· نزعة يمينية محافظة وضعف بالغ فى سيناريو الفيلم. · عنف تصويرى شديد المبالغة.. والسؤال: لماذا أراد جيبسون أن يحكى قصة آلام المسيح؟ آثار عرض فيلم ميل جيبسون "آلام السيد المسيح" عشرات الأسئلة لكنه لم يطرح إجابة شافية واحدة عنها وان قام بالتلميح -دون التصريح- إلى رؤية غامضة يزعم انه يتركك لتعثر عليها بنفسك، لكن السؤال الأول الذى يجب أن نطرحه على أنفسنا عند مشاهدتنا الفيلم هو: إلى أى حد يجب أن تتأثر انطباعاتنا ورؤانا النقدية بكل تلك الكتابات المتناقصة عن الفيلم، والتى انهالت منذ شهور قبل عرض الفيلم بوقت طويل، وتنازعت فيها الآراء بين مؤيد متحمس ومعارض متزمت؟ لكن اغلب هذه الآراء أتت فى معظمها غير وثيقة الصلة بالفيلم باعتباره عملا فنيا، لكنها تقع فى دائرة قول البعض بأن الفيلم يثير من جديد نزعة "العداء للسامية" مما يستوجب فى نظرهم إدانته ومنع عرضه، بينما وقع البعض الآخر -ومنهم كتاب عرب للأسف الشديد- فى اعتبار ذلك المصطلح الغامض: "العداء للسامية"، اقرب إلى فضح جريمة "اليهود" الأبدية فى صلب المسيح. إنها مهمة صعبة إذن على الناقد الذى لا يجب أن يخشى إعلان موقفه رغم انه الموقف الذى قد يتعارض مع التيار السائد، وهى مهمة اصعب مع فيلم مثل "آلام السيد المسيح" لأن الناقد لابد له أن يتوقف أمام مصطلحات مختلطة من نوع "السامية" أو "اليهود" وهو ما قد يجرنا أيضا -ونحن نتحدث عن السينما- إلى الخوض فى الأبعاد السياسية والثقافية والحضارية للسياق التاريخى لما تسميه هوليوود "اعظم قصة فى التاريخ" عن حياة وآلام السيد المسيح، ونحن نعنى هنا السياق التاريخى الذى حدثت فيه القصة فى الماضى قبل ألفين من السنين، كما نعنى أيضا السياق التاريخى المعاصر الذى تتحول فيه هذه القصة إلى عمل فنى، لكن من المهم هنا أن نتفق على بدهية أساسية فى المناقشة، حتى لا نقع فى محظور التأويل بالخروج عن "ثوابت" دينية، وهى بدهية استقرت فى وجدان كل مؤرخى الفن ونقاده فى العالم كله رغم أنها لا تزال عندنا أمرا شائكا، فإن أى "موضوع" ذى علاقة بالمعتقدات الدينية لا يلقى بالضرورة هالة مقدسة على العمل الفنى الذى يتناوله، وأنت بالطبع مع فيلم ميل جيبسون عن "آلام السيد المسيح" لست أمام فيلم وثائقى -بفرض وجود السينما قبل عشرين قرنا!- عن رحلة السيد المسيح إلى الصليب، وإنما أنت أمام عمل فنى يحمل بصمات صانعه، حتى انك تستطيع أن تطلق عليه -كما اسماه بعض النقاد الأمريكيين- "الإنجيل كما رواه ميل جيبسون". ففى الحقيقة أن فيلم "آلام السيد المسيح" لا يتبع صفحات الإنجيل صفحة وراء أخرى من بدايته لنهايته، لكنه يأخذ مادته الأساسية عن الصفحات الأخيرة من الأناجيل الأربعة "بالإضافة إلى مصادر أخرى غير موثوقة سوف نشير إليها لاحقا" وهى الصفحات التى تحكى عن الساعات الاثنتى عشرة الأخيرة من حياة السيد المسيح، فى رحلته عشية "العشاء الأخير" والقبض عليه ومحاكمته وتعذيبه وصلبه، وإن