يا لها من مفاجأة جميلة.. لم نتوقعها مع أن انتظارنا طال طويلا لرؤيتها، فيلم كوميدي إنجليزي يأتينا ضمن هذا السيل الذي لا ينتهي من الأفلام الأمريكية التي يدور معظمها عن الرعب والقتل المجنون والمخلوقات الغريبة التي خرجت من عقالها، أو الكوميديات التي تتلاعب بمفهوم الجنس بسطحية تصل أحيانا إلي حد الغباء.. وتجعلنا نتحسر أكثر من أي وقت مضي علي زمن الكوميديا الأمريكية الذهبي، حيث كان يتنافس فيها مخرجون عظام كأرنست لويتش وبيلي وايلدر وجورج كيكور وخراتك كابرا وسواهم.. علي تقديم مواضيع مدهشة مبتكرة.. تضحكنا من الأعماق وتثير في نفوسنا أسئلة «جادة» لا ينتهي مفعولها.. بغياب الأطياف عن الشاشة. الكوميديا في إنجلترا.. سارت منذ نهايات الحرب الثانية.. وعودة الروح إلي الاستوديوهات البريطانية علي أسلوب خاص بها.. يمكنه أن يواجه سيل الكوميديات الأمريكية المدهشة ورجالها العظام، وقد أدركت السينما الإنجليزية الضاحكة أنها إذا أرادت أن تقف علي قدميها أمام هذا البركان الهادر الآتي من وراء البحار.. فعليها أن تقدم للكوميديا الخاصة بها إطارا جديدا.. وأسلوبا جديدا.. ولغة مختلفة.. يمكنها أن تسحر قلب المتفرج وعقله.. وتدفعه رغما عنه إلي الوصول إلي (منطقة السعادة الحلوة) التي تبعثها الكوميديا الحقة في النفوس. وهكذا جاء العصر الذهبي للكوميديا الإنجليزية في الخمسينيات وحتي منتصف الستينيات والتي قدمت فيها السينما الإنجليزية روائع لا تنسي كـ«بيلي الكذاب ـ قاتل النساء ـ قلوب طيبة ـ أبواق» وسواها الكثير.. وممثلين عظاما شقوا طريقهم من لندن الغارقة بالضباب إلي ساموات وشموس العالم كله، كـ«بيتر سيلرز ـ اليك جينس ـ مرجريت رودفورد ـ ديفيد نيفن» وسواهم. ولكن سطوة السينما الأمريكية والأزمات الاقتصادية المتكررة والحصار الهوليوودي واستقطاب سادة السينما الإنجليز من ممثلين ومخرجين إلي أمريكا للعمل في سينماها.. قد أوقف هذه الموجة الحلوة والذكية التي أضاءت قلوبنا وعقولنا ورسمت البسمة الحقيقية علي شفاهنا.. وجعلتنا مرة أخري نعود إلي السيطرة الأمريكية التي لا نعرفها وإلي المزاح الضاحك الأمريكي.. الذي قد لا تستسيغه نفوسنا كل الوقت. وها هو فيلم إنجليزي جديد.. يتسلل فجأة بين ركام الأفلام الأمريكية المتناثرة. فيعيدنا بضربة واحدة إلي كل ما أحببناه في كوميديات إنجلترا في الخمسينيات والستينيات، سواء في اختيار الموضوع أو معالجته.. أو حواره.. أو في حبكة السيناريو وتجددها وإثارتها وتشويقها.. أو في الخلفية السياسية والاجتماعية والعاطفية والجنسية التي عرف الفيلم كيف يوزعها بمهارة وعدل من خلال ست أو سبع قصص عرف أيضا كيف يضفرها في نسيج واحد متماسك. ومن خلال مجموعة رائعة من النجوم، بينها نجوم كبار أثبتوا مقدرتهم سابقا وحازوا علي جوائز كبري في أكثر من مهرجان كـ«إيما تومسون ـ وليام نيسون ـ كولين فيرت»، وبالأخص نجم نجوم بريطانيا هيوج جرانت إلي