بداية السينما قبل نهاية القرن التاسع عشر بخمسة أعوام كانت فرنسية.. كان الإخوة لوميير قد استطاعوا عام 1895 أن يصنعوا شريطا سينمائيا متحركا وقدموا عدة أفلام قصيرة مثل «وصول قطار» وجاءوا إلي مصر وصوروا أفلاما مثل «خروج المحمل» وسواه .. وظلت صناعة الفيلم السينمائي فرنسية مائة في المائة حتي مطلع القرن العشرين عندما عبرت المحيط إلي أمريكا التي أنشأت هوليوود 1911، وبدأت تتعامل بمعايير مادية مع فن السينما وحولته إلي تجارة .. ومن أجل الربح المادي كان علي هوليوود علي امتداد القرن العشرين أن تخترع وتبتكر تقنيات مثل «السينما سكوب» واليانا فيشان والتودا أو 70مم» وتنوع في موضوعات أفلامها .. من صحاري الغرب الأمريكي ورعاة البقر وحروب الهنود الحمر إلي أعماق إفريقيا وسطوح المحيطات لكي تضمن الرواج التجاري والربح المادي .. وبقي الفرنسيون أصحاب السينما الحقيقيين أوفياء لمبدأ أن السينما فن وثقافة قبل أن تكون وسيلة للتجارة والكسب المادي .. وبهذا المنطق يجب أن نتعامل مع السينما الفرنسية. في فجر العولمة ومباحثات الجات في نهاية القرن الماضي كانت السينما الفرنسية مثار نقاش حاد وخلاف طرفي المحيط .. الولايات المتحدة وفرنسا .. كان الرأي السائد في أمريكا هو أن السينما أياً كانت جنسيتها «تجارة» قبل أن تكون فنا، لذا يجب أن تخضع لما يخضع له أي عنصر تجاري أو صناعي من جمارك وقيود تجارية .. بينما تمسكت فرنسا بوجهة نظرها في أن السينما فن وثقافة قبل أن تكون تجارة أو سلعة تخضع لكل ما تخضع له السلع المستوردة من أوروبا إلي أمريكا. وعلي نحو ما قدمت السينما الفرنسية ومنذ أيام الإخوة لوميير وحتي اليوم هي «فن خالص» لا يخضع في أغلب الأحوال لقواعد التجارة، وفي كل مراحل تاريخها كان المذاق الفني يغلب عليها متمثلا في أفلام رينيه كلير وجان كوكتو ولفري مال وفرسان الموجة الجديدة في أوائل الستينيات فرنسوا تريفو وجان لوك جودار وكلود شابرول ورفاقهم .. حتي ولو كانت تقدم فيلم مغامرات بسيطاً مثل «فان فان لاتوليب» بأبطال مثل ميشيل مورجان وجيرار فيليب ولقد نجحت أن تخرج إلي ساحة السينما العالمية بنجوم كبار مثل إيف مونتان وسيمون سينوريه وجان مورو وفاني أردانت وبريجيت باردو وإيزابيل هومر وإيزابيل ادجاني وجيرار دباردو وجان بول بولموندو فضلا عن الجميلة كاثرين دينيف . أحيانا وتحت ظروف خاصة وإيمانا بأن الفن السابع هو عصارة كل الفنون قد يغلب علي السينما الفرنسية العناية الفائقة بالحوار مما يوحي بأن الفيلم قد يتحول إلي مسرحية، لكن حتي في ظل هذا الإيحاء يبقي المذاق الفني الرفيع هو الصنعة الغالبة. غرباء لكن أحباء نادرا ما أصبح جمهور السينما المصرية يري فيلما فرنسيا ما لم يكن قد عبر المحيط لكي توزعه شركة من شركات هوليوود الكبري مثل يونيفرسال أو وارنر أو يونايتد ارتست، وبالتالي يتسرب إلي دور العرض في بلادنا علي عكس ما كان سائدا في بداية الخمسينات عندما كنا نجد بعض دور العرض قد تخصصت في عرض الفيلم الفرنسي، وعلي هذا قدر لنا أن نري روائع للسينما الفرنسية مثل «الطوفان» للمخرج أندريه