شعار الموقع (Our Logo)

 

 

من الملاحظ أن الفيلم التاريخي هو الأقل حضوراً من الناحية الانتاجية من بين الأنواع الفيلمية التي نجدها  في السينما الروائية العربية. قيل في تبرير هذا الأمر الكثير من الآراء ومنها انعدام الخبرات العربية في هذا المجال، ومنها أيضا أن الفيلم التاريخي يحتاج إلى إمكانات مادية وتقنية ضخمة جدا و لاتحتملها اقتصاديات السينما العربية. غير أن هذه التبريرات لم تعد مقنعة بفضل ما تحقق في مجال الانتاج التلفزيوني من انتشار واسع للمسلسلات التاريخية ذات الكلفة الانتاجية الضخمة. وقد كان من نتائج تزايد عمليات إنتاج المسلسلات التلفزيونية التاريخية الضخمة أن تجدد الحديث عن تقصير السينما العربية في هذا المجال، وعن الحاجة الى إنتاج أفلام تاريخية عربية . ومن بين الحجج الأساسية التي تطرح لتبرير المطالبة بإنتاج أفلام سينمائية عربية تاريخية روائية، الحاجة لأن تقوم السينما بتعريف الأجيال الجديدة بتاريخنا وبتراثنا الذي كثيرا ما يتعرض للتشويه من خلال الأفلام السينمائية العالمية، والأمريكية خاصة. فالمطلوب من الفيلم التاريخي العربي إذاً، أن يرد على هذا التشويه وأن يصحح ويثبت الحقائق المتعلقة بالتاريخ العربي.

والسؤال هنا هو: هل حقا تستطيع السينما الروائية عامة، أن تكون وثيقة وفية للتاريخ او أن تعكس حقائقه بصدق؟

غالبا ما تلجأ السينما الروائية إلى التاريخ المدون لتصنع من وقائعه أفلاما، سواء أكان هذا التدوين على شكل كتابة محض تأريخية، أي تنتمي إلى علم التاريخ، أو على شكل عمل أدبي يدعي الرجوع الى المصادر التاريخية. لكن التاريخ المدون، مهما كان شكله، لم يكن في يوم من الأيام “وثيقة” موضوعية نائية عن الغرض الذاتي لكاتبه المؤرخ، ولم يكن كذلك يوما محيطا إحاطة كافية بكل جوانب الوقائع التي يسردها، بحيث يمكن الركون إليه لتكوين صورة متكاملة عن الحقبة أو الأحداث المشار إليها. من ناحية ثانية، لم ينفصل تدوين التاريخ يوما عن خيال الراوي المدون لمجرياته وسير شخصياته، خاصة في العصور القديمة التى كان المؤرخون فيها يعتمدون على الوقائع المتداولة شفهيا عن طريق متواليات سردية ينقلها جيل رواة لاحق عن جيل سابق، وتتجمع عند المؤرخ وتخرج من لدنه على شكل سرد روائي يلعب فيه الخيال الأدبي دورا أساسيا.  ينطبق هذا الأمر حتى على العصور الحديثة التي لم تعد فيها كتابة التاريخ تعتمد فقط على الرواة من شهود العيان، بل صارت  تدعم روايتها بالاستناد إلى المصادر والوثائق الرسمية.

لكن، إذا كانت كتابة التاريخ بقصد التوثيق لأحداث الماضي قد اختلطت على مدى العصور الماضية، إلا فيما ندر، بالخيال الأدبي، وإذا كان هذا يعتبر من وجهة نظر العلم نقيصة وواحدة من السلبيات المرتبطة برواية التاريخ وتدوينه كمرجع موثوق، فإن هذه النقيصة، أو هذه السلبيات، هي التي جعلت التاريخ يصبح مادة قابلة للتحويل إلى سينما.

فقد كانت هذه سلبيات من وجهة النظر العلمية، وإيجابيات من وجهة النظر السينمائية، لأنه من دونها، أي من دون العنصر الأدبي والخيال، يتحول التاريخ داخل الفيلم إلى مادة جافة، مجرد تقرير خال من الاثارة الدرامية  ومن العواطف والمشاعر التي تعتمد عليها السينما للتأثير على جماهيرها.

