شعار الموقع (Our Logo)

 

 

يزور السينمائي إيتوري سكولا مجدداً مدينته الخالدة روما، متوقفاً عند بعض الشخصيات الفريدة. روما هي محطة عواطفنا الوحيدة، فقد ألقى معظم المخرجين السينمائيين نظرة مفتونة او نظرة اشتياق او  حنان على المدينة الخالدة، فعكس فلليني بريق انحرافاتها الفنية الجمالية واستحواذاتها المثيرة، وحوّلها ناني موريتي الى نزهة فردية. أما إيتوري سكولا فانغمس بدوره في هذه الممارسة، لا للكشف عن أوساط المدينة وتنشّق أجوائها، بل لإلقاء نظرة على "ناس روما" (عنوان الفيلم) الذي يشكل مزيجاً من حضارة غارقة في التحوّل بيد أنها دائمة.

"صوت روما في جميع أفلامي تقريباً"، يقول سكولا الذي يعيش في هذه المدينة منذ سبعين عاماً، ويضيف "اتبعنا هندسة معمارية مختلفة في تشييد عدد قليل من المباني، بيد أن السكان تبدلوا كثيراً مع مجيء ألوف المجتمعات الغريبة. لكن طبع الرومان المتميز بالكسل والأنانية واللامبالاة عزز ميزة الترحيب لديهم، فتحوّلت عيوبهم الى فضلائل في عينيّ الغريب الذي ضؤل شعوره بأنه منبوذ. فالأحياء التي آلت الى الصينيين أو الأفارقة ظلّت أحياء رومانية، نجد فيها صينيين [ترومنوا] (انطبعوا بأخلاق سكان روما وعاداتهم)، أو روماناً ذوي عيون مشدودة الأطراف اذا فضلتم ذلك، فروما التي عانت كل أنواع الغزو والاحتلال، لطالما استوعبت المحتل وأخضعته".

ينظر سكولا في ابتسامة وقورة وبلا وهم الى هذا العالم الصغير الذي يعرفه جيداً ويعتبره معنا في حافلة، في رحلة خيالية لعشرين ساعة. إثر العرض الاجتماعي الذي يقوم به محقق باحث، كل محطة ذريعة لكوميديا وجيزة، لصورة هزلية مستوحاة من واقع مدينة نابض بالحياة. يصوّر سكولا سكان المدينة بدءاً من العاطل عن العمل الذي يدعي الذهاب الى عمله، والى الأب الغريب الأطوار الذي سيدخل دار العجزة، أو المرأة المسنة التي تهذي، بلوغاً الى التظاهرة في ساحة سان جيوفاني. فينبعث سكان روما او يعودون الى الحياة من خلال ممثلين أو صور أشخاص صامتين.

يقول سكولا: "وضعت السيناريو في سنة وساعدتني ابنتي سيلفيا. ثم مزجت بين ممثلين محترفين وشخصيات حقيقية. كنت فعلت ذلك في فيلم [بشعون، قذرون وأشرار] الذي شارك فيه متسكعون حقيقيون مع نينو مانفريدي. فإني أحب أن أجد شخصيات تحيا الواقع نفسه كعامل التنظيفات الذي يؤدي مقطعاً من مسرحية لشكسبير أمام تمثال يوليوس قيصر في مبنى الكابيتول، او المرأة المسنة في دار العجزة. وساعدني كثيراً التصوير بالكاميرا الرقمية على تحقيق ذلك. كانت الكاميرا خفية أحياناً مما منحني نتائج نفسية أفضل، ومن ثم حوّلنا الفيلم الى 35 ملم. لست شغوفاً بالتكنولوجيا لكني أحب ما تحمله إليّ".