جانب الممثل الكوميدي الشهير روان انكسون الذي يلعب دورا شرفيا.. من خلال بائع ثرثار و«لزقة» بشكل لا ينسي. إلي جانب هؤلاء النجوم الكبار تتألق مجموعة أخري من شباب النجوم.. لا شك أن مسيرتها ستكون شديدة الإضاءة وشديدة الوضوح للموهبة العفوية المؤثرة التي أدوا بها أدوارهم. هذه المجموعة المتعددة من النجوم.. كانت تحتاج إلي سيناريو «عبقري» كي يجمعها معا بالعدل والقسطاس ويعطي كل ذي حق حقه.. ودون زيادة أو نقصان ويفسح المجال لكل موهبة أن تعبر عن نفسها بأقصي ما تستطيع. وإذا كان التليفزيون قد عودنا منذ نشأته.. علي البطولات الجماعية الكثيرة.. فإن ذلك من أولي خصائصه واعتماده علي زمن الحلقات الطويل الذي قد يشكل مادة لعشرين فيلما أحيانا. أما الفيلم السينمائي الذي مهما طال فإن مدته لا تستطيع تجاوز زمن معين محدود، فإن تقديم شخصيات كثيرة في حيز زمني ضيق أمر شديد الصعوبة ويتطلب مهارة خاصة وتكنيكا محكما.. قد لا يكون في مقدور الكثيرين الحصول عليه. ولكن هذا (وهنا وجه الروعة والإدهاش) ما أمكنه تحقيقه مخرج هذا الفيلم الإنجليزي المفاجأة «إنه الحب» الذي يعرض أمامنا صورا متعددة البعض منها ضاحك والآخر مليء بالشجن والثالث غارق في رومانسيته والرابع في ميللودراميته والبعض الآخر مليء بالتوريات السياسية والغمزات والقفشات التي وصلت لدرجة من الجرأة طالت فيها رئيس وزراء بريطانيا وسيد الولايات المتحدة اللذين يتنازعان ود المسئولة الشابة عن المطبخ في 10 دوننج استريت مقر إقامة رئيس حكومة بريطانيا (!!) هذا التنافس الذي ينعكس علي تصريحات سياسية غير متوقعة ومليئة بالشجاعة يطرحها رئيس الوزراء البريطاني في مؤتمره الصحفي المشترك مع الرئيس الأمريكي منددا فيه بالتدخل الأمريكي، مدافعا عن الثقافة والحرية البريطانية دون أن يعلم أحد ما وراء هذه التصريحات، وما هو الدافع الخفي إليها. هذه عينة من العينات التي يطرحها هذا الفيلم الإنجليزي الشيق الذي لا يترك زاوية من زوايا مجتمعنا ومشاكله دون أن يتطرق إليها، الأغاني الشبابية.. وما يفعله المغنون القدامي للاحتفاظ بشعبيتهم ومراكزهم، الخيانات الزوجية، الإحباط الجنسي، البحث عن مصادر الإلهام الأدبي، العلاقة بين الحضارات المتقدمة والمتأخرة نسبيا (إنجلترا والبرتغال) العلاقة بين أب فقد زوجته.. وابنه الذي يبلغ العاشرة من العمر.. والذي يصارح والده (الذي ظن أن حزنه المقيم بسبب فقده لوالدته) بأنه يعشق زميلة صغيرة له في المدرسة لا يعرف كيف يصارحها بحبه.. والعلاقة الحميمة التي يمكن أن تنشأ بين أب متفهم وطفل لم يتجاوز بعد سن براءته. ثم هذه الموظفة المعقدة.. التي تحاول أن تكون السند الوحيد لأخيها المريض عقليا والدائم الاتصال بها، والتي تجعلها هذه العاطفة الأخوية المتقدة تفقد فرصة حبها الكبير الذي ظلت تنتظره سنوات طوالا وعندما أصبح رهن يديها.. أضاعته هذه العلاقة الإنسانية الأخوية التي لم يمكن