شعار الموقع (Our Logo)

 

 

أخيرا.. وأخيرا جدا. بعد أن كاد اليأس يصل بنا إلي أقصي درجاته، وبعد أن أغلق الضحك الفاسد المبتذل الأبواب كلها أمام فن الكوميديا الذي اعتبره اليونان القدامي أرقي الفنون وأكثرها تصفية للنفس من همومها الأرضية. يأتينا فيلم عادل إمام الأخير «عريس من جهة أمنية» ليفتح أمامنا طاقة كبيرة من الأمل.. وليشعرنا أن الكوميديا الحقة لا تموت «وإن أخفاها السحاب الأسود بعضا من الحين عن قلوبنا وأعيننا».

«عريس من جهة أمنية» نسخة ضاحكة حقيقية جاءتنا في أعلي درجات القيظ.. وبعد ابتذال لفظي وحركي وصل إلي أقصي درجاته.. ونسف في طريقه كل اعتبارات الفن والذوق السليم والمنطق الضاحك.

ليقدم لنا.. نموذجا حيا ضاحكاً.. فيه كل مقومات الكوميديا التي أحببناها والتي نسعي إليها. لا يهم إذا كانت فكرة الفيلم الأصلية مستمدة من فيلم أمريكي ناجح.. لأن يوسف معاطي قد استطاع أن يأخذ من الفكرة الأمريكية قشرة شفافة لا قيمة لها.. واستطاع أن ينسج حولها نسيجا مصريا صميماً من خلال رسمه لشخصية مركبة فيها شأن كل الكوميديات الكبري وجه تراجيدي، ووجه ضاحك.

ويختلط الوجهان ليشكلا آخر الأمر نموذجا إنسانيا فريدا قادرا علي الإضحاك وفي الوقت نفسه قادراً علي إثارة التفكير.. وطرح بعض الأسئلة الكبري.

عادل إمام في «عريس من جهة أمنية».. يلعب دور أب ثري.. يعيش مع ابنته الوحيدة بعد موت أمها وبعد أن أشرف بنفسه علي تربيتها.. مكرسا حياته وأمله حولها.. مما جعله آخر الأمر يتعلق بها تعلقا جنونيا.. ويكاد يصبح عاشقا لها.. أكثر منه أباً يسعي إلي سعادتها.. حبه انقلب إلي نوع من الأنانية الغامضة المغلقة علي نفسها.. تجعله يرفض فكرة أن يقترب منها أي إنسان مهما كانت صفاته ليبعده عنها.. ناسيا ومتناسيا حقوقها كأنثي يمكن أن تحب وأن تعشق وتتفاني، والابنة «حلا شيحا» تبدو راضية عن هذا التعلق.. مستمتعة به إلي درجة ما.. وهذا ما يقدمه الفيلم في مشاهده الأولي.. المليئة بالحركة والشديدة الذكاء والتي تمثل تعلق الأب وغيرته الجنونية عليها، مما يسبب مثلا عرقلة المرور ساعات طويلة، لأن الأب قد استهجن نظرة شاب يقود سيارته إلي ابنته فأوقف السيارة في عرض الطريق ليتصدي له.. ويثير معركة تجمع حولها الناس.. وجعلت السيارات المنتظرة تقف طابورا طويلا لا ينتهي.

بل إن السيناريو البارع.. يقدم لنا بعد ذلك نماذج من العرسان الذين تقدموا إلي الأب طالبين يد الفتاة الحسناء الثرية.. والشكل الذي كان يقابلهم به.. والطريقة التي كان يتخلص بها منهم.. في مشاهد قصيرة ممتعة.

تلقي الضوء علي نفسية الأب وسلوكه.. وفي نفس الوقت ترسم صورة حقيقية رغم إيجازها لهؤلاء العرسان.. فمنهم من يطمع في الثروة.. ومنهم من أصابته هيستريا الشباب.. وثالث يمثل جيلا من الشباب المعاصر.. البعيد عن المسئولية والغارق في ضباب الوهم.

الطاغية العاشق

نماذج قدمها الفيلم بشكل سريع ومؤثر.. يغلب عليه طابع الإضحاك والكاريكاتير.. ولكنه ينعكس علي شخصية الأب الطاغية العاشق.. ليمثل اتجاهاته وأنانيته وسيطرته وعشقه الخفي.

الأب.. يدير شبكة من المحلات التي تخصصت في بيع القطع الأثرية للسياح.. وهذا ما يجعله قادراً علي إغراء بعض السائحات الأجنبيات مستخدما فخا اختص به معتمدا علي سحر الآلهة الفرعونية.. آلهة الإخصاب وآلهة التنكر.. وهنا يقدم الفيلم أيضا نماذج ثلاثة هي المعادل الحقيقي لنماذج العرسان الثلاثة الذين تقدموا لخطبة الابنة.