أردت قدرا اكبر من الدقة التى سوف تدرك دلالتها بعد أن ترى الفيلم بنفسك فإن فيلم ميل جيبسون يمتد إلى ساعتين وسبع دقائق من العرض، تنفرد الدقائق السبع بمشاهد خاطفة من الماضى بأسلوب "الفلاش باك" بينما يخصص ميل جيبسون حوالى نصف ساعة لمشاهد المحاكمة، أما ما تبقى من الفيلم -خلال ساعة ونصف الساعة- فهو مشهد واحد مفرط فى الطول يجعلك ترى بكل التفاصيل السينمائية المتاحة صنوف التعذيب التى يفترض أن السيد المسيح قد تعرض لها. تبدأ أحداث الفيلم فى ضيعة جثسيمانى على سفح جبل الزيتون "سوف نحاول أن نستعين بقدر الإمكان بالأسماء كما نعرفها فى الترجمة العربية للكتاب المقدس"، حيث ذهب المسيح ليصلى وهو يعلم أن النهاية قد اقتربت -لابد هنا أن نشير إلى براعة مدير التصوير كاليب ديشانيل فى الإيحاء بالغموض من خلال الضوء الأزرق البارد للقمر وسحابات الضباب، وهو الغموض الذى تؤكده المؤثرات الصوتية والموسيقى -من تأليف جون ديبيني- التى تشبه الصرخات المكتومة، لولا انه الغموض الذى يليق بأحد مشاهد القبور فى فيلم من أفلام الرعب، ويعكس فى التحليل الأخير الرؤية الفنية للمخرج ميل جيبسون شديدة الالتصاق بالسينما الهوليوودية وتقاليدها وأكليشاتها، انه يمضى بهذا الغموض السينمائى إلى أقصى مدى دون أن تستطيع أن تتلمس الرهبة الروحية، للموقف الذى يعيشه المسيح وقد قرر أن يسلم نفسه لإرادة الله حتى لو كلفه ذلك حياته، فبدلا من ذلك نرى مشهدا يبدو مقتبسا مباشرة عن أفلام سابقة لميل جيبسون مثل "القلب الشجاع" و"الوطنى المناضل". إن المسيح "جيم كافتزيل" يمضى خائفا وحيدا فى الضباب والظلام بين الأشجار وقد تساقطت حبات العرق من على جبينه، وفجأة يظهر الشيطان "روزاليندا سيلينتانو" فى صورة إنسان مخنث يتشح بالسواد، وهى كما ترى صورة شديدة النمطية والتقليدية، وها هو الشيطان يحاول إغراء المسيح عن التضحية بنفسه والتمرد على إرادة الله، لكن المسيح يرفض ويسحق بقدمه ثعبانا أطلقه الشيطان لكى يلدغ المسيح، وهى تفاصيل غائمة لا تزيد بالطريقة التى رأيناها على الشاشة من عمق الصراع الدرامى داخل شخصية المسيح، لكنها تعكس مرة أخري" توابل" هوليوود التقليدية. من جانب آخر، يكون الحوارى الخائن يهوذا الإسخريوطى "لوكا ليونيللو" فى المعبد يتفق مع الكهنة اليهود على أن يرشد عن المسيح مقابل ثلاثين قطعة من الفضة، يرمون بها إليه فتطير فى الهواء بالحركة البطيئة دون أن تكون لذلك أية دلالة عميقة، إن الكهنة يذهبون فى الليل بالمشاعل إلى جبل الزيتون تحت قيادة قيافا "ماتا سبراجيا" للقبض على المسيح ويأخذونه إلى المعبد لاستجوابه حول ما يعتبرونه هرطقة وتجديفا، لكنه يصر على إيمانه بمعتقداته فيقررون معاقبته ويسوقونه بقسوة هائلة إلى الوالى الرومانى ليهودا والسامرة بيلاطس البنطى "هريستوشوبوف" الذى يحار فى أمره لأسباب عديدة متناقضة. انه يحاول الهرب من الموقف -فى حدث لم يرد إلا فى إنجيل لوقا- بحجة أن