مضى على أول عرض عام للأفلام السينمائية في العالم قرن وعدة أعوام. ومنذ ذلك الحين، وعلى الرغم من كل التطورات التي طرأت على تقنيات السينما لا تزال السينما تؤكد في كل مرحلة جديدة من تطورها أنها فن الوهم بالواقع، مثلها في ذلك مثل الفلسفة التي أوهمت الناس عبر التاريخ ومن خلال مدارسها المختلفة أنها الطريق لفهم الواقع والوصول إلى الحقيقة. وهكذا، ونتيجة لكل التطورات التقنية المتسارعة التي رافقت مسيرة السينما منذ قرن وبضع سنوات من الزمن، فإن إبقاء السينما على خاصيتها الأساسية التي اتسمت بها منذ ولادتها، وهي أنها فن الإيهام بالواقع، يتطلب منها السعي نحو الصدق الفني أولا وآخرا. كانت مسألة معرفة الحقيقة وفهم الواقع والتعبير عنه بصدق هاجسا يسيطر على الناس وخاصة المفكرين والمبدعين منهم منذ بداية التاريخ، حيث كانت الكلمة المنطوقة في البدء أول وسيلة استخدمها العقل البشري ليعكس من خلالها صورة الواقع المحيط به وليعبر من خلالها عن حقائق الوجود. في مرحلة لاحقة، فان الانسان، وإذ ازدادت معارفه وخبراته ومهاراته وانصهر أكثر فأكثر داخل مجتمعات متآلفة، اكتشف وسائل جديدة للتعبير عن واقعه وعن هواجسه المعرفية، فمارس فن الرسم وفن النحت، بحيث صار هذان النوعان التجسيديان من الفن وسيلتين أساسيتين عيانيتين لتصوير وعكس الواقع وللتعبير عن الحقيقة على نحو لم يكن متاحا للكلمة بطبيعتها الذهنية التجريدية. بعد أن انتقل الانسان إلى مرحلة جديدة من التطور وارتقى أكثر فأكثر في وعيه للواقع وبالتزامن مع تشكل ورسوخ المجتمعات المدنية طوّر الانسان وسيلة فنية جديدة لعكس الواقع وما وراء الواقع والتعبير عن حقيقة الوجود، وذلك من خلال فن المسرح، الذي يجسد بشكل حي مباشر، بواسطة الممثلين، الواقع والخيال في آن لاغيا الفوارق بينهما. أدى ظهور المسرح بما يتضمنه من حكايات تتصارع فيها الارادات وفق قوانين الدراما الصارمة إلى تشكّل جمهور جمعي يتفاعل مع ما يعرض عليه بعاطفة واحدة، يعايش الأحداث التي تعرض عليه وكأنها احداث تحدث الآن في الواقع ويتأثر بمصائر الشخصيات التي يجسدها الممثلون أمامه ويتفاعل معها إلى درجة التماهي. وهكذا، بفضل المسرح ساد الاعتقاد لفترة طويلة من الزمن بأن الدراما هي الفن الأكثر مصداقية في التعبير عن الواقع وحقائق الوجود بالمقارنة مع الفنون السابقة على المسرح. لكن مسألة الوصول إلى الحقيقة والتعبير عنها وعكس الواقع من خلال الفن على نحو أكثر مصداقية ظلت هاجسا يتجدد عند الانسان مع كل مرحلة تطور جديدة. ومع تطور العلوم والتقنيات في القرن التاسع عشر تم اكتشاف التصوير الفوتوغرافي الذي ينسخ صورة الواقع على نحو مطابق تمام المطابقة، وبطريقة لا يرقى اليها الشك، فاعتبرها الناس الوسيلة الأكثر مصداقية، وحتى موضوعية، لتجسيد الواقع وللتعبير عن حقيقته. لكن هذا الاكتشاف المتطور لم يمنع الانسان من متابعة البحث عن وسيلة أكثر مصداقية، ذلك أن الصورة الفوتوغرافية، وعلى الرغم من مطابقتها الشكلية للصورة التي تعكسها، ظلت تفتقد شيئا أساسيا موجودا في الأصل الواقعي، ألا وهو الحركة، فالصورة الفوتوغرافية صورة ثابتة، في حين أن أصلها في الواقع ذو طبيعة متحركة. في أواخر القرن التاسع عشر، جرت من ثمة، تجارب متعددة من قبل علماء في أوروبا وامريكا تهدف إلى اختراع تقنيات جديدة تجعل الصورة الفوتوغرافية الثابتة تتحرك. وهكذا تم التوصل إلى اختراع ما اطلق عليه آنذاك تسمية “السينماتوغرافيا”، أي الصور المتحركة، التي أعلن عن ولادتها وتم تقديمها للجمهور لأول مرة عبر اول عرض سينمائي عام في العالم أقيم في صالة مقهى في باريس في الثامن والعشرين من شهر/ديسمبر كانون الأول عام 1986. نتيجة