أعادت المخرجة باتي جينكينز بفلمها "المتوحشة" أسم ايلين وورنوز الى الواجهة ثانية بعد أن أستأثرت قصتها بأهتمام وسائل الأعلام والرأي العام الامريكي على مدى العقد الأخير من التسعينات، بوصفها المرأة الأولى في التاريخ الأمريكي التي أرتكب سلسلة من الجرائم المتصلة ضمن مدى زمني قصير، وأطلقت حينها الصحافة عليها لقب السفاحة تشبيها بالمجرم الانكليزي جاك السفاح. و تجدد الأهتمام بشكل أكبر عندما حصل جينكينز، قبل سنتين من أعدامها، على موافقة خطية منها تسمح له بنقل قصتها الحقيقية الى السينما مع رسالة أخيرة تؤكد فيها: أنها ما كانت لتقتل ضحاياها الرجال الستة لو أتاح لها المجتمع فرصة حقيقية للتخلص من واقعها "المتوحش" الذي بدأ بأغتصاب وهي في سن الثامنة وأنتهى بغرفة الاعدام. معالجة سينمية مختلفة ولأن قصة وورنوز حقيقية، وقعت على عاتق المخرجة باتي مهمة عسيرة في اختيار شكل المعالجة السينمائية لها، فأفلام المجرمين التسلسلين كثيرة و غالبا ما أخذت معالجتها شكل بوليسي يركز على بشاعة القتل وذكاء المحقق البوليسي في التوصل الى القاتل، أما باتي فارادت لفيلمها الأول ان يبدأ من الأشهر التسعة الأخيرة من حياة أيلين، ثم تغور تدريجيا في العمق للكشف عن الأسباب الأجتماعية والنفسية التي دفعت هذة الشابة الى أرتكاب جرائمها بدم بارد، عائدة بين فترة وأخرى الى تفاصيل من حياتها تحيلنا الى معرفة الدوافع، دون تعاطف كبير مع سلوكها العنيف. أرادت بلغتها السينمائية المعتمدة على تسجيل المناخ العام القاسي المحيط بها ان تقرب دواخلها المضطربة، وفي نفس الوقت تعرية حالة الندم والمرارة التي تشعر بها ايلين. لقد استعانت جينكينز بأنارة شاحبة طيلة وقت الفيلم وأعتمدت اللقطات القريبة للوجه مع أخرى متوسطة للحركة الأوسع، وأبتعدت عن البهرجة الاستعراضية للمدن الامريكية، فهذه أوهيو، كما عرفناها، هذه المرة ممطرة، رطبة، كئيبة، موتيلاتها بائسة، تقضي ايلين فيها ليلها مع زبائنها السواق الذين تغويهم على الطرق السريعة. ومن مشهد عام على أحداها، حيث تجلس أيلين تحت الجسر تنتظر تنفيذ قرار أنتحارها، سيبدأ فصل جديد من حياة هذة المومس التي حلمت في طفولتها ان تصبح يوما ممثلة مشهورة أو رئيسة للولايات المتحدة الامريكية. توازن عاطفي واختلال.. قبل الضغط على زناد المسدس تعتري ايلين رغبة في احتساء قدح من البيرة فتذهب الى اقرب حانة وهناك تلتقي بالفتاة الصغيرة سيلبي "كريستينا ريسي" ذات الميول الجنسية المثلية فتنشأ علاقة عاطفية تجدد رغبتها في الحياة وتعيد بعض التوازن المختل في شخصيتها المرتبكة. ستدفع هذة العلاقة ايلين بقوة لتوفير مستلزمات ديمومتها، أي المال. ف"سيلبي" التي هي الأخرى على حافة التشرد، بعد ان تركت بيت أهلها، تريد العيش بحرية وتتمتع بملذات الحياة، فتطلب المزيد من شريكتها وما من سبيل الى ذلك سوى البحث عن المزيد من زبائن قارعة الطريق. في هذا الجزء من الفيلم سنشاهد ايلين " تشارليز ثيرون" كفتاة هوى ميالة لأستعراض استهتارها، مع تخفي