المسيح ينتمى إلى منطقة الجليل فيرسل إلى واليها الرومانى هيرود (لوكا دى دومينيكيس) اللاهى فى بلاط يذكرك على الفور بفيلم "ساتيريكون فيلليني". إن هيرود يعيد المسيح إلى بيلاطس دون أن يصدر بدوره حكما، وهو ما سوف يزيد من غضب اليهود، لكن بيلاطس يحاول ألا يتحمل "خطيئة" عقاب المسيح فيضع حكماء اليهود أمام الاختيار بين عقاب اللص باراباس "بيدرو ساروبي" أو عقاب المسيح، فيختارون هذا الأخير قائلين: "دمه علينا وعلى أولادنا"، وهى العبارة الواردة حرفيا فى إنجيل متى، واضطر ميل جيبسون إلى تجاهل ترجمتها للإنجليزية على الشريط -وليس إلى حذفها كما تصور البعض- تحت ضغط اتهامه بالعداء للسامية. بدءا من تلك اللحظة سوف تتوالى مشاهد التعذيب على الشاشة، نراها بعنف تصويرى شديد المبالغة فيما يراه ميل جيبسون ضروريا لكى يدرك المتفرج عمق التضحية التى قام بها المسيح من أجل البشر، وهو العنف الذى يتفنن جيبسون فى تنفيذه بدءا من إهانة المسيح وخلع ملابسه والبصق عليه ووضع تاج الشوك فوق رأسه، ومرورا بدقائق طويلة من الضرب والجلد بالسياط الذى يتقطع فيه اللحم أمامك وتنهمر الدماء، وانتهاء بتفاصيل دق المسامير فى يديه وساقيه على الصليب حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، إن جنود الرومان ودهماء اليهود وحكماءهم، يظلون يتابعون التعذيب فى استمتاع سادى، ولا يتعاطف مع المسيح فى محنته إلا وجوه قليلة، سوف تميز من بينها أمه مريم العذراء "مايا مورجينستيرن" ومريم المجدلية "مونيكا بيللوتشي" والحوارى يوحنا ابن زبدى "هريستو جيفكوف"، الذين سوف يكررون كلما ظهروا على الشاشة نفس التعبيرات من الشفقة والألم، ودون أن يسمح لهم سيناريو ميل جيبسون وبينيديكت فيتزجيرالد بجملة حوار واحدة! لا تقلق من كل هذه الكمية الهائلة من "الآلام"، فسوف يمنحك الفيلم فى نهايته دقيقة واحدة يقول فيها إن المسيح قد قام من بين الأموات، وها هو يجلس بالقرب من القبر وقد اختفت من فوق جسده كل آثار التعذيب، ولم يتبق منها إلا ندبة على كفيه فى موضع دق المسامير فيها على الصليب. انك تستطيع أن تستطرد طويلا -كما يفعل بعض النقاد الذين يتعاملون مع الأفلام باعتبارها أجسادا قابلة للتشريح- حول براعة التصوير أو جمال الموسيقى، ولا تنس أيضا فنانى المؤثرات الخاصة الذين أتوا بكميات هائلة من السوائل الحمراء التى تشبه الدماء، واللدائن البلاستيكية التى ارتداها الممثل جيم كافيتزيل لكى يظهر كما لو أن جسده قد تحول إلى كتل من اللحم الممزق، لكنك على المستوى السينمائى الحرفى لا تستطيع أن تتجاهل ذلك الضعف الشديد فى السيناريو، خاصة فى رسم الشخصيات التى بدت جميعها -فيما عدا بضع لمحات من بيلاطس البنطي- شخصيات مسطحة ذات بعد واحد، لكنك إن شئت الدقة فإن هذا الضعف ينبع من رؤية ميل جيبسون المسطحة أحادية البعد لقصة "آلام السيد المسيح" والهدف الفنى الذى يريده بإعادة حكايتها مرة أخرى على شاشة