كايان وقد اقتبس الفيلم العربي «احنا التلامذة» وبعض أفلام كل من فرناندي ولويس بانويل وأفلام مثل «القطار الأخير إلي مارينباد» و«هيروشيما .. حين» و« الجانب الآخر من الليل» وقد اقتبس في فيلم أمريكي يحمل نفس الاسم إلي جانب ما اتاحته لنا شركات التوزيع الأمريكية مثل فيلمي كلود ليلوش «رجل وامرأة» و«الحياة والحب والموت» وفيهم جولي راسين «ابدأ .. الأحد» وفيلم لوي مال «فينا ماريا» وغيرها. هل أقول أن جماهيرنا أصبحت تجهل حجم الإنتاج السينمائي الفرنسي الضخم علي ساحة السينما العالمية مما يتاح لنا أن نراه ونتعرف عليه من خلال مهرجانات السينما العريقة مثل برلين وكان وفينيسيا. ففي أوائل أيام مهرجان برلين في فبراير هذا العام وجدتني أمام مفاجأة مذهلة متمثلة في فيلم المخرج باتريس لاكونت بعنوان «غرباء أحباء» بطلاه ساندرين بونير وفايريس لوشيني .. شريحة صغيرة من الحياة ، حياة امرأة تعاني من ضغوط نفسية تقرر أن تذهب إلي عيادة طبيب نفسي لكي تعترف له بأدق تفاصيل متاعبها ومشكلاتها العاطفية، ويستمع لها ويكتسب ثقتها لكنه لم يكن طبيبا نفسيا، بل كان خبير ضرائب لقد اخطأت العنوان لكنه أمام جمالها الأخاذ لم تطاوعه نفسه كي يخبرها بالحقيقة، ولا تلبث أن تعرف السر لكنها لم تتوقف عن زيارته المرة بعد المرة علي الرغم من أنها قد سعت إلي جاره الطبيب النفسي الحقيقي لتشفي من متاعبها النفسية .. وشهرا بعد شهر تعلمت الجميلة الغارقة وخبير الضرائب أن يتحررا من المشاكل والمتاعب الحياتية وينضج كل منهما وينجحان في تغيير واقعهما. سينما المشاعر والعواطف الدافئة لقد وجدت نفسي في مواجهة سيل من الأفلام الفرنسية التي جاء بها الفرنسيون كأحدث إنتاج لهم .. أقل وصف يمكن أن يطلق عليها هي «سينما المشاعر والعواطف الدافئة» مثل فيلم المخرج ماريو مورنوه «عطر الدم» وبطلته فاني أردانت وميشيل بلاسيدو وجيوفانا جويليوني .. تحكي قصته عن كارلو وسيلفيا والسنوات العديدة التي قضياها معا .. حياتهما العاطفية لم تكن غير معلومة، وعندما ذهب كارلو إلي بيتهما الريفي لينقطع لكتابة أحد كتبه أحب امرأة أصغر سنا هي «ليو» .. وعند عودته إلي روما يكتشف أن سيلفيا هي الأخري قد بدأت علاقة حب مع شاب صغير عنيف .. وتنفصم الروابط وتسير قصة حبهما إلي نهاية مأساوية لا يستطيع أن يوقفها إلا كارلو نفسه. و«نتالي» فيلم المخرجة آن فونتين الذي يمثله الثلاثي الشهير في السينما الفرنسية إيمانويل برات وفاني أردانت وجيرارد ديباردو، ويحكي عن كاثرين المرأة التي تشعر أن زوجها قد بدأ يخونها ويدفعها هذا إلي أن تستعيد ذكريات زواجها الذي دام خمسة وعشرين عاما ولكن تكتشف حقيقة زوجها ورغباته الحقيقية، تلجئة إلي امرأة أخري تدفع لها المال كي تكتشف هذا نيابة عنها، وتجد نتالي فتاة البار الجميلة المثيرة المستعدة لأي احتمال لكي تدفع بها في طريق زوجها. وفيلم «انظر لي» إخراج انجيس جلوي الذي يحكي عن لوليتا كاسارد التعيسة البدينة التي لا تريد أكثر من تعاطف أبيها والكاتب الفاشل بيير ميللر الذي لا يثق في موهبته، وسيلفيا ميللر مدرسة الموسيقي التي