بصراحة لا أستطيع علي وجه الدقة تحديد عدد المرات التي قمت فيها بمشاهدة المسلسل التليفزيوني الرائع «عبدالله النديم» فلقد كنت أعمد للهروب من الرقابة الأسرية إلي جارتي القبطية والتي تعلمت علي يديها لكي يتسني لي مشاهدة هذا المسلسل وأنا طفل صغير.. وزادارتباطي الوجداني والعقلي باسم كاتب هذا المسلسل بعد مسلسله الناجح أيضا «علي الزيبق»، إذ وجدتني متلبسا بالإعجاب به ولأسباب جد معروفة فعبدالله النديم شخصية وطنية مشهورة استطاع المسلسل بفضل وعي كاتب مسرحي متمرس أن يصوغ لنا قصيدة درامية بالغة الصدق لمن لا يعرفون من هو عبدالله النديم ولمن يعرفونه أيضا، وأيضا شخصية علي الزيبق شخصية مشهورة في الأدب الشعبي اقترنت سلوكياتها بالدفاع عن المقهورين والضعفاء ومقاومة المحتل.. لقد وجدتني أمام كاتب ملتزم بقضايا وطنه مهموما بالأفكار الكبري التي تصنع الحضارات، الحرية، والمساواة، والعدل فمنذ منتصف الثمانينيات وأنا أرقبه وأراقبه حتي الآن هذا الكاتب هو المبدع الكبير يسري الجندي الذي ولد في 5 فبراير عام 1942 بمحافظة دمياط التي ظل بها حتي انتهي من تعليمه الجامعي ثم ما لبث أن يمم وجهه شطر النداهة أو القاهرة حاملا معه عددا من المسرحيات التي كتبها ويود أن يعرضها علي المخرجين أو المسئولين بالإضافة إلي دراسة ضخمة كتبها يسري الجندي في ذلك الوقت بعنوان «البطل التراجيدي في التاريخ» نشرت هذه الدراسة علي ما أظن بمجلة «المسرح»، أوائل التسعينيات كما حمل الجندي من ضمن ما حمل من إبداعاته وهمومه وأشجانه وبعض لوحاته ولعلها المرة الأولي التي يعرف فيها البعض أن هذا المبدع يرسم لوحات بديعة كان يستوحي أفكارها ومضامينها من المسرحيات العالمية. لقد جاء الجندي إلي القاهرة وهو يحمل بين جوانحه أحلاما فنية يود لو تري النور فإذا به يفاجأ وهو في بداية السبعينيات بسيطرة تكاد تكون إقطاعية من كتاب كبار لذلك لم يكن أمامه في ذلك الوقت هو وزملاؤه إلا طرق أبواب مسرح الأقاليم وفي ذلك الوقت كان الإعداد عن النصوص العالمية هو سيد الموقف لذلك قام يسري الجندي بالإعداد لأكثر من نص عالمي للكاتب الألماني الشهير يرتون برشت فقدم «حكاية جحا والواد قلة»، «عن دائرة الطباشير القوقازية»، وأيضا قدم «بغل البلدية»، عن السيد يونيبلا وتابعه ماتي ثم قدم له مسرح الثقافة الجماهيرية «علي الزيبق»، و«المحاكمة» و«حكاوي الزمان»، من تأليفه وفي تلك الفترة التقط المخرج الكبير سمير العصفوري نص يسري الجندي، «عنترة»، وقدمه علي مسرح الطليعة في عام 1977 بعد أن كاد يسري الجندي أن يعود أدراجه مرة أخري إلي مدينة دمياط يأسا مما يحدث بالعاصمة بعد أن تم تأجيل مشروعه المسرحي الذي جاء به من دمياط وهو مسرحية «اليهودي التائه»، التي تعتبر درة أعماله المسرحية وأشهرها علي الإطلاق كما يؤكد الناقد الكبير د. فاروق عبدالقادر في كتابه «الفرسان الصاعدون إلي الخشبة المنهارة». حيث يقول لاتزال عندي أهم مسرحياته وأفضلها ـ يقصد