السينما، فهو إذ يتصور أن التقنيات المعاصرة للسينما سوف تمنحه قدرا اكبر من المحاكاة الواقعية لتصوير مدى "آلام" السيد المسيح، فإنها الواقعية السطحية التى لا تعكس فقط رؤية فنية قاصرة، لكن الأخطر الأفدح فيها هو قصور الرؤية السياسية، ونحن لا نعنى بالسياسة هنا تلك الاتهامات العشوائية التى واجهها صانع الفيلم من خلال إطلاق تلك التعبيرات المشوشة والمشوهة بالعداء للسامية، إنما نعنى بالسياسة معناها الأشمل والأعمق، عن علاقة الفنان بموضوعه وجمهوره، فإذا كانت معظم النظريات النقدية قد استقرت على انه ليس من المهم "ما هي" القصة التى يحكيها الفنان بقدر ما يجب أن نهتم "كيف" حكاها، فتلك الكيفية تتحدد كإجابة عن السؤال "لماذا" يريد الفنان أن يحكى قصته، أو بالأحرى كما نرى هنا لماذا يريد أن يعيد بطريقته حكاية قصة قد تمت روايتها عبر القرون مئات المرات وبمختلف الأشكال والوسائط الفنية. وإذا كان فيلم ميل جيبسون "آلام السيد المسيح" قد طرح أمامنا عشرات الأسئلة، فلعلنا يجب أن نبحث الآن عن إجابة للسؤال: لماذا أراد جيبسون أن يحكى قصة "آلام السيد المسيح"؟! يقول ميل جيبسون إن صنعه لفيلم "آلام السيد المسيح" قد جاء بسبب دافع روحى بداخله هل تسميه النداء أو الوحي؟ لأنه يريد أن يشعر "كل إنسان" بفداحة الثمن الذى دفعه المسيح لكى يتحمل عن البشرية أوزارها وخطاياها، وهو الأمر الذى لابد أن كل من يؤمن بالمسيح يعرفه ويدركه جيدا، فربما إذن أراد جيبسون أن يعيد تذكير "كل إنسان" بها حتى يعود إلى صوابه، كما عاد هو نفسه فى حكايات رددها فى الصحافة إلى الإيمان بعد رحلة مع الإدمان على الخمر كادت تفضى به إلى الانتحار، كما يقول ميل جيبسون حتى يدافع عن موقفه انه ظل وفيا لما ورد فى الأناجيل، وهو لا يحتاج إلى ذلك فى الفن على أية حال، فالالتزام الحرفى بالنصوص -وليس بروحها- هو أمر مناقض تماما لحرية الفنان فى أن يختار أو يضيف أو يحذف ما يشاء وتشاء له رؤيته الفنية، وهى الحرية التى مارسها ميل جيبسون بطريقته الخاصة التى لا يمكن لنا أن نرفضها وإن كان لنا بالطبع الحق فى إلقاء الضوء عليها ومراجعتها والبحث عن مواطن القوة والضعف فيها. إن أردت أن تعرف "كيف" و"لماذا" يصنع الفنان عمله الفنى فابحث عن الجمهور الذى يسعى لأن يخاطبه. وإذا شئت مثالا من تاريخ الفن فسوف نستعين بالفنان التشكيلى الإيطالى الشهير كارافاجو (1573 - 1610) الذى يقول ميل جيبسون انه استوحى منه العناصر التشكيلية التى صنع بها "كادرات" فيلمه، ففيما يطلق عليه جومبريتش مؤرخ الفن الأشهر اسم "الفضيحة"، قامت الكنيسة الكاثوليكية بتكليف كارافاجو بصنع لوحة عن القديس "متي" وهو يكتب نسخته من الإنجيل، فقام الفنان بتصويره فى هيئة رجل عامل عجوز فقير يكتب بصعوبة، وبيده المعروقة، بضع كلمات مجهدة، لكن رعاة الكنيسة آنذاك رفضوا اللوحة لأنها فيما يزعمون تقلل من قداسة بطل اللوحة، وأجبروا الفنان على صنع لوحة أخرى