صدام حسين شخص مولع بالضوء على مستوى الشكل بقدر ولعه بالظلام على مستوى المضمون. فهو يحمل النقيضين، لذا هو من اكثر الشخصيات التاريخية التي تتجسد فيها التراجيديا والكوميديا في آن واحد وبشكل واضح سهل الاكتشاف. اذ ان لعبة الضوء هي احد المزالق التي قد تسقط صاحبها في كوميديا مثيرة للسخرية في الكتابة والمشاهدة. منذ خروجه العلني الى المشهد السياسي، عمل صدام حسين على اظهار شخصه بشكل قدسي، على غرار تناول شخصية الرسول محمد في الاعمال الدرامية، فطلب من مؤسسته الاعلامية انتاج عمل تلفزيوني درامي عن شخصه لا يظهر فيها الشخص الذي يمثله على الشاشة بل تتحرك الكاميرا وحدها محمولة على الكتف لتمثل مسار صدام حسين في الحدث. اهم المشاهد في ذلك العمل الدرامي مشهد اعتقال صدام حسين واجراء التحقيق معه في مديرية الامن حيث تحركت الكاميرا وهي تمثل مشية صدام حسين داخل اروقة مديرية الامن، ثم تدخل الكاميرا الى غرفة التحقيق فيقف المحقق احتراما لشخصه الذي لا نراه بل نشعر بحركته من خلال حركة الكاميرا ويجلس المصور بكاميراه المحمولة على الكتف دليل جلوس صدام حسين ونحن نسمع صوت صدام (ممثلا) يلقي بالنظريات على المحقق عن الوحدة والحرية والاشتراكية، في حين ان المحقق يصغي اليه باعجاب واحترام شديدين. فيما حقيقة الامر ان صدام حسين كان خائفا في تلك الحادثة وقد قبل ان يصبح وكيل امن يرتبط بشكل فردي ومباشر بمدير الامن العام رشيد محسن، وقد سلمه مسدسا بدأ يستعمله في كلية الحقوق في مطاردة الطلاب الراديكاليين المناوئين للنظام السياسي عام .1966 وبعدما تسلم السلطة، حاول صدام حسين اغتيال مدير الامن الذي لجأ الى القاهرة سياسيا، وقد افشل رجال الامن في مصر تلك المحاولة وكان يخشى ان يفضح مدير الامن بالوثيقة حقيقة تلك المرحلة التاريخية لصدام حسين. عندما قرر صدام حسين كتابة سيرة حياته سينمائيا كان يعاني مرضا في فقرات الظهر فأمره طبيبه الخاص بأن يبقى مستلقيا على فراش صلب لفترة من الوقت شعر فيها بالضجر فأمر كتّاب الرواية بأن يحضروا كل يوم ليروي لهم قصة حياته السياسية ونضاله في معتركها ليدوّنوها في عمل روائي. وكانوا يتسابقون جميعهم في كتابة الرواية ففاز فيها عبد الامير معله، "اسرعهم" انجازا للرواية وهي "الايام الطويلة". كان معلة مدير مؤسسة السينما العراقية، وقد وضعت الامكانات المالية لتحويل الرواية فيلما سينمائيا اخرجه المصري الراديكالي توفيق صالح بموازنة مفتوحة (وهو تعبير يستعمل للمرة الاولى في تاريخ اقتصاد السينما). وتمثلت المشكلة في الشخص الذي يستحق ان يؤدي دور صدام حسين على ان لا يكون سبق له ان ادى ادوارا في السينما والمسرح لا تليق بالقيمة المثالية النموذجية لصدام حسين. كأن يكون الممثل قد لعب دور مجرم او سكير. وكان القرار ان يؤدي الدور شخص لا علاقة له بالتمثيل وان يكون تاريخه الشخصي لا غبار عليه وان يكون قريب الشبه بشخص صدام حسين عندما كان يافعا، فوقع الاختيار على احد ابناء عمومته الذي يقربه في