لاكتشاف الصور المتحركة ادرك الناس الذين اعتقدوا أن الصورة الفوتوغرافية التي تعكس الواقع بصدق وبموضوعية، ليست تفعل ذلك في الواقع، فاهتزت القناعة بها لصالح القناعة بالصور المتحركة، التي صارت تعتبر الأكثر صدقا في عكس الواقع وتجسيد حقيقته لأنها تقدم الواقع في حركته المادية عبر الزمن. بقيت السينما لفترة ثلاثة عقود من الزمن بعد ولادتها صامتة والأشخاص في الأفلام لا ينطقون ولا تسمع أصوات الطبيعة. ومع ذلك لم تثر هذه المسألة في البداية أية اعتراضات، فالناس الذين انبهروا بالصور المتحركة وأحبوها واستسلموا لسحر حركتها، وثقوا بها وصدقوها. اعتاد الناس على مشاهدة الأفلام الصامتة وعلى رؤية الممثلين يتحركون من دون ضجيج وسط طبيعة وبيئة صامتة ويتخاطبون ويتحاورون فيما بينهم من دون صوت، يرى المشاهدون شفاههم تتحرك ولكنهم لا يسمعونها تنطق. وعلى ما في هذا الأمر من غرابة وعدم واقعية، فانه لم يكن يثير استغراب أحد، لأن الناس كانوا لا يزالون منبهرين بقدرة السينما على عرض الحركة، فلم يبالوا بغياب الصوت ولم يسمحوا لذلك الغياب أن يؤثر سلبا على قناعتهم بواقعية الصور المتحركة التي يشاهدون متجاهلين حقيقة أنهم أمام وهم بالواقع وليس أمام صورة حقيقية له. وهكذا كان الناس يكتفون بصورة واقع ناقصة ويتعاملون معها على أنها كاملة. بعد أن ظهرت السينما الناطقة استفاق الناس من غفلتهم وتبين لهم أنهم كانوا على ضلال في تصديقهم لواقعية السينما وأنهم تعرضوا لخديعة كبرى، لكن ثقتهم بالسينما وبصدقها الواقعي اكتسبت مبررا جديدا لأنهم صاروا يسمعون أصوات الممثلين وأصوات الطبيعة الحية، فازداد بالتالي تأثرهم بالسينما وتعمّق ايمانهم بها وصدقوا بأنها بعد أن كانت تقدم نصف حقيقة صور الواقع صارت تقدمها لهم كاملة، صارت تعرض عليهم العالم الحقيقي كما يعرفونه من خبرتهم الواقعية، أي صوتا وصورة. بعد ذلك انفتحت صفحة جديدة في العقد المتواطئ عليه بين السينما والناس، زادت فيه السينما بموجبها من قدرتها على الايهام بالواقع والحقيقة. غير أن الأمور لم تتوقف عند ذلك الحد اذ استمرت عمليات البحث عن مجالات جديدة وآفاق جديدة لتقنيات السينما. وهكذا وبعد نحو بضع سنوات من انتشار السينما الناطقة تكللت الجهود باكتشاف السينما الملونة، التي كشفت وجها جديدا لعلاقة السينما بصورة الواقع أكثر أمانة واكتمالا، فصحا الناس على حقيقة أن السينما خدعتهم مرتين فيما هي تعرض الواقع عليهم، في المرة الأولى عندما اكتفت بتحريك الصور، وفي المرة الثانية عندما جعلت الصور تنطق، وذلك لأنها كانت تقدم لهم صور الواقع بالأبيض والأسود فقط، بلا ألوان، في حين ان العالم الحقيقي ممتلئ بالألوان. أدى اكتشاف تقنيات السينما الملونة إلى تجديد ثقة الناس بالسينما وتأكيد قناعتهم السابقة بأنهم، هذه المرّة، قد حصلوا على صورة الواقع كاملة، صورا متحركة واصواتا وألوان طبيعية. لكن أهمية السينما ليست في كونها تعرض صورا متحركة ناطقة ملونة وليس هذا فقط ما يمنحها القدرة على الايهام بالواقع والحقيقة، فثمة خاصية أخرى تختص بها السينما، خاصية كانت موجودة إلى حد ما في المسرح، ولكن ليس بذات القدر من التأثير التي هي عليه في السينما، وهي خاصية جعل المشاهدين يشعرون أنهم يتفرجون على الحاضر، فهم يشعرون أن الأحداث تجري امامهم على الشاشة الآن، تستوي في ذلك الأفلام التي تروي قصة معاصرة زمنيا أو تروي قصة تعود وقائعها إلى التاريخ أو تبحر في المستقبل. فالسينما توهم الناس بالزمن الحاضر مثلما هي توهمهم بالواقع سواء بسواء. ظلت السينما تعتز بأنها تتفوق على المسرح في القدرة على الايهام بالواقع وبالحاضر إلى أن ادى التطور التقني إلى اختراع وسيلة جديدة لعكس