يلتزم فيها بالتقاليد التى يجب أن يظهر فيها القديسون فى أبهى صورة. لقد أراد كارافاجو أن يتوجه بعمله الفنى للبسطاء لكى يقول لهم كيف يمكن لكل منهم أن يصبح بدوره قديسا، لكن المؤسسة الدينية فى تلك الفترة كانت ترى أنه من الضرورى الاحتفاظ بتلك "المسافة" بين القديسين والناس العاديين. فلنحاول الآن أن نمضى مع "مسيح ميل جيبسون" فى رحلته إلى الصليب، ونتأمل إذا ما كنا قادرين على التوحد معه أم أن هناك فجوة هائلة تفصل بيننا وبينه، من الحق القول إن استخدام جيبسون لممثلين غير مألوفين فيما عدا كافيتزيل لأداء الأدوار يزيد من قدرتك على تصديق واقعية ما يحدث أمامك خاصة مع استخدام اللغات المهجورة: الآرامية واللاتينية العامية، فى محاولة للإيحاء بقدر أكبر من الصدق الواقعى، فيما عدا ذلك فإن جيبسون يفترض أن "كل إنسان" يعرف تفاصيل حياة المسيح، أو هو بالأحرى لا يتوجه إلا إلى هؤلاء، الذين يعرفون أدق التفاصيل عنها، وكل الشذرات من "الفلاش باك" التى نراها من ماضى حياة المسيح تفترض أننا سوف نتعرف عليها وندرك مغزاها حين نرى مجرد لمحة خاطفة منها: الموعظة على الجبل، والعشاء الأخير، وإنقاذ مريم المجدلية من الرجم، وإذا كانت هذه اللحظات "الدرامية" القوية -ونحن هنا نتحدث عن الفن وليس النص المقدس- يتم التعامل معها بكل هذا الاختزال والإخلال، فإن جيبسون يختار أن يعطى كل الاهتمام لتفاصيل أخرى، هى أولا التفاصيل التى تحول فيلمه إلى مشهد واحد طويل يتسم بالمبالغة الشديدة حول العنف التصويرى للتعذيب والصلب، وهى ثانيا التفاصيل الفرعية التى لا تقل فى مبالغتها العاطفية ويفترض جيبسون بها إضفاء نزعة إنسانية على الشخصيات، مثل "الفلاش باك" الخاطف الذى يفترض فيه أن المسيح باعتباره نجارا قد "اخترع" منضدة الطعام والكراسى، وهى نفس اللمسة "الإنسانية" الفاترة التى استخدمها جيبسون فى فيلمه "الوطنى المناضل". إنها نفس المبالغة فى تفاصيل أخرى، مثل ذلك الشر الذى ينضح من التواء قسمات "قيافا" رئيس الكهنة ونبرة صوته، أو فى أن يجد يهوذا الخائن خلاصه بأن يشنق نفسه بحبل ينتزعه من جثة حمار تأكلها الديدان، أو فى صورة باراباس، الذى استبدله به الكهنة اليهود المسيح لكى يتم صلب هذا الأخير، فاللص الذى نال التعاطف فى معالجات سينمائية أخرى يتحول هنا إلى شخص مشوه معتوه، كما أن الجنود الرومان يمارسون العنف بوحشية سادية مريضة لا تفهم لها سببا، والسبب الحقيقى كامن فى نفس ميل جيبسون: لأنهم لا يؤمنون بالمسيح، ناهيك عن تلك الاستطرادات غير الموثوقة والتى لا علاقة لها بالأناجيل، مثل تعليق المسيح من ساقيه بالسلاسل فوق الجسر، ويقال إنها مشاهد مأخوذة عن "رؤي" لراهبة من القرن التاسع عشر وتدعى آن كاثرين اميرتش. إن هذه الاختيارات "الفنية" -ودعك من التمحك بالالتزام الحرفى بالنصوص الدينية الموثوقة وغير الموثوقة- تعكس فى جوهرها رؤية "سياسية" محافظة، أو قل بالأحرى "أصولية" تماما