شعار الموقع (Our Logo)

 

 

"أحلى الأوقات" من الأفلام النادرة التى اعتقد أنها تجبر من يشاهدها على التوقف عن اللهاث، لهاث العميان- اقصد عمى البصيرة- فى واقع شرس، بحثا عن كل ما هو وقتى وعاجل وفى الغالب مفسد للروح، فبعد انتهائه سوف تستعيد هذه الرغبة الخلاقة فى أن تتعامل بحميمية وبرفق مع نفسك ومع من يلهثون حولك من العميان، انه وباختصار فيلم يضعنا بحنو بالغ وبتسامح فياض على حافة أن نكون أنفسنا بلا زيادة أو نقصان، ويؤكد لنا أن هذه الحياة فيها ما هو جميل فعلا ونستطيع كأفراد أن نجعلها اجمل. وهذه سمة كل الفنون الحقيقية، فصانعو هذا الفيلم الجميل-رغم بعض الهنات الصغيرة- تخلوا عن المقولات الضخمة وتخلوا عن المواقف المسبقة، ليشغلهم فقط مصير بشر عاديين فى حياة عادية، ولذلك لن تجد فى القصة التى كتبتها هالة خليل ولا فى سيناريو وسام سليمان مواقف دراماتيكية مفزعة ولن تجد بشرا استثنائيين يعوضوننا عن عجزنا على طريقة معظم أفلام هوليوود، ولن تجد أبطالا يحققون -نيابة عنا- كل أحلامنا المستحيلة على طريقة معظم الأفلام المصرية فى السنوات الأخيرة.

فشخصيات الفيلم وأحداثه -كما رسمتها بحب السيناريست وسام بموهبتها الفياضة- مبنية على تفاصيل صغيرة ولكنها دالة ومؤثرة، ففى المشاهد الأولى تقع صورة الأسرة بسبب ريح قوية منذرة بالشر وهو ما يؤهلنا لانتظار مكروه، و"ايشارب" مها أبو عوف يطير ليستقر على شجرة عالية، وتقع على الأرض ميتة وهى تحاول استرداده، ثم نجده فى سيارة زوجها سامى العدل قبل نهاية الفيلم بقليل، وهو نفس "الايشارب" الذى نراه فى أكثر من مشهد وكأنه فى لحظات تعبير عن احتضان الراحلة لبيتها وفى لحظات أخرى وكأنها شاهدة على ما يحدث. وقميص نومها الذى خلعته بعد استيقاظها يصاب زوجها سامى العدل برجفة عندما يراه بعد دخوله الى المنزل بعد وفاتها، واذا كنا فى بداية الفيلم نندهش لأنه لم يحضر جنازتها، فإننا نعرف ونحترم أسبابه التى قالها لابنة زوجته حنان ترك فى مشهد مصالحة جميل بينهما.

والعدسات اللاصقة التى تستعملها حنان طوال الفيلم، تبدأ علاقتنا بها عندما تقوم أمها مها أبو عوف بوضع السائل الذى يحافظ عليها وتنتهى بأن تخلعها حنان وترتدى النظارة فى نفس اللحظة التى تكتشف أن الشخص الذى يرسل لها الخطابات الغريبة والمجهولة هو زوج أمها. ولم تستخدم السيناريست التفاصيل بكل هذه الدقة والرقة فقط لمنح فيلمها كل هذا الدفء والخصوصية ولكن استعانت بها أيضا فى تطوير الأحداث وفى إحكام البناء الدرامى، فصورة الطفل التى نراها على مكتب سامى العدل نعرف فى مشهد آخر أنه ابنه الذى لم يستطع إنقاذه رغم أنه طبيب أطفال كبير، وان هذا الشعور العميق بالفقد هو الذى يجعله يقاتل من أجل ألا تتركه ابنة زوجته وهو الذى يوقعه فى علاقة ساذجة مع منة شلبى.