في المقابل، مثلما تطمح المؤلفات التاريخية المعاصرة لأن تكون مقنعة فتلجأ من أجل ذلك إلى الاعتماد اكثر فأكثر على “الوثائق” والتخفيف ما أمكن ذلك من تدخل العنصر الذاتي والسرد الأدبي والمخيلة، تطمح بعض الأفلام التي تحكي عن شخصيات وحوادث التاريخ المعاصر  بشكل عام إلى ان تكون مقنعة، وليس مؤثرة فقط، فتلجأ بدورها ليس فقط إلى الوثائق التي تؤكد المعلومات حول الوقائع التي يحكي عنها الفيلم وزمانها ومكانها، بل تجعل من هذه الوثائق مادتها الأساسية، وتعرض الوقائع وتنظمها في بنية سردية وفق تسلسل زمني مطابق لتسلسل زمن حدوثها في الواقع، فيصبح العنصر الأدبي بالنتيجة، والذي لا يمكن الاستغناء عنه، رغم كل شيء، في السينما الروائية، في المقام الثاني من الأهمية بعد الوثيقة، لأن هدف مثل هذا النوع من الأفلام، والتي يقوم منهجها على المزج بين الصيغة الروائية والصيغة التسجيلية، هو الوصول إلى المصداقية في تقديم وقائع التاريخ القريب العهد وإقناع المشاهدين والتأثير عليهم بقوة الحقيقة المقدمة لهم، وذلك ليس فقط من خلال عنصري الحكاية والدراما، بل من خلال الوثائق، سواء منها الوثائق المصورة سينمائيا في الأصل زمن حصولها والتي يعاد استخدامها ضمن بنية الفيلم، أو الوثائق المعاد نسخها وفق الأصل وتسجيلها وبناؤها روائيا.

يحفل تاريخ السينما العالمية بالعديد من النماذج الفيلمية على هذا المنهج الروائي التوثيقي في تقديم وقائع التاريخ. وهي تجارب بدأت مع جورج ميليه في السنوات الأولى من بداية السينما عندما أخرج فيلمه “قضية دريفوس” (1899)، والذي أعاد فيه تمثيل وقائع محاكمة الضابط دريفوس التي شغلت الرأي العام في فرنسا آنذاك، وتطورت في العام 1916  بفضل المخرج دافيد يورك غريفت وفيلمه “التعصب” الذي تضمن في أحد فصوله مشاهد لاغتيال الرئيس الأمريكي معاد تمثيلها عن واقعة حقيقية.

أما في السينما العربية، التي لم تخل من التجارب، وإن كانت قليلة العدد، والتي قاربت وقائع التاريخ الخاص بزمن القرن العشرين، مثل الفيلم السوري “كفر قاسم” أو الفيلم الجزائري “وقائع سنوات الجمر” أو الفيلم الليبي “عمر المختار” وغيرها من الأفلام العربية التي حاولت مقاربة التاريخ الحديث بمنهج تسجيلي، فإن النموذج الأكثر تكاملا أو التزاما بهذه الطريقة المرتبطة بهذا النوع من السينما الروائية التي تعتمد المنهج التاريخي التسجيلي، هو الفيلم الروائي المصري المعنون “ناصر 56” الذي يتتبع الوقائع الرئيسية المتتالية المرتبطة بتأميم قناة السويس.

يقودنا هذا المنهج التسجيلي الروائي المتعلق بسرد وقائع التاريخ المعاصر اعتمادا على إعادة بناء الوثائق، الى التساؤل حول مدى مصداقية هذا النوع من السينما ومدى قدرته على أن يكون موضوعيا حقا.

من الجلي لكل مراقب أن التأريخ ليس محصنا ضد الخطأ أو ضد التزوير حتى، بما في ذلك التزوير المتعلق ب “الوثائق” التاريخية. ولا تكمن القضية في التزوير فقط، بل تشمل التاريخ المدون على أساس معارف كانت تبدو صحيحة في مرحلة حضارية محددة، ثم ثبت عدم صحتها في مرحلة لاحقة ازدادت فيها المعارف الإنسانية علما، فقد ثبت مع تطور الزمن أن كثيرا من المعارف التي اعتبرت في وقت ما حقائق علمية ثابتة، تم نقضها بعد حين بفضل اكتشافات معرفية جديدة. ولم يقتصر هذا النقض على المعارف العلمية، بل حدث أيضا في مجال علم التاريخ، الذي صار يعاد باستمرار تصحيح ما جاء فيه من معلومات اعتبرت من الحقائق، نتيجة الاكتشافات المتحققة بفضل الحفريات الأثرية المتواصلة التي يقوم بها علماء الآثار ومحققو المخطوطات، وبفضل العثور على وثائق لم تكن معروفة من قبل، او الكشف عن وثائق ظلت سرية لعقود من الزمن ثم أفرج عنها بعد ذلك.

وما ينطبق على التاريخ ينطبق أيضا على السينما الروائية التي تحاول ان تنسخ التاريخ او تعيد إنتاجه وفق الأصل المتداول، وذلك على الرغم من ان السينما تملك أفضل الامكانيات الفنية والتقنية، بالمقارنة مع غيرها من الفنون، التي تساعدها على إعادة إنتاج الوثيقة التاريخية والتاريخ بشكل عام، بصريا وسمعيا.

الخليج الإماراتية في 26 يوليو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

ضوء ...

جمالية السينما وعقلانية الوثيقة نقيضان

عدنان مدانات