شعار الموقع (Our Logo)

 

 

            نحن في بداية السبعينات من القرن الماضي. أفكار وأحلام ثورة 68 الطلابيّة التي هزّت البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة على حدّ سواء كانت لا تزال حيّة في رؤوس الشباب كما في قلوبهم. في ذلك الوقت عاد إلى تونس أربعة شبان تونسيون كانوا درسوا المسرح في فرنسا، واطّلعوا على التجارب المسرحية الرائدة والطليعية في باريس وميلانو وروما ولندن وبرلين وغيرها من كبريات المدن الأروربية. ثلاثة منهم من مواليد العاصمة وهم: محمد ادريس وفاضل الجعايبي وفاضل الجزيري. أمّا الرابع وهو الحبيب المسروقي فمن مواليد مدينة القيروان.

كان حلم الشبان الأربعة تأسيس مسرح تونسي طلائعي يتغذّى من المسرح الطليعي في الغرب، ويقطع مع المسرح التقليدي والشعبوي. وكانوا يعلمون جيّدا أن هناك عراقيل كثيرة سوف تعترض طريقهم، غيّر أنهم كانوا مصمّمين على تحقيق الحلم الذي طالما راودهم، خلال سنوات الدراسة في فرنسا. ولأنه كان من الصّعب عليهم لفت الأنظار إليهم في تونس العاصمة بسبب الحضور القوي للمخرج والفنان الكبير علي بن عياد الذي لن يلبث أن يرحل عن الدنيا بسبب سكتة دماغية، فإنهم انطلقوا إلى مدينة الكاف على الحدود الجزائرية ليشاركوا المخرج الشاب منصف السويسي مغامرة سوف تفضي إلى بروز مسرح تونسي طلائعي بالمعنى الحقيقي للكلمة.

            وفي تلك المدينة الجبلية، أي الكاف، خاض الشبان الربعة مغامرتهم الأولى ومنها تعلموا الكثير. بعدها انتقلوا إلى مدينة قفصة (الجنوب التونسي) ليساعدوا المخرج رجاء فرحات، على تأسيس فرقة مسرحية هناك، ولينجزوا معه مسرحيات رائدة أحرزت على شهرة واسعة في جميع مناطق البلاد. وفي العاصمة بالخصوص، وقوّضت دعائم المسرح التقليدي و الشعبوي التي كانت لا تزال سائدة حتى ذلك الوقت. ومن بين تلك المسرحيات، يمكن أن نذكر:"جحا والشرق الحائر" و"البرني والعطراء"، و الجازية الهلالية" ومسرحية أخرى مستوحاة من حياة محمد على الحامي، مؤسس النقابات التونسية. وقد صفّق الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة طويلا للمسرحية المذكورة، قائلا لجمع من وزرائه، بعد أن تفرج  عليها في القصر الرئاسي بقرطاج:" هذا هو المسرح الذي أريد" في أواسط السبعينات، عاد الشبان الربعة إلى تونس العاصمة ليؤسسوا ما أصبح يسمى منذ ذلك الحين بـ "المسرح الجديد". ومن ضمن الأعمال المهمة التي أنجزها في تلك الفترة مسرحية "العرس" المستوحى موضوعها من إحدى مسرحيات الكاتب والشاعر الألماني الشهير برتولد برشت والتي حوّلوها في ما بعد إلى فيلم أحرز على إعجاب عشاق الفن السابع. غير أن "غسالة النوادر" (وهو الاسم الذي يطلقه الفلاحون التونسيون على أمطار الخريف الأولى)، التي أنجرها الشبان الأربعة مطلع الثمانينات، كانت المسرحية الأفضل والأكثر اكتمالا على مستوى النص والبناء الدرامي والتمثيل والاخراج... وكان "المسرح الجديد" في قمة الشهرة التي تحققت له عقب "غسالة النوادر" لما انتحر واحد منهم وهو الحبيب المسروقي الذي كان يتمتع بقدرة كبيرة في مجال الاضاءة والاخراج...

