شعار الموقع (Our Logo)

 

 

كان في الثالثة والعشرين من عمره حينما بدأ يرتاد استوديوات لندن السينمائية... وكان ذلك في العام 1922... وهو كان محظوظاً منذ ذلك العام الأول, اذ حدث ان اصيب المخرج الذي كان يفترض به أن يحقق فيلم "اخبر زوجتك دائماً" بمرض شديد, فما كان أمام المنتجين إلا أن يسندوا الى الشاب الفضولي اخراج الفيلم. وهو رأى في ذلك يومها, تعويضاً, على فيلم كان باشر تحقيقه قبل ذلك في العام نفسه ولم يكتمل وعنوانه "الرقم 13". على أي حال اضطر الشاب, واسمه الفريد هيتشكوك, الى انتظار ثلاث سنوات أخرى قبل أن يحقق فيلماً حقيقياً من اخراجه, وهو فيلم "حديقة اللذة" الذي رأى النور في العام 1925. وبين الفيلمين خاض مهناً سينمائية عدة, كمساعد مخرج, وكاتب عناوين, وكاتب سيناريو. ولكن منذ "حديقة اللذة" لم يعد في إمكان شيء أن يوقفه, إذ به بدأ رحلته الطويلة كسيد من سادة الفن السينمائي, تضارع شهرته وشعبيته في هذا الفن, شهرة شابلن وبيكاسو. وهو لئن كانت بداياته صامتة ولندنية, فإنه منذ العام 1940 سينتقل الى هوليوود ليصبح بالتدريج واحداً من معالمها. وإذا كانت أفلام هيتشكوك الأميركية التي حققت على مدى نحو أربعة عقود (بين "ربيكا" في العام 1940, و"مؤامرة عائلية" فيلمه الأخير في العام 1975), قد اشتهرت وكرسته, فإن أفلامه الانكليزية تبدو دائماً أقل شهرة, حتى وإن كان البعض يرى فيها أبعاداً فنية أكبر ولمحات تأسيسية. ونعرف طبعاً أن هيتشكوك حقق في بريطانيا, نحو نصف أفلامه. ومن بين هذه الأفلام فيلمه الأشهر, في تلك المرحلة "الدرجات التسع والثلاثون", الذي كان ويبقى علامة على سينما التجسس وإشارة الى انخراط هيتشكوك في "النضال" ضد النازية الهتلرية في وقت مبكر.

حقق ألفريد هيتشكوك "الدرجات التسع والثلاثون" في العام 1935, أي في وقت كان فيه نجاح فيلمه السابق عليه "الرجل الذي يعرف أكثر من اللازم" (1934) قد حقق له مكانة كبيرة وجدد ثقة المنتجين به ما جعله قادراً, مذاك وصاعداً على اختيار أفلامه بنفسه. ولم يكن صدفة أن يجعل من فيلمه الجديد فيلماً عن الجواسيس, إذ كانت الجاسوسية موضوع الفيلم السابق, وستبقى موضوع أفلام عدة تالية له, طالما ان المعركة كانت قد بدأت, في أوروبا, بين النازية والديموقراطية, وما كان لمبدع من طراز هيتشكوك إلا أن يعتبر نفسه معنياً بها. ومن هنا إذا كان يمكن القول عن "الدرجات التسع والثلاثون" انه فيلم جاسوسية, فإنه في الوقت نفسه فيلم سياسي أيضاً... أو على الأقل كانت اختيارات هيتشكوك فيه اختيارات سياسية.