وبنفس المنطق استخدمت تفصيلة السيارة التى كانت تطارد حنان ترك طوال الفيلم ونكتشف قبل النهاية بقليل أنها سيارة زوج أمها سامى العدل التى لم تتحمس لرؤيتها فى البداية بسبب مشاعرها شبه العدائية تجاهه، وهذه السيارة لعبت دورا تشويقيا مهما على امتداد الأحداث. ومنطق بناء الفيلم على التفاصيل استخدمته ببراعة هالة خليل فى الإخراج، فالمشهد الذى يجمعهم وهم يلعبون الكرة مع الأطفال فى الشارع على أغنية "نعناع الجنينة" لمحمد منير تستكمله فى منزل "هند صبري" البسيط وهن يرقصن، والمشهد الذى يجمع بين "حنان ترك" ووالدها "حسن حسني" الذى كانت تبحث عنه ينتهى بكادر جميل لمدير التصوير الموهوب "احمد مرسي" "لغمازة السنارة" وهى تتأرجح فوق سطح الماء، ثم تقطعه "هالة" بلقطة بديعة لحسن حسنى من الخلف وهو يصطاد وأمامه البحر اللانهائى وهو ما يعبر عن أن مقابلة "حنان" لوالدها والذى زادها حيرة وارتباكا بعد أن كانت تظن أنها وجدت الأمان.

ناهيك عن الحنو الشديد فى مونتاج "منار حسني" اللقطات التى تجمع الصديقات الثلاثة ومنها مشهد التقائهم فى المدرسة مثلا، أو فى التقطيع المتوتر والحانى فى نفس الوقت بين حسن حسنى وحنان ترك عندما ذهبت اليه فى الاستديو لتقول له إنها ابنته التى لم يرها منذ 20 سنة. والمزج البديع بين أغانى محمد منير وبين موسيقى "خالد حماد" صاحب الموهبة الاستثنائية والذى منح الفيلم شجنا عميقا، فلم يكن عبئا على الصورة ولكن أضاف اليها آفاقا إنسانية دافئة. كما كان الاهتمام مدهشا بالملابس، فحسن حسنى يرتدى قميصا أحمر شتويا فقيرا وبسيطا، وأسلوب ملابس حنان واضح فيه طوال الفيلم التكلف والذى تتخلى عنه قليلا فى الثلث الأخير، والأكثر إدهاشا كانت ملابس هند صبرى المحجبة، و"التشيرتات" التى كان يرتديها "عمرو واكد".. هذه الاختيارات للملابس تكشف عن خصوصية شديدة للشخصيات، "يعنى مش ملابس وتعدي". كان التمثيل لمعظم فريق العمل مذهلا، وكأننا نشاهدهم لأول مرة، وعلى سبيل المثال طبقة صوت الفنان احمد كمال - ولا أعرف لماذا لا يأخذ المساحة التى تليق بموهبته على الساحة الفنية؟!- كان واضحا فيها اضطرابه وتوتره ومدى تعاسته وتمسكه لسجنه نفسه فى قصة حب قديمة لتلميذته فى المدرسة.

ومها أبو عوف التى أذهلتنى بطريقة شربها لسيجارة الصباح، وخالد صالح رغم نمطية شخصيته ولكن كانت لديه قدرة على التنويع، وحنان ترك بحساسيتها المفرطة، فكانت نظرات عينيها فى مشهدها مع والدها حسن حسنى معبرة الى أقصى درجة، و"منة شلبي" رغم أنها مثلت بنفس طريقتها فى العديد من أعمالها السابقة ولكنها هنا كانت أكثر إخلاصا. واضطراب "سامى العدل" وإحباطه عندما قالت له حنان ترك بحدة إنها لا تريد سكر، أما التى كانت مذهلة فهى "هند صبري"، فحافظت طوال الفيلم على حيوية مذهلة وعلى تفصيلات الشخصية، مثل طريقة الحركة، فأضافت بهاء من الصعب نسيانه. ولكن ما عاب الفيلم أن مشاهده الافتتاحية كانت طويلة أكثر من اللازم، كما أن المشاهد التى لجأت اليها السيناريست لحل عقدة الفيلم كانت طويلة أكثر من اللازم وكانت تحتاج الى تمهيد ومنها مشهد سامى العدل وحنان ترك، أو المشهد الطويل الذى جمع الصديقات الثلاث. ولكن هذه مجرد "هنات" بسيطة فى فيلم يمنحنا الأمل فى سينما جميلة.. والأهم فى حياة أجمل.

العربي المصرية في  18 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

فيلم "أحلى الأوقات"

يمنحنا الأمل في سينما جميلة.. وحياة أجمل

سعيد شعيب