وهنا.. يضع السيناريو خطا واضحا كل الوضوح.. حول الشخصية المركبة لهذا الأب الذي لا يمنع نفسه عن الاستمتاع بكل الفرص السانحة التي تقدمها له الحياة.. بينما يضع ستارا سميكا ليمنع من وصول أية فرصة كانت لابنته الشابة.

وهنا أيضا يبرع علي إدريس.. في تقديم حفلات الأب الماجنة.. كل مرة بأسلوب مختلف جذاب.. والتي ستقود مرة أخري هذه الحفلات.. أبانا العاشق إلي التعرف علي الشخصية الأمنية المهمة.. التي ستنقذه من مطب أخلاقي وعر وقع فيه والتي سنكتشف سريعا أنه الرجل الذي وقعت الابنة في حبه.. رغم مراقبة الأب الصارمة والذي قرر أن يتقدم لخطبتها من أبيها.. بعد أن أخذ موافقتها ونال رضاها.

في كل هذه المقاطع.. التي تبدو وكأنها مقدمة ضرورية جدا لرسم الشخصيات.. سواء من خلال تصرفها.. أو من خلال ردود فعلها مع الآخرين.. نجح السيناريو والإخراج في رسم الإطار الكوميدي الموفق الذي ستدور حوله بعد ذلك أحداث الفيلم كلها، ولكن ذلك ما كان ليحقق هذا النجاح الذي رأيناه وهذه السلاسة والطبيعية في رسم الإطار والمضمون لها.. لولا الموهبة التمثيلية الخارقة التي قدم فيها عادل إمام هذه الشخصية.

منذ اللحظة الأولي.. يبدو النجم الكبير في أوج تألقه.. ممثلاً كوميدياً لا نظير له.. يعرف كيف يستغل حركته.. نظرات عينيه، تعبيرات وجهه، التي تتغير بسرعة صاروخية بين تعبير وآخر، وكيف يجعلنا نتعاطف إلي أقصي درجة مع هذه الشخصية (المريضة) في أعماقها.. والتي أحالها أداء عادل إمام إلي شخصية مركبة.. يتلون فيها الضاحك والدرامي كما تتلون أمواج البحر.

في كل مشهد من مشاهد هذا «البرولوج» الذي سبق الدخول في الموضوع.. صعد عادل إمام إلي أقصي درجات التعبير مما جعلنا نلتقط الأنفاس.. ونتساءل ماذا بإمكانه أن يفعل بعد ذلك.. وبعد أن ألقي بأوراقه جميعا.. خلال العشرين دقيقة الأولي.

ولكن من هذه النقطة بالذات جاءت المعجزة، إذ إن ما رأيناه حتي الآن وأدهشنا لم يكن إلا الحركة الأولي.. من سيمفونية بارعة في الأداء، تصاعدت معنا رويدا رويدا حتي وصلت إلي أوجها.. وتركتنا فاغري الأفواه.. أمام أداء عبقري.. نضعه في مرتبة واحدة مع عباقرة الكوميديا.. لا في مصر وحدها.. بل علي مستوي العالم.

من خلال موقف كوميدي استثنائي، احترم فيه يوسف معاطي.. قواعد الكوميديا المعروفة، والقائمة علي سوء التفاهم.. المربك والمثير للضحك معا.. إذ يأتي الضابط (الخطيب).. إلي الأب العاشق القاسي.. ليطلب يد ابنته.. والأب يظنه قد أتي في زيارة عادية.. فيتحدث عن الكيفية التي يود التخلص فيها من الخطيب القديم.. بل يطلب من الضابط مساعدته في ذلك.. قبل أن يكتشف الحقيقة (الأليمة) التي لا يرغب في مواجهتها، مشهد يذكرنا بالمشهد الشهير لنجيب الريحاني في «غزل البنات» ومقابلته لسليمان نجيب، وخطأ التعرف إلي الهوية.

ومنذ هذا الموقف.. يسير الفيلم بشكل متصاعد.. ليروي المواجهة الشرسة.. التي يقدمها الفيلم من خلال قوتين متكافئتين.. الأب الذي يملك الثروة والنفوذ والعلاقات العامة، والذي يحاول الدفاع عما يعتقده حقه الشرعي.. وهو إبقاء ابنته إلي جانبه.. والثاني الذي يمثل مركز قوة كبيراً في الجهاز الأمني والذي يملك ردا علي كل العقبات التي يثيرها الأب في وجهه.. المال.. والمركز والشهادة العليا والنفوذ.

