في أغلب الحالات يفقد المخرج السينمائي حوالي 50% من طاقته قبل أن يبدأ تصوير أول لقطة في الفيلم. تليها 25% أخري تستنزف أثناء التصوير ومراحل الفيلم اللاحقة. هذه الطاقة تستهلك في أي شيء وكل شيء عدا الإبداع. فقدرة الإقناع للأسف الشديد هي العنصر المطلوب في الإخراج أما الإبداع فليكن إذا سمحت ظروف الـ 25% المتبقية من طاقته. فطاقة المخرج تتلاشي تدريجيا بدءا من إقناع صاحب الفكرة أو القصة أو الرواية (حتي لو كان هو صاحبها) بأنه أنسب المخرجين لتقديمها علي الشاشة ثم إقناع كاتب السيناريو بأهمية التفاصيل الصغيرة، ثم إقناع الرقيب بدلالة جملة الحوار أو المشاهد المطالب بحذفها، ثم إقناع المنتج أو مستشاريه بجماهيرية الموضوع. ثم إقناع الممثلين من أكبرهم إلي أصغرهم بصالحية كل منهم للدور المعروض عليه، وبشعبية النجم أو النجمة التي ستتضاعف بعد عرض الفيلم. مع بداية التصوير يتفرغ المخرج إلي إقناع مدير التصوير بالتخلي عن بعض الجماليات والتركيز علي روح الدراما المطروحة، ثم يأتي إقناع المخرج لبقية طقم العاملين بأنه متعاطف كليا مع كل مشاكلهم أو شكواهم التي ربما تنشأ أثناء العمل سواء الخاصة بالوجبات الغذائية أو بمطالبهم المادية، ثم إقناع صاحب الشقة أو الفيللا أو المكتب أو المصنع أو العيادة أو المستشفي أو حتي النافذة أو الشرفة بالأسباب التي من أجلها اختار الموقع للتصوير فيه أو منه، وأهميته الدرامية ونواياه الطيبة في تقديمه في أحسن صورة ممكنة وأن الأحداث التي ستدور فيه لا تسيء إلي المكان، ثم بعد كل هذا الإقناع يتم إقناع المونتير بالإيقاع المناسب للفيلم وملحن الموسيقي التصويرية بأن تكون موسيقاه خلفية مساعدة ومناسبة، وفي موقع محدد وألا تنفرد لتتجلي علي حساب بقية الأحداث.. ثم أخيرا إقناع المخرج لنفسه بأهمية الفيلم في حياته ووضعه في تاريخه الفني وحتمية نجاحه. الوحيد الذي في مقدرته أن يخفف من تلك الأعباء ويمهد للمخرج مساحة أوسع للإبداع هو المنتج الفني الحقيقي وهو عملة نادرة في السينما حاليا. فالمنتج المتواجد إما صاحب رأس المال (الممول) أو جامع المال (القومسيونجي) أو المشرف علي المال (الصراف) أو من يجمع صفتين أو ثلاث من الصفات المطروحة (المنفذ). فالمنتج الفني الحقيقي هو من يحلم بموضوع ويعشقه ويبحث عن المخرج الذي يشاركه عشقه ويعمل الاثنان من أجل تحقيق حلمهما بأن يزيل الأول جميع العقبات والمشاكل التي تقف أمام إبداع الثاني. علاقة مثالية تحققت في الماضي وفي مناخ فني صاف لا تعوقه شوائب اليوم. كأن كل هذا العناء لا يكفي، فالمخرج يواجه في النهاية الرقيب الذاتي الذي ولد داخله منذ أن قرر ممارسة فنه تحت سحابة العادات والتقاليد والأخلاق والسياسة الداخلية والخارجية والاقتصاد والرأي العام والأمن العام ونقابة كل مهنة علي هذه الأرض إلي جانب مراعاة الدين والجنس والعنف وما يخطر بالبال سواء عن قريب أو بعيد. فالواقع هو إذا لبينا كل المحاذير ومتطلبات هذه الأقسام فلن يكون هناك وجود للدراما عامة التي من المفترض أن تمثل الحياة بكل تناقضاتها. لهذا يسير المخرج علي حبل رفيع محافظا علي توازنه بعصاة الإبداع، كلما همَّ أن يبدع خاف أن يقع من علي الحبل فأصبحت إبداعاته تهيمن عليها صفة التردد والخوف. في فيلمي «أحلام هند وكاميليا» 1988، اختتمه بمشهد شاطئ البحر حيث تجد «هند» عايدة رياض، و«كاميليا» نجلاء فتحي، تلهثان بحثا عن طفليتهما «أحلام» بعد أن ظنتا أنها قد خطفت أو ضاعت. أثناء تحضيري لهذا المشهد علي مكتبي الليلة السابقة لتصويره، انتابتني لحظة إبداع خاصة جدا، فقد تخيلت الطفلة بمفردها علي الشاطئ تلتقط من علي الرمال لمبة كهربائية تالفة وحين تنتبه لنداء هند وكاميليا وهما مقبلتين نحوها ترفع اليد التي تحمل اللمبة لتلوح لهم، وإذ بشعاع شمس الغروب يجعل اللمبة تبدوا وكأنها شعلة تحملها الطفلة.. لحظة شعرت أنها ستعكس إحساس المزيج بين الحلم والواقع الذي يعيشونه أبطال فيلمي. في اليوم التالي وأنا في طريقي إلي موقع التصوير وبعد أن سردت لمدير التصوير محسن نصر تصوري للمشهد، تسلل بعض من التردد والخوف داخلي، هل سيبدوا المشهد مصطنعا أو سيثير الجدل بتفسيرات لا أقصدها وهل اللمبة في يد الطفلة التي ستبدو كشعلة ستعتبر رمزا لتمثال الحرية، وبالتالي تطرح مفاهيم سياسية لا تمت بأي صلة لصلب المشهد.. في النهاية قررت التخلي عن الفكرة تماما والاكتفاء بعثور هند وكاميليا علي «أحلام» ومواجهتهما للبحر. بعد أن انتهيت من تصوير المشهد إذ بمدير التصوير يلوح لي من مسافة كي الحق به ليفاجأني ويعاتبني بعثوره علي لمبة كهربائية تالفة وجدها ملقاة علي الرمال. وقد كانت لحظة غريبة حين تحول خيالي إلي واقع، ومشاعري إلي ندم.. وكانت الشمس قد غربت وكل شيء قد انتهي. جريدة القاهرة في 27 أبريل 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
مخرج على الطريق محمد خان يكتب: عذاب مخرج السينما |
|