            مطلع التسعينات، فضل كل واحد من محمد ادريس والفاضل الجزيري وفاضل الجعايبي أن يسلك طريقا خاصا به. ففي حين تولّى الأول ادارة "المسرح الوطني" وانجذب الثاني إلى انجاز عروض هي مزيج من الموسيقى والمسرح، أسّس الثالث، وهو فاضل الجعايبي مع رفيقه مسيرته، أعني بذلك الممثلة القديرة جليلة بكار، فرقة مسرحية جديدة سماها:" فاميليا"، وهو نفس عنوان واحدة من أنجح وأروع المسرحيات التي أنجزاها في البداية. وفي ظرف زمني قصير فرضت الفرقة الجديدة نفسها تونسيّا وعربيّا بل وعالميا من خلال أعمال مسرحية، أبرزها العمل الأخير الذي حمل عنوان:"جنون" الذي عرض في العديد من البلدان العربية، وأيضا في العديد من العواصم والمدن الأوروبية مثل باريس، وأفينيون، وبرلين، وأيضا في العاصمة الأرجنتية بيونس ايراس حيث لاقت نجاحا منقطع النظير خلال تلك الأيام الكالحة التي كان فيها الأرجنتينيون يواجهون كارثة انهيار اقتصادهم...
وخلال الأشهر الأولى من العام الحالي، انعكف فاضل الجعايبي بمساعدة جليلة بكار، على تحويل: "جنون" إلى فيلم تلفزي بمباركة وتأييد مادّي ومعنويّ من المدير العام لللإذاعة والتلفزة التونسية الأستاذ مصطفى الخّماري.

            تروي مسرحية "جنون" التي انجزت من خلال نصّ لناجية الزمني قصة شاب يدعى "نون" يعاني من اضطربات نفسية حادة. وهو ينتسب إلى عائلة جدّ فقيرة، تقيم في إحدى الأحياء البائسة التي تحيط بتونس العاصمة. ومن خلاله نحن نلمس جراح وعذابات شريحة اجتماعية تعاني من الفقر، ومن  اضطربات اجتماعية ونفسية عنيفة. وقد قام بدور الشاب "نون" الممثل الموهوب محمد علي بن جمعة. أما "الممثلة الكبيرة جليلة بكار فقد جسّدت دور الطبيبة النفسانية التي تشرف على علاجه.

            اختار فاضل الجعايبي تصوير الفيلم التلفزي "جنون" في إحدى ستديوهات المبنى الجديد للاذاعة والتلفزة التونسية ومساحته 900 متر مربع. وهو يقول:" لقد كان علينا أن نغيّر التقنيات إذ أن المسرح يختلف عن السينما. كما كان علينا أن نعيد كتابة السيناريو حتى ستجيب للمقاييس لكن حرصنا على الاعتماد دائما على النص الأصلي، أعني بذلك نص ناجية الزمني. إن الدمعة والابتسامة والصمت والهذيان وكل هذا يأخذ ايقاعا آخر في التصوير التلفزي. إيقاعا مختلف عن المسرح. مثلا نحن لم نعد بحاجة إلى الايحاء بل سعينا بالوسائل السمعية والبصرية المتاحة إلى أن نقترب من الشخصية في أداء الجديد والمتغير أمام الكاميرا". ويضيف فاضل الجعايبي قائلا: "أن هدفنا من تحويل مسرحية "جنون" إلى فيلم تلفزي هو توسيع دائرة الجمهور. والواقع يقول لنا أن هناك عددا كبيرا من الطلبة والمثقفين مقصيين أو شبه مقصيين عن التلفزيون. ورغبتنا أن نصل إليهم. ألم تشدّ "غسالة النوادر" جمهورا هائلا من عشاق التلفزيون لما حوّلناها إلى فيلم تلفزيوني مطلع الثمانينات. لقد حفظها البعض عن ظهر قلب، وتاجر بها البعض الآخر، مع ذلك لم نتنازل أبدا عن خطابنا الجمالي والفني لأننا منذ 30 عاما ونحن ندق المسمار نفسه دون تراجع أو كلل". وانتقد فاضل الجعايبي بشدة المسلسلات التلفزيونية التي تحيل إلى أمجاد الماضي، وإلى التاريخ العربي القديم، وأيضا تلك التي تحيلنا إلى أحداث تاريخية عاشتها تونس خلال مرحلة ما بعد الاستقلال. وقال في هذا الصدد:" نحن نسعى من خلال الأعمال التي تقدمها لجمهورنا التونسي إلى أن نعكس الواقع بكل ما فيه من جراح وآلام وأزمات وانفجرات اجتماعية وعندما نكون بصدد إنجاز عملنا لا نفكر في الرقيب مهما كانت صفة هذا الرقيب أو سلطته".

موقع "إيلاف" في  5 مايو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

التونسي الفاضل الجعايبي يحوّل مسرحية "جنون" إلى فيلم تلفزيوني

حسونة المصباحي