الواقع تملك نفس قدرات السينما من حيث عرض الحركة والصوت والألوان كما في الواقع الحقيقي، لكنها تتفوق على السينما في قوة الاقناع الواقعي والاحساس بالحاضر. هذه الوسيلة التقنية الجديدة كانت البث التلفزيوني الذي صار يسجل الوقائع الحقيقية التي تحصل “الآن” فعلاً في الواقع وفي بقاع الأرض البعيدة ويعرضها مباشرة في وقت حصولها على الناس داخل بيوتهم ويتابع معهم تطورها ويجعلهم يعيشون الحدث لحظة لحظة. هكذا بدا كما لو أن التلفزيون حل محل السينما واستولى على ما كان امتيازا لها بفضل تقنياته الأكثر حداثة وتطورا وسعة وسرعة انتشار. في مواجهة هذه المنافسة تميزت السينما بقدر كبير من العناد والتحدي للابقاء على مكانتها، واستفادت السينما من الإنجازات التقنية سواء في مجال حساسية الأشرطة التي يتم التصوير عليها والتي تسمح بالتصوير في درجات ضعيفة من الإضاءة، ومن ناحية سهولة تسجيل الصوت المباشر ومرونة الكاميرا السينمائية بما يسمح للصورة السينمائية أن تكون في حركتها أقرب ما يمكن إلى حركة الواقع، كما استفادت السينما الروائية من الناحية الأسلوبية، من السينما التسجيلية لكي تبدو الصورة النهائية للفيلم الروائي أقرب إلى الواقع والحقيقة وأكثر مصداقية، حتى أن التمثيل السينمائي بات أقرب إلى الطبيعة منه إلى التعبيرية والمبالغة في إبداء الانفعالات، بحيث صار يعتبر أن الممثل الجيد هو الذي يؤدي دوره بشكل طبيعي، أي الممثل الذي لا يمثل. ومن ضمن التقنيات الأساسية التي استفادت السينما منها إلى حد كبير، تقنيات الكمبيوتر الرقمي، والتي باتت تسمح للخيال السينمائي بتحقيق ما كان صعباً تحقيقه بوسائل التقنيات السابقة ذات الطبيعة الفيزيائية والكيميائية. غير أن تقنيات الكمبيوتر تسببت في إشكالية خطيرة فيما يتعلق بعلاقة السينما بالواقع. فإذا كان السينمائيون قد استخدموا هذه التقنيات بداية لإضفاء مزيد من الصبغة الواقعية والمصداقية على صور الواقع في أفلامهم، إلا أن الأمر سرعان ما انقلب إلى عكسه، فقد كشف الكمبيوتر عن قدرته على إلغاء الحقيقة والواقع، عن طريق تصنيع واقع جديد افتراضي وخلق صورة واقع لا تمثل انعكاساً للواقع المادي نفسه، بل هي نتيجة لفكرة في عقل مبرمج كمبيوتر، أو فرضية يتم تحقيقها عبر برمجة الكمبيوتر وتعرض على أنها الحقيقة. إن الكمبيوتر هو التقنية الجديدة القادرة على خلق أشكال لا أساس لها في الواقع المادي، وهو يحقق هذه الأشكال بناء على فرضية أو فكرة مسبقة أو تصور وخيال وليس على أساس وتصوير مادة موجودة في الواقع. فمن المعروف أن عدسة الكاميرا السينمائية لا تستطيع أن تصور أي شيء إلا إذا كان موجوداً في الواقع المادي وموضوعاً أمام عدسة الكاميرا، سواء في ذلك أكان ذاك الشيء حقيقياً طبيعياً، أو مادة مصنوعة كنموذج عن الواقع، ديكور منزل مثلاً، مجسم لطائرة، دمية والخ. ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للكمبيوتر، فلا يحتاج مخرج الفيلم إلى أكثر من أن يطرح الفكرة على خبراء برمجة الكمبيوتر، حتى يشرع الخبراء في تجسيدها عبر شكل مرئي مسموع يبدو للناظر إليه كواقع حقيقي، فيما هو ليس أكثر من فرضية فنية ينتج عنه صورة توهم بالواقع من حيث الشكل وتلغي حقيقة الواقع المادي نفسه من حيث المضمون. وفي حين انه لا تزال آفاق التقنيات الرقمية تنذر بفتوحات جديدة لا يمكن تقدير نتائجها المستقبلية منذ الآن فإنه من المفيد إلقاء بعض الضوء على ما جاءت به تقنيات الكمبيوتر الرقمي وما تسببت به من تغييرات في العلاقة ما بين السينما والواقع. الخليج الإماراتية في 27 يوليو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
من الصورة الصامتة إلى التقنيات الرقمية
عدنان مدانات |
|