لفتاتنا التي كادت تصل إلي مرحلة العنوسة أن تتخلي عنها. عائق اللغة أو الجدار الفاصل الذي يمنع قصة حب بين كاتب إنجليزي وخادمة برتغالية من أن يتحقق والذي يحله الفيلم بشكل فانتازي رائع ذكرنا بأفلام دوسيكا الواقعية الأولي. ماذا أقول.. الفيلم مليء بالأحداث.. مليء بالمفاجآت.. مليء بالتوقع.. يفتح أحيانا طاقة أمل ويحفر أحيانا أخري.. آبارا للشجن.. يجعلنا نري أنفسنا من خلال مرآة مجتمع إنجليزي يعرف كيف ينقد نفسه وكيف يصور عيوبه وكيف يحنو علي أخطائه. هذه الجرأة في الحوار خصوصا مشاهد رئيس الوزراء البريطاني.. الذي عرف الممثل الإنجليزي الكبير هيوج جرانت كيف يقدمه بشكل كاريكاتوري متزن.. يظهر عيوبه كلها.. دون أن يضطرنا لحظة واحدة إلي احتقاره أو العيب فيه. هذا البعد الإنساني العميق الذي عرفت إيما تومسون كيف تعبر عنه وهو دور الزوجة الوفية المخلصة التي تكتشف خيانة زوجها.. في احتفالات عيد الميلاد ألمها الداخلي، وكبرياءها المسحوق.. ومحاولتها التوازن والمحافظة علي كرامة أهدرت في سبيل صيانة بيتها وحماية أولادها. أو كل نظرات التعاطف والمحبة والفهم التي ينظر بها ليام تلسون الأرمل الحزين إلي ابنه الطفل الذي يكتشف مسرات وآلام الحب لأول مرة.. في عمره الصغير. أو هذه الشابة العاشقة كيرال نيتلي الحائرة بين صديقين تربط بينهما مودة كبيرة تختار واحدا.. دون أن تنسي الآخر، في غمزة عين مدهشة لفيلم فرانسوا نروفو الأخاذ (جول وجيم)وعن العلاقة الوعرة.. التي تربط به الصداقة والحب. وأخيرا هذا الهزء الجارح بمسابقات الأغاني في التليفزيون.. ونجوم الغناء القدامي والجدد.. وما يفعله بهم الإعلام.. وما يفعلونه هم أيضا بهذا الإعلام. أشياء كثيرة لا تنتهي، عالجها هذا الفيلم الإنجليزي الذي أعادنا مرة واحدة إلي عصر الكوميديا الجميلة وجعلنا نري ما يمكن أن يصنعه سيناريو ضاحك يعرف كيف يشحن المتفرج.. وكيف يجعله حائرا بين الابتسام والدموع. في مطلع الفيلم ومقدمته، تقف الكاميرا في ردهة مطار لتلتقط لقطات سريعة للمسافرين والمستقبلين.. عناق الحب.. نظرات الحنان والتعاطف.. رائحة الود.. وحرارة اللقاء، مشاهد تبدو مأخوذة فعلا من الواقع وكأننا في فيلم وثائقي. ورسالة الفيلم التي تهمس.. الكل يقول إن الحب قد زال من أيامنا، ما علينا إلا أن ننظر نظرة تأمل إلي هذه اللحظات المدهشة من لقاء الأحبة من كل نوع.. عند اللقاء أو الرحيل. لنعرف أن الحب، زهرة زرقاء كامنة في القلب لا يمكن للأيام أن تذبلها.. وإذا نسيناها فترة، فالمسئولية تقع علينا.. وليس علي الحب. نعم.. إنه الحب الآن.. كما يقول عنوان هذا الفيلم المدهش الذي أتي ليذكرنا بأن السينما هي حقا.. مازالت وستبقي الفن السابع. جريدة القاهرة في 27 أبريل 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
"إنه الحب" فيلم إنجليزي مذهل يضحكنا ويمتعنا ويشجينا ويسخر بجرأة من رئيس وزراء بريطانيا د.رفيق الصبان |
|