ـ «اليهودي التائه»، وهي مسرحية طموحة وطموحها هذا سر امتيازها وتفردها من جانب كما أن سر مشاكلها الفنية المتعددة وصعوبة تقديمها كاملة من الجانب الآخر لقد أراد يسري أن يقول فيها كل شيء من الماضي الأسطوري السحيق حتي لحظة أطلق سرحان بشارة رصاصاته علي روبرت كنيدي في الذكري الأولي لعدوان يونية «حزيران» 1967. وهذه المسرحية كما هو واضح تأتي استجابة من ذات الفنان يسري الجندي لما حدث في 1967 ولقد جاءت المسرحية رغم أنها تعد من بواكير أعماله ـ ناضجة من حيث بنائها الفني فالجندي في مسرحيته هذه يناقش في بعض لوحاتها المتعددة فكرة اضطهاد اليهود في الماضي والحاضر من؟؟؟؟ إلي هتلر مرورا بالرومان وأوروبا وأيضا الحروب الصليبية إذ يناقش الجندي كيف تستخرج هذه الحكايات القديمة من بين أرفف التاريخ لتبرير قيام إسرائيل كما نزع الكاتب في إحدي لوحاته باليهودي التائه الأقنعة عن الحركة الصهيونية ونري كيف بدأت الصهيونية كثمرة زواج شرعي بين كبار الرأسماليين اليهود والإمبراطوريات الاستعمارية أمثال روتشيلد، ووايزمان، وهرتزل بعد هذا يقدم الكاتب شيئا عن أبطال الحركة الصهيونية من أمثال أشكول، وكاستر، وجابوتنسكي، وبن جوريدن، ومناحم بيغن، ويدرك القارئ كيف كانت أفكار اللاسامية والمذابح، التي تواطأ فيها هؤلاء جميعا، تعمل لتقديم الفكرة وتحويلها إلي أرض الواقع في فلسطين فهؤلاء كما وصفتهم ذات الرداء إحدي شخصيات المسرحية يمدون أيديهم لكل المستغلين في كل فترات التاريخ من البابليين حتي هل الأسد البريطاني، لكن هم في ظل العزلة ينتقلون إلي الطبقة الجديدة إلي الجولة الجديدة وهذا ما فعلوه حين انتقلوا من أحضان الأسد البريطاني إلي أحضان مخلص العصر الأمريكي.. هكذا يتنبأ يسري الجندي في مسرحيته بأن مسيح هذا العصر هم الأمريكان بماذا يصفه الكاتب في مسرحيته الرائعة تعالوا معا نتأمل وصفه الذكي للمسيح الأمريكي يدخل المسيح المنتظر علي محفة بإعلانات لوحة تحمل اسمه.. المسيح الأمريكي الجميل الوجه»، مرتديا حلة بيضاء ناصعة البياض تغطي يديه قفازات بيضاء بالغ الوسامة، والرقة علي رأسه غار الشوك من الذهب في خدمته الجنرالات والصيارفة والأساتذة يعرف متي يستخدم أيا منهم ومتي يستخدم الآخر يأتي معلنا أنه جاء ليتحمل مسئوليته، مبشرا بعهد قادم من السلام الدائم والرخاء الدائم وبعد أن ينصب نفسه مسئولا عن العالم لا بالحق الإلهي طبعا ولكن من حيث هو المدافع الأكبر عن الحرية في هذا العالم. ولا إخال أن هذا الوصف فيه زيادة لمستزيد فالكلمات واضحة وفاضحة فقط علينا بتأمل تلك الجمل «علي رأسه غار الشوك»، و«يأتي معلنا أنه جاء ليتحمل مسئوليته مبشرا بعهد قادم من السلام الدائم والرخاء الدائم» فهذه الكلمات بنصها هي نفس أكاذيب بوش الابن لكي يحتل العراق ولكي يعيد تقسيم الشرق الأوسط وفق مصالح اللوبي اليهودي، الذي يحركه المؤلم في الأمر أن هذا النص كتب عام 1968 أي أننا منذ هذا التاريخ والحقائق أمامنا