تسعى إلى إعادة ترسيخ أفكار القرون الوسطى دون أن تحاول قراءة الواقع أبدا، لقد ظهرت عبر تاريخ الفن والأدب عشرات المعالجات التى تعيد قراءة رحلة المسيح إلى الصليب، وإذا كان ميل جيبسون يقول انه يلتزم بحرفية النصوص، فإننا نتساءل عما إذا كانت الرحلة إلى الصليب تثير الدهشة والاحتقار تجاه تلك "الحضارات" التى اخترعت، ولا تزال، وسائل التعذيب والقمع الوحشية، وفى هذا السياق فإن أى شهيد فلسطينى هو فى حقيقته تنويع على المسيح، الذى قبل الألم لأنه لم يستطع أن يتخلى عن رسالته، وإذا أردت أن تصور "آلاما" اكثر عنفا وقسوة وصدقا وواقعية، يمكنك أن تحمل "كاميرا" إلى ارض فلسطين لتصور فيلما تسجيليا عن هؤلاء الذين يصرعون برصاصات ودبابات وطائرات الإسرائيليين، ولتلتقط لوعة الأمهات وهن تودعن جثث أبنائهن. المسيح بهذا المعنى يعيش "هنا والآن" لكن ميل جيبسون يريده كائنا يتسامى فوق البشر العاديين (مرة أخرى، نحن الآن نتحدث عن الفن وليس العقيدة)، وأرجو أن نقارن بين "مسيح ميل جيبسون" والمسيح كما ظهر فى فيلم بازولينى "الإنجيل كما رواه متي" (1966) فهو مسيح الفقراء والبسطاء الذى يلقى عليهم تعاليمه التى تسعى لإرساء المساواة والعدل على الأرض، أو المسيح فى "الإغراء الأخير" (1988)، فيلم سكورسيزى المقتبس عن رواية بالغة الأهمية لكازانتزاكس، حيث يصبح المسيح نموذجا لكل إنسان يخوض معركته الثورية ضد كل ما هو غير إنسانى، أو كما يقول المؤلف فى مقدمة روايته "لكى يصعد المسيح نحو الصليب.. عبر كل المراحل التى يعبرها الإنسان فى نضاله، وهذا هو السبب فى أن آلامه تبدو مألوفة لنا، لهذا فإننا نتقاسمها معه، وهذا الجانب الإنسانى العميق من طبيعة المسيح يساعدنا على أن نفهمه ونحبه ونتبع طريق آلامه وكأنه طريقنا". لكن ميل جيبسون لا يريدك أن تشارك المسيح فى آلامه، بل أن "تتفرج" عليه بلا أى "تنوير" أو البحث عن عمق جديد، المهم فى نهاية المطاف أن يزداد إحساس "المؤمن" بالذنب والخطيئة وليس مهما أن يساعده ذلك على التعامل مع الحياة، إن كاتب هذه السطور يدرك أن مناقشة أفكار ميل جيبسون سوف يعتبرها البعض تجاوزا لمعتقدات دينية، لكننى أعيد التأكيد على أننا نتعامل هنا مع "فيلم" وليس نصا دينيا، كما أرجو القارئ أن يتأمل ملاحظتين لناقدين أمريكيين من اليسار واليمين، حيث يقول الناقد اليسارى ديفيد وولش إن من النقاط الجوهرية لضعف فيلم جيبسون هى تجاهله لحياة المسيح وتركيزه على موته، "لكن لكى تفهم حقا رسالة موت أو صلب المسيح فإنه يجب عليك أولا أن تفهم رسالة حياته"، وعلى الجانب الآخر يكتب ديفيد ستريت، ناقد كريستيان ساينس مونيتور، أن الفيلم لا يعلم المسيحيين شيئا جديدا ولا يلهمهم عمقا لفهم عقيدتهم، بل إن الفيلم بتأكيده على المعاناة الجسدية وحدها قد جعل "الآلام" هدفا فى حد ذاتها بدلا من أن تجسد الطريق إلى الله أو الهدف الأسمى، وهو ما يفقد الآلام مغزاها الروحى الذى يقف إلى