صراع كما قلنا يحمل وجهين وجهاً ضاحكاً ووجهاً درامياً.. عرف عادل إمام كيف يوازن بينهما بموهبة غير محدودة.. ومن خلال تعبيرات حركية ووجهية لا أظن أن أي كوميديان حي في مصر يمكنه أن يصل إليها.

ضحك بدون ابتذال

الفيلم يسير في إيقاع متصاعد.. جميل.. يضحكنا من القلب.. دون لحظة ابتذال.. ويدفعنا إلي التأمل دون أن يبتعد لحظة عن المتابعة.. كل ذلك بفضل مخرج حاذق يعرف كيف يمسك بخيوط موضوعه هو «علي إدريس».. الذي خطا خطوات كبيرة إلي الأمام منذ فيلمه الأول.. بل إنه وضع نفسه من خلال هذا الفيلم الكوميدي الناجح في المرتبة الأولي من المخرجين.

ورغم الوجود المركز المدهش لعادل إمام.. فقد أفسح الفنان الكبير المجال أمام أكثر من مثل أمامه ليقدم خير ما عنده.. شريف منير يتابع تألقه.. واكتشاف طريقه الجديد بعد «سهر الليالي».. وبعد توقف مؤسف طال طويلا علينا بعد دوره الذي لا ينسي في «الكيت كات».

حلا شيحا.. تعود بوجهها الهادئ الجميل.. ووجودها الرقيق لا تفعل شيئا سوي أن تكون المحرك الدرامي للأحداث.. ودون ضجة ودون افتعال وبطبيعية عفوية تحسد عليها.

لبلبة مفاجأة حقيقية في الفيلم.. تلعب دورا جديدا تماما عليها.. أم العريس.. ذات الشخصية العسكرية «النضالية».. التي تدافع بشراسة عن حقوق ابنها ولو اضطرها ذلك إلي اللجوء إلي أقصي درجات العنف.. مشهد معركتها علي الشاطئ مع عادل إمام الذي يتزامن مع معركة الحب في الفراش بين الابن وعروسه.. من المشاهد التي لا تنسي في الفيلم.. إخراجا.. وكتابة.. وأداء.. خصوصا بالنسبة للبلبة التي تثبت يوما بعد يوم أنها أصبحت من انضج ممثلاتنا وأقدرهن علي التعبير من خلال شخصيات ونماذج مختلفة تصل أحيانا إلي حد التناقض.

قد يبدو لنا من البناء الدرامي للفيلم.. أن أحداثه يجب أن تتوقف عند حفلة الزفاف التي قدمها علي إدريس.. بطريقة مدهشة حقا.. ومحاولة الأب أن يجلس علي مقعد العريس إلي جانب ابنته لولا تدخل أم العريس التي تبعده بالقوة.

ولكن الفيلم لم ينته هنا.. واستمر ليحدثنا عن عاطفة الأب الجارفة المتناسبة مع شخصيته والذي لا يعترف بالهزيمة.. ويلحق بابنته وعريسها ليعكر عليهما شهر العسل.

ولكن سنة الحياة لابد لها أن تستمر.. ولابد للأب أن يعترف بفشله.. خصوصا بعد أن وصلت الأمور بين الزوجة وعريسها إلي حدود الفراق.. رغم حملها.

هذا الفشل يتوج.. بولادة العروس.. وبحصول الأب العاشق علي بديل لابنته التي أفلتت تماما من بين أصابعه.

هذا المشهد أعطي عادل إمام مجالا.. لأن يقدم مشهدا تعبيريا.. نال فيه بعينيه وتعبير وجهه ما تعجز كلمات الدنيا كلها عن التعبير عنه.

أما النهاية العبقرية التي تروي لنا.. عجز الأب العاشق عن الاستئثار بحفيدته كما فعل بابنته من خلال ثورة الأطفال المسلحة عليه.. فإنها نهاية تحمل كل التفسيرات.. وكل الرموز.

عودة فنان كبير

«عريس من جهة أمنية» هو عودة فنان كبير إلي أوج تألقه.. وعودة الكوميديا إلي أبهي لحظاتها ورسالة غير مباشرة.. تقول لنا إن مدرسة نجيب الريحاني وفؤاد المهندس.. مدرسة الكوميديا الحقيقية لم تمت مادام فارسها الكبير عادل إمام مازال يحمل سيف موهبته للدفاع عنها.

جريدة القاهرة في 27 يوليو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

د. رفيق الصبان يكتب بحماس زائد عن «عريس من جهة أمنية»:

عادل إمام يتربع علي عرش الكوميديا مع سبق الإصرار والترصد