أزمة «بحب السيما»، تؤكد أننا لسنا فقط «محلك سر» بل نتراجع إلي الخلف، ويسقط المزيد منا أسري للفكر الرجعي المتجمد، ويفتش بعضنا في عقول المبدعين وضمائرهم وينصب نفسه وكيلا للناس، يتحدث بأسمائهم ويحدد ما يريدون وما يرفضون. والأخطر أنه صارت في المجتمع رقابة أكثر تزمتا من رقابة الدولة، التي وافقت علي عرض الفيلم بعد استشارة كبار المثقفين المسيحيين، وتنفيذ ملاحظاتهم البسيطة التي لم تتجاوز حذف جملتين أو ثلاث من شريط الصوت دون مس شريط الصورة، كما أكد لي مخرج الفيلم أسامة فوزي.. فإذا بمن يخرج علينا مطالبا بمنع الفيلم كله، متهما إياه، بازدراء الأديان! وقبل التزمت، تشير هذه التهمة الخطيرة إلي مشكلة أخري تتعلق بالتلقي وبالفهم إذ يبدو أن البعض شاهد فيلما آخر غير الذي شاهدناه، فما شاهدناه يمجد الدين ويدعو إلي فهمه بالطريقة الصحيحة والوصول إلي روحه السمحة بعيدا عن أي تطرف ويدعو أيضا إلي التطهر لكن بعد إظهار خطورة الخطيئة، وحياة الكبت التي يمكن أن تؤدي إلي الوقوع فيها. فكل المواعظ والدروس الدينية المباشرة تعجز عن الدعوة إلي تجنب الخطيئة وإدانتها كما فعل المشهد الجميل والمؤثر للبطلة «نعمات» «ليلي علوي» وهي تتطهر من خطيئة الخيانة الزوجية في الكنيسة وتبكي بصدق وتدين نفسها بأكثر مما يمكن أن تفعل أي سلطة اجتماعية أو دينية... ومن يشاهد هذا المشهد ثم يقول إن الفيلم يزدري الأديان فلابد أن لديه خللا ما سواء في التلقي أو في النوايا. نفس الخلل دفع البعض إلي انتقاد مخاطبة الأب «محمود حميدة»، والابن «يوسف عثمان»، لربنا بصراحة وبدون حرج رغم أن ذلك ما نفعله جميعا عند الشدائد... وهذا الموقف أكبر دليل علي أننا نتراجع إلي الخلف، فقد كنا نسمح في الماضي «رقابة ومجتمعا»، بمخاطبة ربنا ليس بصراحة فقط، ولكن بسخرية أيضا. لنتذكر مثلا فيلم «نور العيون»، عندما خاطب حسن فايق ربنا قائلا: أنا قلت لك لبن مش زبادي، عندما طلب من ربنا أن يجعل يومه «لبن»، فانقلبت عليه دراجة محملة بالزبادي! لنتذكر أيضا فيلم «شارع الحب»، عندما خاطب عبدالسلام النابلسي ربنا قائلا: كفاية ماتبسطهاش أكتر من كده، بعد أن طلب من الباسط أن يبسطها فوقعت عليه حلة ملوخية. والمؤسف أن هذا الخلل في التلقي طال بعض كبار كتابنا ومثقفينا فقد كتب الكاتب الكبير والمهم محمد سلماوي مشيدا بالفيلم لكنه أخذ عليه أنه يدور في عهد عبدالناصر، قائلا: إن هذا العصر لم يعرف التطرف الديني وحتي لو كان ذلك صحيحا، فإن الفيلم ليس له علاقة من قريب أو بعيد بفكرة التطرف الديني، ولا يناقشها علي الإطلاق، والأب الذي يعتبره الأستاذ سلماوي رمزا للتطرف الديني ليس في الحقيقة سوي رمز للخوف... فهو مجرد شخص خائف من النار وعقاب ربنا، ويفعل كل ما يتصور أنه يجنبه الاحتراق في جهنم، بل يتمني في صلاة من صلواته أمام صورة المسيح نهاية «عسل» مثل القديس الذي عاش حياته بالطول والعرض ثم نال الجنة في آخر لحظة من حياته... فأين ذلك من التطرف الديني؟ وهناك مشهد يؤكد ما تذهب إليه ويعد من مشاهد الفيلم الرئيسية حين يسير الأب تحت المطر ويخاطب ربنا قائلا: أنا مش بحبك.. أنا بخاف منك بس فهل هناك متطرف دينيا يقول أو يفعل ذلك؟ وحتي الرموز الدينية التي تظهر في الفيلم ما هي إلا رموز للتسامح والتحضر، فنحن نري الكنيسة تعمل علي توصيل رسالتها من خلال إقامة المسرحيات مثل مسرحية «يوسف» ونري قسا بشوشا يصر علي إتمام زواج العروسين «منة شلبي وإدوارد فؤاد،» رغم امتلاء وجهه بالكدمات بعد خناقة الأسرتين. هذا الخلل في التلقي حرم الفنان محمود حميدة من أن ينال حقه بعد أن أدي ليس فقط أهم أدواره علي الإطلاق ولكن واحدا من أعظم وأصعب الأدوار في تاريخ السينما المصرية... فقد أخذ عليه البعض المبالغة في الأداء في بعض المشاهد رغم أن هذه المبالغة هي التي تشهد له بموهبته وفهمه للشخصية التي يؤديها... فحميدة لم يستخدم المبالغة سوي في المشاهد التي يبالغ فيها الأب لكي يقنع أسرته بأشياء هو نفسه غير مقتنع بها، ولكنه يضطر إلي ذلك متصورا أن هذا هو طريق النجاة من جهنم وبعد أن يكتشف خطأه ويبدأ في السعي لتعويض أسرته وإسعادها، تختفي المبالغة تماما من الأداء ويحل مكانها أسلوب آخر دافئ، وحميم والتحول مقصود تماما، سواء من حميدة أو المخرج أسامة فوزي. وفي كل الأحوال تؤكد أزمة «بحب السيما» أننا إزاء فيلم حقيقي، يثير الجدل ويدفع إلي التأمل، ويختلف حوله المتلقون، من يراه تحفة فنية، ومن يعتبره كارثة صادمة، وهذا بلا شك يحسب للفيلم رغم التحفظات الفنية وليس الرقابية عليه، فهو علي الأقل ليس كليب للدعارة أو وصلة للشرشحة مثل بعض الأفلام المعروضة حاليا. معظم تحفظاتي تتعلق بسيناريو هاني فوزي، ويشارك في تحمل مسئوليتها بالطبع المخرج وعلي رأسها استخدام الراوي من أول إلي آخر لحظة... والراوي هو أضعف الحيل الدرامية علي الإطلاق، ودائما من الأفضل التعبير بالصورة في السينما وليس بما يصبه الراوي في آذاننا، وفضلا عن ذلك فإن له مشكلاته التي تضعف الفيلم وتوجد به الثغرات فمن أين الراوي الطفل بعد أن يكبر أن يعرف أدق الخصوصيات التي نتابعها بين أمه وأبيه؟ ومن أين له أن يعرف ومن ثم يروي لنا ما جري بعيدا عن دائرته تماما مثل واقعة خيانة أمه ومثل مشكلات أبيه في العمل؟ السيناريو ضيّع أيضا أكثر من فرصة لإنهاء الفيلم نهاية قوية فبعد كل «كريشندو» درامي في الجزء الأخير نفاجأ بالمزيد من المشاهد التي كان يمكن الاستغناء عنها أو تقديمها، ولست مقتنعا بوجهة نظر الصديق أسامة فوزي الذي قال في لقاء تليفزيوني،:إن المشكلة في المتلقين الذين اعتادوا علي نمط محدد من البناء السينمائي، ويرفضون أي بناء آخر.. فالحقيقة أن هناك فعلا عددا من المشاهد التي كان يمكن التصرف فيها علي الأقل بالتقديم مثل مشهد وفاة الجد في النهاية، والحقيقة أيضا أن المشاهدين ينصرفون قبل نهاية الفيلم. كما أفرط السيناريو في السخرية القاسية من كل شيء متخفيا وراء شخصية الطفل، ومستخدما وسيلته الأثيرة في التبول علي الجميع، وقد كانت وسيلة طريفة في البداية، وتحولت إلي شيء مقزز في النهاية وأفقدت الطفل الكثير من المشاهدين معه.. إلا أنني أتفهم تماما ما كان يقصده صناع الفيلم من وراء ذلك وهو أن الجميع يمارسون قهرهم علي الجميع، بمن فيهم الطفل، الذي يمارس قهره علي خالته «منة شلبي»، وجدته «نادية رفيق»، وغيرهما. وبعيدا عن السيناريو، لم تكن موسيقي خالد شكري علي مستوي الدراما، وبدت نشازا في كثير من الأحيان وإن كانت بقية العناصر التقنية شديدة التفوق، والتميز، وتكفي للتغطية علي العيوب، علي رأس هذه العناصر أسامة فوزي الذي أصبح بعد ثلاثة أفلام فقط، من أهم المخرجين المصريين بفضل دقته التقنية، واهتمامه بالتفاصيل وقدرته الكبيرة علي إدارة الممثلين وإخراج أفضل ما عندهم. ونجح مدير التصوير الكبير طارق التلمساني في تحقيق العمق المطلوب في أضيق المساحات واستخدم الإضاءة ببراعة لإظهار الأبعاد الخفية في الشخصيات خاصة شخصية الأب وهذا التفوق التقني إلي جانب الجرأة والجدة والأداء التمثيلي الرائع لحميدة وليلي علوي وعايدة عبدالعزيز يضع الفيلم في مصاف أهم الإبداعات السينمائية في السنوات الأخيرة بالفعل وليس في الدعاية فقط. جريدة القاهرة في 27 يوليو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
نحن نتراجع إلي الخلف ونظلم مبدعينا ونحرمهم من حقوقهم
أسامة عبدالفتاح |
|