جانب الإنسان وليس ضده كما فعل الفيلم، برغبته الحقيقة بأن يتلاعب على الإحساس "المازوكي" بالخطيئة. لم يرفع ميل جيبسون فى الحقيقة عصا الطاعة على الثقافة الأمريكية السائدة ومؤسساتها، بل إنه يمضى فى نفس الطريق، فإذا كان العنف فى السينما والحياة الأمريكية قد اصبح اليوم مغلفا بغلالة دينية، فإن الدين هنا يكتسى ثوب العنف، وفى كلتا الحالتين فإن مقدار البطولة يزداد بقدر العنف والآلام، سواء كانت تمارس هذا العنف أو تتحمله، وهكذا لا تستغرب أن يجعل جورج بوش الصغير من حادثة "آلام" الحادى عشر من سبتمبر عذرا للحديث عن حرب "صليبية" ضد "محور الشر فى العالم"! لعل ذلك يقودنا إلى تهمة "العداء للسامية" التى واجهها ميل جيبسون وجعلت البعض منا يتصور أنه يقف إلى صفنا فى معاركنا السياسية!! أرجو أن تلاحظ مفارقة أن "اليهود" فى الفيلم قام بأداء أدوارهم ممثلون إيطاليون كاثوليك، كما قامت الممثلة الرومانية "اليهودية" مايا مورجينستيرن بأداء دور مريم العذراء، ولعل تلك ملاحظة شكلية تماما، لكنها تلقى الضوء على تلك الخرافة المسماة "العداء للسامية"، وهم يقصدون بها العداء لليهود تحديدا، فتلك الخرافة تقوم فى مقدماتها المنطقية الأولى على مفارقة تثير السخرية والرثاء معا. فللوهلة الأولى قد يوحى المصطلح بانتقاد النزعة العنصرية التى تشعر بها مجموعة من البشر بكراهية "عنصر" أو "عرق" بشرى مختلف، لكن المصطلح ذاته يكرس تقسيم البشر إلى أعراق وأجناس عناصر ليس لها أى أساس علمى، فمن ذلك الذى يستطيع أن يزعم بأن إنسانا ما ينتمى إلى "الجنس الآري" إلا إذا كان نازيا- أو إلى الجنس "السامي" إلا إذا كان صهيونيا فالدفاع عن السامية مثله مثل العداء لها تماما، فكلاهما يستند إسلى خرافة نقاء الأجناس، وكلاهما نظرة عنصرية بغيضة لا فرق فى ذلك بين الصهيونية والنازية، وإذا كنت تقصد بذلك الأمر كله أن تضع اليهود فى سلة واحدة -وذلك للأسف ما ينزلق له بعض كتابنا- بهدف إدانة اليهود قتلة المسيح (إذا افترضنا ذلك) واليهود قتلة الفلسطينيين فأنت تردد دون أن تقصد زعم الصهيونية بأن الصهيونى البولندى أو الروسى الذى يحتل اليوم فلسطين هو حفيد لليهود الذين قتلوا المسيح فى أورشليم، فاليهودية عقيدة، والصهيونية سياسة، وحتى حركة المقاومة الإسلامية "حماس" لا تقع أبدا رغم جذورها الفكرية الدينية فى القول بأن حربنا ضد اليهودية أو السامية أو ما شئت من أسماء، بل هى حرب سياسية ضد الصهيونية، نعم إنها حرب سياسية يجب ألا ننتظر ميل جيبسون أن يخوضها بالنيابة عنا، بل الأحرى أن نلحظ نزعته اليمينية المحافظة كما بدت فى فيلمه "آلام السيد المسيح" ولعله يخرج علينا يوما بفيلم عن "الحروب الصليبية" فماذا ترانا عندئذ سوف نفعل أو نقول؟ العربي المصرية في 18 أبريل 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
لا تنتظرو أن يحارب أحد الصهيونية بالنيابة عنا رحلة ميل جبسون إلى الصليب أحمد يوسف |
|