الشبه في سحنته البدوية، وصادف ان اسمه ايضا كان صدام فزوجه من ابنته. وبعد فترة من عرض الفيلم فرّ حسين كامل واخوه صدام كامل، بطل فيلم "الايام الطويلة"، هاربين الى عمان في الاردن، وهما زوجا ابنتي صدام، رغد وحلا، ثم عادا الى العراق فتمت تصفيتهما. وبذلك اصبح الفيلم غير قابل للعرض بسبب خيانة البطل. فتقرر اعادة انتاج الفيلم مع ممثل آخر، لكن مخرج الفيلم هرب بسبب تسرب معلومات على لسانه عن ظروف انتاج الفيلم. فتقرر تبديل المخرج. وعندما بدأ المخرج الجديد يعد العدة لاخراج الفيلم القي القبض على ابن المؤلف عبد الامير المعلة بسبب تعاطفه مع التيارات الدينية الشيعية. ولأن والده من الكوادر المتقدمة في حزب البعث الذي يقوده صدام حسين، فقد تم استدعاء عبد الامير وتوبيخه بسبب عدم تثقيف ابنه ثقافة بعثية، ولأنه لم يبلّغ المؤسسات الامنية عن ابنه وعن انتمائه الى صفوف تيار الدين الشيعي المناوئ لسلطة حزب البعث. وقد تلقى المؤلف ضربا مبرحا مرض على اثره ومات. وقد تعذر تماما بسبب من ذلك اعادة انتاج الفيلم. فقد اعدم البطل بسبب خيانته، ومات المؤلف بسبب انتماء ابنه الى التيار الديني، وهرب المخرج بسبب تسريب معلومات عن الفيلم. هذه الاحداث كوميدية في مضمونها، لكن ما هي المعلومات التي حملت المخرج على الهرب الى بلاده بعدما عمل في مناخ موازنة مالية مفتوحة؟ بعدما انتهى تصوير "الايام الطويلة" وصار جاهزا للعرض، كانت الحرب العراقية مع ايران في اشدها والصواريخ البعيدة المدى تهز العاصمة العراقية والجنود يموتون ويشوهون بالآلاف في ساحة الحرب، والسيارات العسكرية تنقل الجثث وتوزعها على المدن العراقية. في تلك الفترة وزع فيلم "الايام الطويلة" على جميع صالات العرض في العراق ليتم عرضه في آن واحد على ان يحضره المسؤولون في العاصمة بغداد والمسؤولون في المدن العراقية كافة. لكن صدام حسين تنبه فجأة الى وجود لقطة اثارت عدم رضاه. اللقطة تمثله اثناء فترة صباه عندما حاول اغتيال الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم الذي اطاح النظام الملكي في العراق عام 1958 وقد اصيب صدام حسين بطلقة في ساقه اثناء محاولته اغتيال الزعيم وهرب الى بيت حزبي حيث استدعي طبيب من الحزب لاخراج الرصاصة من ساقه بدون تخدير. وقد بدا وجه صدام على الشاشة متألما قليلا جدا، مما اثار استياءه من هذه اللقطة فطلب اجتماعا عاجلا للقيادتين القومية والقطرية والوزراء وشخصيات الدولة وتم استدعاء المؤلف والمخرج الذي كان في اجازة وكذلك استدعي الطبيب الذي اخرج الرصاصة من ساق صدام حسين قبل اكثر من عشرين عاما وتم عرض الفيلم في صالة السينما في القصر الجمهوري في صمت مطبق. وعندما حان وقت اللقطة التي يتم فيها اخراج الرصاصة من ساق صدام حسين، ظهر وجهه على الشاشة في لقطة كبيرة وهو يبدي بعض الالم. فطلب ايقاف عرض الفيلم وسأل الحضور رأيهم في اللقطة فأجاب وزير الاعلام أنها جيدة، فما كان من صدام حسين الا ان وبخه بأعنف الالفاظ ثم اعفاه من منصبه