لايسير قطار الموت المعبأ بصراخ الضحايا من الوطنيين الى محطته الأخيرة السماوة بالرتابة التي قدرها المجرمون له لكنه هذه المرة يحث الخطى مخترقاً غابات النخيل وأشجار الساكورا (الكرز) اليابانية على إيقاع ناي عراقي يجسد الألم الذي خلفته السنوات العجاف مختلطاً مع عزف على( السيسمن) اليابانية، أخال أن القطار قد تخلى عن مهمته في أزهاق أرواح ضحاياه ليحمل معاول ومعدات وجنود يابانيين غير مسلحين غادروا بلدهم الذي يقبع فوق جبال بركانية خضراء لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية وقد إختاروا السماوة من بين كل المدن المنكوبة بالديكتاتورية. يحشد أبو الفوز وجوهاً وأسماء من أماكن شتى ومن ازمان مختلفة شعراء وضحايا ، دعاة حقوق الأنسان وانصار ، أصدقاء عراقيين ويابانيين، فنلنديين وباكستان ليرسم ملامح المدينة التي حمل إسمها ، يجوب المسافات من منفى لمنفى حتى أنه منح مدينته الفنلندية الصغيرة التي تقع غير بعيدة عن هلسنكي إسم سماوة القطب بينما يده مازالت على قلبه وهو يراقب ماجرى لمدينته الأم ويتسائل، هل سيصل اليابانيون من تلاميذ بوذا وكونفوشيوس لأعمار مدينة كلكامش وليزرعوا نبتة جديدة للخلود، وليمدو سيقانهم النحيفة في مقاهي المدينة غير عابئين بصيحات سيدوري: الى أين ياكلكامش، إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها. مثلما دار قلقاً في سنوات منفاه داخل الأمكنة فقد تجسد ذلك في بنائه للسيناريو فراح السندباد العراقي يتموج داخل الزمن بمجاذيف ساحرة ليصوغ من هذا القلق موسيقى وشعر، صحيح أن الفيلم الوثائقي يعتمد في الأساس على الوثيقة الأصيلة لكن تركيبها في الفيلم يخضع لرؤية متفردة لصانعه قد يتوغل بها في عوالم شعرية تفضي أحياناً للدخول في لعبة الروائي ولاأرى ذلك متعارضاً مع الوثائقي في سيناريو أبو الفوز ذلك لأنه لم يكن مجرد كاتب يخطط ببراعة لصياغة حبكته بل شاهداً لماجرى من موقعه كبطل وضحية. راح أبو الفوز ينقب بوعي بين ثقافتين عريقتين فكان السيناريو بحثاً في ثقافة سومر والساموراي والحاضر الممتد بجذوره الى هناك ولم يخل ذلك بالتدفق اللذيذ للعمل وهذه حرفة تمكن منها يوسف بعد سلسلة من أعمال قصصية أرخت لأدب جديد كان يطلق عليه أدب اللجوء بعد سيل عارم من اللأجئين لم يشهد له العراق من قبل حيث غادرت ملايين في إتجاهات شتى بحثاً عن أوطان آمنة وقد خلقت هذه الهجرة أدبها وموسيقاها وسينماها أيضاً وهنا يستعير أبو الفوز شعراً يابانياً يطلق عليه الهايكو لتجسيد تلك المحنة: آه ياشجرة الخوخ التي أمام بيتي لن أعود أبداً لكنك لن تنسي أن تزهري في الربيع فنسمع صوت الشاعر ناظم السماوي يأن حزيناً: ودعت السماوة بليل وهزني الشوك بالحسرة وأسافر لاصديج وياي بس جدمي النكل صبره
وفي النهاية فأن يوسف أبو الفوز يتأمل المستقبل بتفاؤل حتى أنه يتخيل أن اليابانيين سيعيدون الرسام هاني مظهر الذي فر من المدينة ذات ليلة بعد مداهمات قوات الظلام المقبورة ودارت به المنافي فأقامت له اليابان معرضاً في طوكيو ليعيد رسم المدينة بألوانة العذبة ويرى تشكل ملامح أولية لرأس حصان بريشة المبدع سامي مشاري على خشبة مسرح عبدالكريم هداد وهو يتهيأ لألقاء قصيدة بينما هادي ماهود( كاتب السطور) منشغل بضبط عدسة كاميرتي وناظم السماوي يصفق بحرارة وفي بساتين نخل السماوة التي توهم أنها نخل السماوات تفيئأ سعدي يوسف ليخط حروفاً على ورق. ملبورن- أستراليا hadimahood@hotmail.com موقع "سينمائيون" في 24 أبريل 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
هوامش يوسف أبو الفوز اليابانية توثيق لمدينة، أم وطن هادي ماهود |
|