تؤمن بموهبته وإن كانت تشك في موهبتها هي وموهبة تلميذتها لوليتا، قصة أناس حقيقيين تحركهم مشاعرهم وأحاسيسهم في حياتهم اليومية. وفيلم المخرج فيليب لواريه «الرفيق» ويحكي عن كاميل وهي في الأربعين من عمرها وأم الطفلين، عندما تصل إلي جزيرة كويسارت لكي تبيع بيت الأسرة خالية الذهن تماما من أن هذه الرحلة إلي مسقط رأسها ستدفعها إلي تغيير أسلوب حياتها ونظرتها إلي ما تفتقده من الحب الذي كان متبادلا بين والديها الراحلين، كان والدها ديفون قد مات منذ عشر سنوات وماتت أمها موبي منذ عام واحد فقط وبينما هي تقضي الليلة الأخيرة في البيت الذي شبث فيه تكتشف كراسة مذكرات تعيدها إلي الفترة التي سبقت مولدها .. صاحب المذكرات هو انطوان كاسانتي المحارب القديم في الجزائر يصل إلي الجزيرة عام 1963 لينضم إلي إيفون - والد كاميل - وبعض حراس الغابات لكي يعمل معهم. وفي البداية يعامل انطوان كدخيل لكن وسامته وروحه المرحة لا تلبث أن تجذب إليه بريجيت ابنة مالك المقهي وحب أمها موبي ونساء القرية الأخريات. جريمة وحب وفانتازيا ولأن السينما الفرنسية تعتبر أعرق صناعة سينمائية في العالم، فهي ترتاد كل مجالات الفيلم السينمائي بتصنيفاته جميعا .. فالضحك والكوميديا الفاقعة تتحقق في فيلم موريس برثليمي «سائق كازابلانكا» الذي كان أفشل واسوأ ملاكم في العالم، لكن الضجة الإعلامية والصحفية التي أحاطت به حولته إلي أسرع وانجح ملاكم وأهلته ليصبح بطلا .. ولأن المخرج كان يوما عضوا في مجموعة تتعاطي الضحك والفكاهة تسمي «روبنز» نسبة إلي روبن هود حققت شهرة كبيرة في فرنسا فقد ثبت وأخرج وشارك في بطولة فيلمه هذا .. وهناك أيضا الفيلم الاستعراضي الساخر الساخن «ناس» للمخرج فابيان أونتنيان الذي اختار لبطولته روبرت إيفريت وأورنيلا موتي ورودي دي بالما وصوره في باريس، وفي الجزيرة الشهيرة إيبيزا، ويحكي الفيلم عن شارلز دي بوليناك متعهد الحفلات الشهير الذي ينظم حفلات الزفاف وحفلات المشاهير الاستعراضية الراقصة لكن النجاح دائما له ثمن، فقد كثر أعداء دي بوليناك وتعاونوا علي اسقاطه. وفي نفس الوقت كان عمه أرثوس دي بوليناك قد تعب من الحياة المرفهة والطبقة الراقية وانسحب إلي ابراثيته حيث استمر يراقب النشاطات الفاضحة لأصحابه القدامي، والنصيحة الوحيدة التي قدمها لابن أخيه شارلز لكي يعاود التألق هي الذهاب إلي إيبيزا، وبمساعدة صديقته الجميلة كاميلا استطاع أن يكسب ثقة جون جون ملك الليل في إيبيزا، بل وثقة كل الجميلات نيكول وجوليا وكاميرون . ولأن السينما الفرنسية تتولي زعامة السينما الأوروبية فما أكثر الأفلام المشتركة التي تنتجها بالتعاون مع كبار المخرجين الأوروبيين .. ففيلم المخرج البوسني الشهير أميركو ستاريكا «الحياة معجزة» عن حرب البلقان وفيلم مايك لي الأخير وفيلم المخرجة الألمانية مارجريت فونتوروتا هي إنتاج فرنسي مشترك. جريدة القاهرة في 27 أبريل 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
عن سينما لا يراها المصريون السينما الفرنسية تتحدى العولمة الأمريكية بـ"المشاعر الدافئة" عبدالنور خليل |
|