لاحقا. بعد ذلك وجه السؤال الآتي الى الطبيب: "عندما أخرجت الرصاصة من ساقي هل بدا عليّ الألم حينها؟" فأجاب الطبيب بالنفي. لكن صدام طلب من المخرج ان يعيد تصوير اللقطة بحيث تظهر تعابيره خالية من اي الم، على ان يتم تغيير اللقطة في النسخ كافة واتلاف اللقطة القديمة، وان يتم هذا كله على الفور، لتعرض النسخة المصححة في صالات السينما في العراق خلال اليوم التالي. وعبثا حاول المخرج اقناع صدام حسين بتأجيل يوم الافتتاح لكي يتسنى له انجاز هذا العمل الكبير. ثم تذكر المخرج اللقطة المصورة قبل الـAction حيث يقف الممثل صامتا تماما كالتمثال قبل تصوير اللقطة، فكان عليه ان يجد تلك اللقطة بين آلاف اللقطات المصورة والتي اصبحت في سلة الفائض من المونتاج. ولأجل ذلك استدعي موظفو مؤسسة السينما للبحث عن اللقطة ليلا وتم العثور عليها ولصقها في السالب ثم طبعت النسخ الموجبة من الفصل طوال الليل وخلال اليوم التالي في خضم المعارك التي كانت خلالها الطائرات العسكرية الايرانية والعراقية تتبادلان القصف فوق بغداد والمدن العراقية الاخرى. وكانت طائرات الهليوكوبتر تسافر بين الطائرات المتقاتلة نحو مدن العراق لكي تبدل الفصل السينمائي لمشهد اخراج الرصاصة من ساق صدام حسين. أليست هذه الاحداث كوميدية في مسار تراجيديا الحرب والعسف في العراق كمادة للاعمال الدرامية وبشكل خاص السينمائية منها؟! عاد الم الظهر ينتاب البطل التراجيدي فنصحه الطبيب بتخفيف وزنه الى خمسة وسبعين كيلوغراما، ثم وضع له نظاما غذائيا وصحيا ورياضيا حتى اذا ما نجح في الوصول الى خمسة وسبعين كيلوغراما اصدر قانونا للجيش العراقي وضباطه يتم بموجبه معاقبة من تزيد اوزانهم على خمسة وسبعين كيلوغراما واعطاهم مهلة ثلاثة أشهر لتخفيف اوزانهم والا تعرضوا لأشد العقوبات! وفي احد الايام اعجب صدام بأغنية تتغزل بانتصاراته الوهمية في الحرب العراقية مع ايران فأصدر امرا يعفي بموجبه من الخدمة العسكرية كل من يغنّي للحرب. فما كان من شباب العراق وطلبة الجامعات سوى الحصول على بعض المال لشراء كلمات الاغاني التي تتغزل بالحرب ودفع المال للملحنين وتسجيل الاغاني وطبع الكاسيتات قبل الذهاب الى مديرية التجنيد العسكري والوقوف في طوابير طويلة حاملين اغانيهم على اشرطة الكاسيت المغلفة اياً تكن تلك الاغاني، وذلك ليحصلوا على الاعفاء من الالتحاق بالخدمة العسكرية وجبهات القتال حتى وصل عدد مطربي العراق خلال بضعة أشهر الى نحو مئة الف مطرب. اما الشعراء الذين كانوا يمدحون القائد ويمجدون الحرب والانتصارات فكانت تأتيهم الاوامر بأن يبقوا في بيوتهم، حتى اذا اعجب صدام بشعرهم فانه يرسل سيارات من الاجهزة الامنية الخاصة تنقلهم الى احد الامكنة. وكان الانتظار يطول احيانا الى ان يحل الفرج. آنذاك كانت تعصب عيون المغنين بشريط اسود وتجول بهم السيارات في شوارع العاصمة الى ان تصل الى المقر المحدد حيث يصار الى تجريد المغنين من ملابسهم بشكل كامل بعد تفتيشها ثم ينظر الى مؤخراتهم بالناظور