الممثلة الوحيدة التي أدّت دورها الحقيقي هي ستيفانيا سانديريللي التي تصطحب حفيدها الى منتزه. شاء سكولا التقاط تلك اللحظة الحميمة تكريماً للسيدة التي أدت مراراً الدور الرئيسي في أفلامه. أما الممثل القديم أرنولدو فوا والمعروف بصوته في الدوبلاج في ايطاليا، فحيا سكولا موهبته بمنحه دور الأب مواجهاً ابنه في مطعم. أما المشهد الذي يغمى فيه على مُبعدة سابقة عن وطنها أمام ممثلين مرتدين زي الجنود الألمان ويطاردون متشردين، فاستوحاه سكولا من حادثة تاريخية: "كنت أصور هذا المشهد لفيلم قصير وأغمي على امرأة فأسعفناها واكتشفنا وشماً على ذراعها يحمل رقمها كمبعدة. وتبين لنا انها كانت الناجية الوحيدة من اسرتها في أوشفيتز".

تحية أخرى يرسلها سكولا الى صديقه البيرتو سوردي: "كان مفترضاً ان يلعب دوراً في المشهد الأخير. لكن لم يسعنا القيام بذلك إذ عاجله الموت"، فأهدى الفيلم الى صديقه سوردي.

لكن هل يتحلى الرومان بالفضول والنقد الذاتي؟ يقرّ سكولا بذلك: "شهد فيلمي نجاحاً في روما فأهلها يحبون كثيراً رؤية عيوبهم على الشاشة أو في الأعمال الأدبية".

من الفجر الى ساعات الليل الأخيرة، يصطحبنا إيتوري سكولا في نزهة في أحياء مختلفة من روما، من مبنى الكابيتول الى ساحة نافونا، ومن أحياء الأقليات الى مقبرة فيرانو. يوم عادي، تسكّع انساني بين سائر فئات الرومان الذين يمنحون المدينة الخالدة وجهها الراهن. نخاطبهم ونفارقهم ويتبدل جارنا حين نستقل الحافلة وفق مشيئة كاميرا جوالة متنبهة للبؤس والمآسي الخفية، كما انها مصغية للطرائف الغريبة المضحكة أو الساخرة. هنا موهبة سكولا وحسّ الدعابة اللاذع والنقد السياسي. هناك أهل الصباح كالعاطل عن العمل الذي لم يطلع زوجته على حاله، وهناك عمال التنظيفات الذين يزيلون الغبار عن تمثال قيصر والذئبة الرومانية في احدى قاعات مبنى الكابيتول، موقظين إرث الأمة في إلفة مطلقة. يبدأ أحدهم في القاء مقطع من مسرحية "يوليوس قيصر" لشكسبير، وتنفض عاملة غبار خرقتها من الشرفة المطلة على المدينة. هناك المغتربون من كل انحاء الأرض، وكي يوضح سكولا العلاقات التي يقيمها معهم المتحدّرون من سلالة رومولوس، وإظهار بعض سمات طبع الروماني، يقوم بتجربة نفسية اجتماعية طريفة جداً عبر لقاء محقق مغترب مع روماني عريق في الحافلة، والمحصلة ان روما هي العاصمة التي تملك أعلى مستوى من التسامح مع الغرباء بفضل صفتي سكانها الأساسيتين، أي الكسل واللامبالاة. رأى الرومان ان السخط على المغتربين عمل غير مجدٍ والأفضل تجاهلهم. في أي حال، الروماني موجود هنا منذ فترة طويلة وشاهد حصول أمور كثيرة.

متحلياً بموهبة التعاطف، يعرض سكولا علينا صور بعض المسنين المؤثرة، وبعضهم مصاب بمرض الألزهايمر، وفقد ذاكرة الإبعاد عن الوطن المأسوية. كما يستعيد أفضل ما في المسرح الايطالي في رسم حزين ومؤثّر لعجوز مشاغب متهكم في مرارة. وتتم أيضاً لقاءات عديدة اخرى حتى ساعات الفجر، كالتواطؤ الغامض بين أريستقراطي ومتشرّد على مقعد في ساحة نافونا، انها كياسة رائعة.  

_______________

عن "لوفيغارو"

النهار اللبنانية في  26 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

كاميرا إيتوري سكولا تجول في روما وسط ناسها ومهاجريها والمهمشين

ترجمة: ليليان حاتم