذه الطبقة التي من المفترض أنها تحت خط الفقر بطريقة راقية ومهذبة بصراحة أنا أتعجب من النقاد الذين يندهشون من الألفاظ السوقية في الأفلام الشعبية بديهيا أن يحتوي فيلم لحي شعبي علي هذه الألفاظ وأنا عايشت هؤلاء البسطاء في حارة شبيه للتي تحدث عنها الفيلم، وهذه هي حياتهم الحقيقية، فكيف سأعرضها بشكل مخالف للواقع؟ · هل السينما في قيمة الفكرة التي تعرضها خلال العمل الفني أم في الأسلوب الذي تقدم به؟ ـ ماذا تعني قيمة الفكرة نحن لا نتعامل بالدولار حتي أحدد للعمل الفني قيمته الفنية والأسلوب الذي طرح به فيلم «خالتي فرنسا» كان موفقا جدا، فقد عبرت في البداية عن هذه الشخصيات الموجودة داخل الفيلم بأسلوب صارخ وفج حتي يتعايش الجمهور مع هذه الشخصيات وينتبه إليها، ولكن سنجد في الربع الأخير من الفيلم أن هذه الشخصيات سيحدث نوع من الاختلاف بينها، فمثلا أسلوب «بطة» سيختلف بعد ذلك عن أسلوب فرنسا وكان هذا واضحا. · هل شخصية فرنسا كانت شخصية واقعية وما نسبة الخيال في هذه الشخصية؟ ـ هي لم تكن شخصية واقعية كما عرضت بالضبط فأنا لم أر شخصية في الواقع مثل فرنسا بالفعل، ولكن كما ذكرت من قبل أنا عشت حوالي أربع سنوات في حارة من هذه الحواري في بداية حياتي ووجدت شخصيات شبيهة لـ «فرنسا»، وبالطبع بنيت علي هذه الشخصية جزءا كبيرا من خيالي فـ «فرنسا» لم تكن بهذا الشر الذي ظهرت به خلال الفيلم، ولكنها تتعامل في حياتها بفلسفة معينة، والمشهد الذي جمعها بـ «عمرو واكد» يوضح فلسفتها في الحياة عندما قالت له: «أنا ست ربنا مديني صحة استخسرها ليه في الناس». · هل تري أن مشهد الكباريه الذي لجأت إليه مني زكي كان موظفا داخل الفيلم؟ ـ بالطبع كان موظفا داخل الفيلم، وأنا أتعجب علي الناقد الذي يدخل لمشاهدة الفيلم وهو يفكر في المقال الذي سوف يكتبه عني ولا يركز جيدا في مفردات العمل الفني ولا حتي في القصة كان المشهد موظفا بدليل أن الراقصة التي لجأت إليها مني زكي لتساعدها كانت تدفعها أكثر من مرة لدخول مجال الرقص حتي تحقق لنفسها عائدا ماليا، ولكنها رفضت في كل مرة إلي أن فاضت بها الدنيا وتملكها الإحباط خاصة بعد اكتشافها لخيانة خطيبها لها ففعلت ما كانت تدفعه إليه صديقتها كرد فعل للإحباط الذي تعرضت له وكان من الطبيعي أن تلاحقها خالتها متنكرة حتي تستردها مرة أخري فطوال الفيلم ونحن نري أنها تلاحقها دائما حتي تعود معها لمهنتهم القديمة. · بعيدا عن النقد الذي وجه لـ «خالتي فرنسا» هل أنت راض فنيا عن الفيلم؟ ـ الحقيقة في هذه المرة أنا راض عن الفيلم جدا فلم يحذف منه مثلما حدث لـ «صايع بحر»، في «خالتي فرنسا» حذفنا فقط مشهدا لـ «مني زكي» قبل لجوئها للعمل في منزل سامي العدل حتي يناسب الفيلم مواعيد دور العرض ولم يكن لـ «علي رجب» أي ذنب في ذلك أيضا أعجبني جدا «الافان تتر» الذي عرض للقصة والشخصيات في البداية وكانت فكرة جميلة ومبتكرة، والفيلم نجح علي مستوي الجمهور وما يهمني هو رأيهم أولا وأخيرا، فأنا لا أسمع لصوت أحد وأتعامل بشعار قل كلمتك وأمشي فأنا أقول كلمتي ولا أنتظر تعليقا عليها من أحد. · هل ستكون الكوميديا هي الاتجاه الأساسي في كل كتاباتك؟ ـ بالطبع لا، ولكني لن أتخلي عن العنصر الساخر في كتاباتي السينمائية لأنها رؤية بالنسبة لي في الحياة، وأنا ضد أن يحبس الكاتب نفسه في نوعية معينة من الكتابة مثل تامر حبيب الذي يكتب عن طبقة معينة وعن أناس لا يمثلون سوي 10% من الشعب المصري، مثلما رأينا في «سهر الليالي» و«حب البنات»، فـ «تامر» يكتب عن الشخصيات التي تحلمين بأن تكوني مثلها أما أنا أحب أن أكتب عن المشكلات التي تواجه قطاعا عريضا من المجتمع، ولم يكن هدفي التكريم بأي حال من الأحوال، ولكن هدفي أن أنصر هذه الطبقة الضعيفة المهدور حقها في الحياة، فأضعف الإيمان ننصرها علي شاشة السينما. جريدة القاهرة في 3 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
مؤلف «خالتي فرنسا» يتحدي: ليس عندنا نقد ولا نقاد هند سلامة |
|