خشية ان يكونوا قد اخفوا شيئا. وبعد ذلك يرتدون ملابسهم ثم تغسل ايديهم بالمياه المعقمة لمصافحة صدام حسين والحصول على هدية قيمتها عشرة آلاف دينار، اي ما يعادل اقل من دولارين! ان مشهد الحوار الذي دار في صالة السينما الخاصة بالقصر الجمهوري لتغيير اللقطة التي يتألم فيها البطل اثناء اخراج الرصاصة من ساقه بدون مخدر، وابدالها بلقطة ساكتة تخلو من اي تعبير انساني، لمشهد مغرق في الكوميديا. ان مشهد الطائرات العسكرية التي كانت تنقل علب الافلام الى صالات السينما ثم استبدالها بعد تغيير اللقطة وسط دوي المدافع ومعارك الطائرات الحربية في اجواء العراق لمشهد مغرق في الكوميديا. وكذلك مشهد الشعراء المعصوبي العيون الذين جردوا من ملابسهم وجرى التدقيق في مؤخراتهم وتعقيم ايديهم لمقابلة الرئيس والحصول على تكريم قيمته دولاران لهو ايضاً وايضاً مشهد مغرق في الكوميديا. هذه المشاهد الكوميدية وسط تراجيديا الموت تنطوي على قيمة درامية مغرقة في الضحك وهي تثير السخرية لو عرف السينمائيون الخلاقون كيف ينتجونها. ان محاكمة صدام حسين ليست مشهدا تراجيدياً بالرغم من وثائق الاتهام الموجهة اليه. فاذا عرفنا ابعاد اللعبة المسرحية منذ بدايتها حتى مشهد المحاكمة فاننا في الحقيقة سنكون امام اكثر المشاهد الكوميدية اثارة. فاذا توصل كاتب السيناريو، الى صياغة روائية لها بعين واعية وقادرة على الحبك وتحليل الحيثيات، فان ذلك سيكون لبّ الكوميديا المرّة. ان شخصية صدام حسين التراجيدية التي مزقت المجتمع العراقي وزرعت في ارضه الموت وفي مائه وسمائه التلوث، والتي صعّدت الاحداث الى درجة انها اودت به هو نفسه الى المصير المحتوم، ليس من المناسب ان يعاد انتاجها سينمائيا بالعمق التراجيدي نفسه لأنه سيكون من الصعب تجسيد الفجيعة في السينما بقوة تجسدها الواقعي. ربما تكون الكوميديا المرة الاكثر ملاءمة لقراءة المأساة لأن ذلك سوف يتيح للمشاهد ان يضحك على البطل التراجيدي في حين ان اعادة انتاج المأساة من دون القراءة الساخرة لها ولسلوكها قد تثير اعجاب البعض وقد تشكل اعادة لانتاج الشخصية النمطية فتتكرر شخصية الديكتاتور بأشكال مختلفة. اضافة الى ذلك، فان اعادة صياغة المأساة تراجيديا في الاعمال الدرامية هي حالة مدمرة للمتلقي. فمشهد الشباب الذين دمّرت اجسادهم المتفجرات داخل حفرة القبر الجماعي لمشهد مؤلم في السينما ومدمر للمشاعر الانسانية. لذا يمكن ان يبقى وثيقة للضرورة وليس وثيقة للتعميم والمشاهدة المتواصلة. والبطل التراجيدي شخصية قابلة للسخرية مثلما هي قابلة للرثاء. وقد يكون صدام حسين اكثر الابطال التراجيديين وضوحا في جمع التضاد المأسوي والهزلي على مر التاريخ!. النهار اللبنانية في 27 يوليو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
قــراءة ســيـنـمـائــيـة فـي شــخـصــيـة صـدام حـســين كيف يمكن ان نقرأ شخصية صدام حسين قراءة كوميدية حقيقية، بمعنى اكتشاف الجانب الهزلي في هذه الشخصية التراجيدية؟! قاسم حول |
|