موضوع الفيلم بسيط ومعقد في الوقت نفسه, أو لنقل ان بساطة لغته السينمائية أتت لتعوض على تعقّد الرواية الأصلية التي اقتبس منها الفيلم, وكانت من تأليف جون بوتشان. ويحكي الفيلم باختصار حكاية ريتشارد هانّيْ, الكندي المقيم في لندن, والذي إذ يكون خارجاً من صالة مسرح ذات ليلة, تقترب منه سيدة غامضة لتطلب منه حمايتها قائلة له انها تهرب من منظمة سرية تطاردها مشيرة الى أن هذه المنظمة تحمل اسم "الدرجات التسع والثلاثون". من دون تردد يذكر, يقدم هانّي حمايته للمرأة آخذاً إياها الى منزله حيث يؤويها. لكن الذي يحدث في بيت الشاب هو ان السيدة تُقتَل في شكل غامض, ويعثر هو على جثتها في صالون بيته. ومهما يكن من الأمر فإن السيدة تفضي لهانّي وهي على النفس الأخير باسم مكان غامض في اسكتلندا مما يجعله يفهم, بالطبع, ان لهذا المكان علاقة بالجريمة وبالمنظمة التي يبدو واضحاً انها وراء الجريمة. بطبيعة الحال يُتهم الشاب بأنه هو قاتل المرأة, لكنه يتمكن من الهرب وقد آلى على نفسه أن يكتشف ما الذي حدث, وقد أدرك ان عليه في سبيل ذلك ان يتوجه الى المكان الاسكتلندي الذي ذكرته الضحية. ووسط مطاردة رجال سكوتلنديارد له, يتوجه هانّي الى اسكتلندا, حيث يلتقي برجل مثير للريبة هو الدكتور جوردان. وإذ يدرك صاحبنا ان جوردان هذا انما هو زعيم المنظمة من دون ريب, يجد نفسه مطارداً وفي الوقت نفسه من رجال الشرطة ومن رجال العصابة. والأدهى من هذا, انه خلال مساره وإذ يكون في عربة قطار تشاء الظروف ان يرتبط بفتاة غامضة هي الأخرى تدعى باميلا, والارتباط يكون حقيقياً من طريق كلبشات, تربط رسغها برسغه بمحض الصدفة. وهكذا يتوحد مصير الشاب والفتاة, ويكون عليهما ان يمضيا بقية الوقت معاً, مطاردَين معاً, معرضين للخطر معاً. والحال ان هذا الارتباط سيكون من حظ بطلنا - وهو أمر سيتكرر لاحقاً في معظم افلام ألفريد هيتشكوك, حيث يجد الرجل خلاصه من طريق ارتباطه, الحقيقي أو المعنوي, بامرأة يحبها أو سيحبها في أثناء ذلك -, حيث ان رفقة الفتاة القسرية له ستسهل عليه بحثه, وخاصة حينما يصل الاثنان الى لندن, والى صالة المسرح الاستعراضي الذي بدأ فيه الفيلم, بالتحديد. إذ في ذلك المسرح كان يتعين أن تنتقل المعلومات والأسرار والتعليمات الى تلك المنظمة التي كنا في تلك الأثناء قد أدركنا انها منظمة تجسس نازية تعمل لحساب هتلر وجماعته. وفي المسرح يكون كشف السر وافتضاح امر الشبكة وتفكيكها والقبض عليها من طريق فنان مرتبط بالجواسيس, كان ينبغي أن يُطرح عليه سؤال علني, سيضطر الى الاجابة عليه علناً بدوره, تبعاً لقواعد اللعبة... وكان يتعين أن يكون لذلك الفنان ذاكرة تخبئ كل الأسرار المطلوب الكشف عنها, وبالتحديد أسرار الدولة التي يجب أن تبلغ الى رجال المنظمة النازية. وهكذا, داخل المسرح في الوقت الذي يفتح فيه الفنان فمه ليجيب تكون نهايته, إذ يقتل, وتكون نهاية الجواسيس بدورهم إذ يقبض عليهم, لينتهي الفيلم بالجمع بين البطل والبطلة, لا من طريق "الكلبشات" هذه المرة, بل من طريق اجتماع قلبيهما.

من الواضح ان ما فتن هيتشكوك في هذه الرواية ليحولها فيلماً, انما هو النظرة الى المرأة كطريق للخلاص - وهو أمر آمن به دائماً - ولكن أيضاً ذلك الجانب السياسي الذي يجعل من النازيين قوى الظلام والشر, فيما يقدم الديموقراطيين بصفتهم قوى النور والخير. لقد اختار هيتشكوك ان يركز منذ البداية على تلك المجابهة التي ستقود خيط الفيلم, بين منظمة التجسس وبراءة البطل (والبطل غالباً ما يكون بريئاً آتياً من خارج اللعبة في سينما هيتشكوك) واللافت هنا أن هيتشكوك اعتمد منذ ذلك الوقت المبكر على اسلوب لن يتخلى عنه ابداً لاحقاً: نحن الجمهور, نعرف تقريباً كل شيء منذ البداية, ويمكننا ان نتصور كيف ستكون النهاية. أما عنصر التشويق فيأتي من داخلنا: هل صحيح ما نراه؟ هل سيحدث ما نتوقعه وما هو منطقي في الوقت نفسه؟

حين حقق ألفريد هيتشكوك (1899 - 1980) هذا الفيلم الشيق والطريف, كان في السادسة والثلاثين من عمره. ولعل الجزء الأكبر من قيمة الفيلم يعود الى واقع انه, على بساطة لغته السينمائية وخطية المطاردة فيه, يحتوي معظم عناصر السينما الهيتشكوكية, تلك العناصر التي ستطالعنا في الكثير من أفلام المعلم التالية: من "العميل السري" الى "ظل الشك" ومن "المراسل الأجنبي" الى "اني اعترف" و"خابر م. للجريمة" و"النافذة الخلفية" وصولاً الى "الرجل الخطأ" و"فريتغو" و"بسايكو" و"العصافير" وغيرها من أفلام صنعت مجد صاحبها, وصنعت أيضاً جانباً كبيراً من سحر الفن السينمائي وجديته... المشوقة والمسلية في آن معاً.

جريدة الحياة في  30 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"الدرجات التسع والثلاثون" لـ"هيتشكوك"

الراءة ضد النازية

إبراهيم العريس