تحرق أعيننا ولا نتحرك فنحن كما يقول الجندي نعشق المساء والرمادي افتقدنا الدهشة حينما طالعتنا صور الأطفال والرضع المصابين بالطلقات المطاطية افتقدنا البراءة عندما رأينا العيون التي مازالت تري ما لا نراه. لقد أصبحت الحياة لدينا عادة والألم عادة والصراخ عادة والخوف والموت عادة ثم نعود لنتساءل في براءة المتوحشين ماذا حدث للمصريين الإجابة ببساطة أننا دائما في انتظار المخلص في انتظار الذي يأتي ولا يأتي ولكنه أخيرا جاء كما جسده وتنبأ به يسري الجندي المسيح الأمريكي... إن من يتأمل عالم يسري الجندي الفني سيجده حالما زاخرا بالقضايا الساخنة يبني بداخلها الكاتب أبنية درامية تتصارع فيها ما هو ملحمي بما هو تراجيدي وتخاطب الجمهور دون تعال رغم أن لغة هذه المسرحيات وتلك الأعمال لغة شاعرية فصيحة... والمتأمل لحديثنا عن الجندي منذ البداية سيندهش لأننا تحدثنا بكثرة عن مسرحه والواقع أنه بدأ كاتبا مسرحيا ومازال وانتهي إلي الدراما التليفزيونية مع بداية الثمانينيات تقريبا بعد أن استطاعت هذه الدراما بما لها من شعبية طاغية أن تجتذب عديدا من كتاب المسرح النابهين في ذلك الوقت وعلي رأسهم يسري الجندي الذي قدم عبر مشواره التليفزيوني عديدا من الأعمال الناجحة توزعت بين التاريخ والتراث الشعبي وأعمالا ذات طابع فانتازي وأعمالا معاصرة منها «عبدالله النديم»، «نهاية العالم ليست غدا»، «أهلا يا جدو العزيز»، «المدينة والحصار»، «عن الطاعون الكامي»، «علي بابا»، «قهوة المواردي»، عن رواية لمحمد جلال ـ «السيرة الهلالية» ثلاثة أجزاء «جمهورية زفتي»، «التوأم»، «سامحوني ما كانش قصدي»، «جحا المصري»، ومسلسل «الطارق» الذي لم يعرض بعد كما حصل علي عديد من الجوائز عن بعض السهرات التليفزيونية وأيضا بعض أعماله التليفزيونية كما قدم الكاتب يسري الجندي طوال مشواره أعمالا جيدة للسينما اتسمت هذه الأعمال بملمحه الأساسي في المسرح وهو اهتمامه بالتراث فقدم «المغنواتي» إخراج د. سيد عيسي و«سعد اليتيم»، إخراج أشرف فهمي و«أيام الرعب» عن قصة جمال الغيطاني إخراج سعيد مرزوق... أما في المسرح فالأمر يحتاج إلي صفحات مطولة لرصد إنتاجه المسرحي الغزير نذكر علي سبيل المثال لا الحصر «رابعة العدوية»، «وا قدساه» «الساحرة» «حدث في وادي الجن» «دكتور زعتر سلطان زمانه»، «عاشق المداحين»، و«الإسكافي ملكا»، والتي أوقفت بروفاتها العام الماضي بالمسرح القومي، لقد ظل يسري الجندي طوال رحلته الإبداعية التي امتدت إلي ما يقرب من خمسة وثلاثين عاما قابضا علي جمر القضايا الوطنية فمنذ ولادته الأولي ككاتب مسرحي ملتزم بقضايا وطنه وهموم أمته لم يسق أو يركن إلي الدعة بل ظل مدافعا عن كل ما هو نبيل وأصيل في الإنسانية لهذا كله وغيره الكثير نهدي له باقة ورد تقديرا لفنه ولكونه كاتبا ملتزما. جريدة القاهرة في 3 أغسطس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
35 عاما من الإبداع المتواصل
كرم محمود عفيفي |
|