متعمد لنزعة الاستقرار والهدوء، يظهر في حركة الجسد العنيفة والكلام البذيء، والمبالغة في اعلان الايماءات الجنسية المثلية، كنوع من التحدي الاجتماعي. ولكن ثمة تحول مثير سيبدل هذة الحركات بأخرى، داخلية تنقلها من العنف الى العصبية والارتعاش والارتباك، حين تقتل أول ضحاياها، الرجل المهوس والعنيف جنسيا الذي أراد قتلها داخل الغابة. هذا التحول سيتصاعد ليأخذ شكلا انتقامياعاما من الرجال. تشارليز ثيرون والأداء المدهش لقد ركزت جينكينز على الجانب الاجتماعي كثيرا، فتجنبت الخوض في تفاصيل الجريمة وبشاعتها، فثمة واقع أكثر بشاعة دفع ايلين وما زال يدفع بالكثير الى الأنحراف. لقد حاولت المخرجة الاكتفاء بالحوار والمعلومة الوجيزة التي تخبرنا بها أيلين عن حياتها: أغتصبت في الثامنة من العمر، والمغتصب كان صديق والدها، الذي رفض تصديق قصة ابنته. القسوة العائلية هربتها من البيت الى الشارع، فأمتهنت الدعارة وهي لم تبلغ الثالثة عشر من العمر، وعندما حاولت البحث عن عمل شريف وترك الدعارة وقفت بيروقراطية المؤسسة الاجتماعية الامريكية في طريقها. ورغم هذه الخلفية المنقولة حوارا فأن ثمة ضعف في تسجيلها سينمائيا، فبدت كنوع من تكرار كليشيهات معروفة عن واقع الحياة الامريكية المتمايزة طبقيا، فشعر المشاهد في أجزاء قصيرة من الفيلم، ان جينكينز لا تعرف تماما ماذا تريد ان تقول!. ولولا قدرة الممثلة تشارليز ثيرون المدهشة في تجسيد شخصية ايلين لأختل توازن الفيلم. لقد لعبت ثيرون دورا أستحقت عليه دون أدنى شك جائزة الأوسكار كأفضل ممثلة، ووضعت نفسها اليوم بين قائمة افضل الممثلات، لأجادتها تجسيد شخصية حقيقية، الأمر الأصعب في التمثيل، و نقلت بأداء متكامل روح "المتوحشة" الامريكية مع أنها ابنة جنوب افريقيا. وبنفس القدر ساهمت الممثلة كريستينا ريسي في تعديل مسار الفيلم عندما نجحت في نقل شخصية شابة تجمع بين البراءة والأنانية، حيث ظلت طيلة الفيلم، تبعد برفق الاحساس التام بالتعاطف مع بطلتيه، وبدلا منه أثقلت وزن الفهم الصحيح لهن، بالمضي في المزج الموضوعي بين الأنانية الفردية الغربية وبين الحاجة الى فهم أكبر لمشكلات شخصانية/ عامة مثل، المراهقة، الدعارة، المثلية، والنظرة الخارجية العامة لها، وبين أيضا التفكير الكلي بالذات عند المواجهات الحقيقية، وهذا ما وفق فيه جينكينز عندما جعلها تترك شريكتها تواجه مصيرها المأساوي لوحدها وتتعاون مع الشرطة للقبض عليها. في ذات الوقت، وهذا أكثر ما يؤلم، هو التشبث التام لالين بالخيط العاطفي الواهي وتسامحها التام، لسلوك شريكتها، مع اصرار غريب على نكران جرائمها. لقد قالت جينكينز عندما قرأت رسالة ايلين الأخيرة "أنه أمر يدعو الى الآسى، ان ينكر المجرم كل جرائمه ويصر على براءته، لا على اساس نكران فعلته ولكن لقوة اقتناعه بالدوافع التي أدت الى ارتكابها. موقع "إيلاف" في 26 أبريل 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
أول فيلم لـ"باتي جينكينز" "المتوحشة" وعالمنا صانع الوحوش قيس قاسم |
|