بشأن الفيلم النسائي من قضايا التصور والتصوير عزالدين الوافي * |
تقديم إذا كان الخطاب السينمائي، أداة من أدوات التعبير الفني في مجالي الإنتاج والنقد، فإن من أولى أولوياته ، تشكيل أو تقديم رؤى فكرية وجمالية في زمان ومكان محددين، قصد طرح قضايا واهتمامات معينة في شروط ثقافية واجتماعية ما.وإذا كان أيضا التمكن من هذه الأدوات، هو بحد ذاته محاولة لإعادة منظورنا للواقع وفق رؤية سردية وتخيلية ما،فالسرد السينمائي يكون من حقه آنئذ تحقيق أفق أخلاقي جديد بعلاقات وقيم مخالفة.وعندما تكون المرأة محور هذه العملية الإبداعية، بدءا من موضوع الفيلم،مرورا بطريقة المعالجة الفيلمية، ووصولا إلى كيفية إنهاء الصراع الدرامي الذي يروم إثارة الأفكار والأحاسيس ،فإن الحق في إنتاج خطاب سينمائي من منظور نسائي، يصبح منطلقا من وملتصقا بقضية المرأة، ليمسي وجها من أوجه التعبير والتحرر.منطلقنا الأساس، أن أية صورة عن المرأة ،وعن الفيلم الذي نطلق عليه "الفيلم النسائي" ما هو سوى نتيجة تصورات ومواقف تتبنى وتنبني انطلاقا من أحكامنا ومشاعرنا تجاه ما هو نسائي باعتباره مخالفا وليس بالضرورة،متخلفا عما هو ذكورى،ومتماشيا مع أنماط وعينا وإدراكنا لما يجب أن يكون عليه النساء، وبالصور التي تنتجها مخيلتنا عنهن من خلال البنى الثقافية،والمؤسسات الاجتماعية والتربوية. عوامل أساسية في تحديد صورة المرأة إن إشكالية الحديث عن الفيلم النسائي ،وقد تكون هناك بعض الاعتراضات على هذا التصنيف ،باعتباره تكريسا لأدوار اجتماعية ما، وأحكام جاهزة ، يصب في خضم نقاش واسع حول بعض القضايا التي قد تسعفنا في ملامسة بعضها : 1 ـ دفع كل الإسقاطات المسبقة عن المرأة ،ككائن جنسي ليست له قدرات فنية أو فكرية. 2 ـ دحض كل الادعاءات التمييزية بين المرأة والرجل كجنس ، والتي حسبها، لا بد وأن تتضمن فروقا في سبل وطرق المعالجة الفنية لما يعرف باللغة السينمائية. 3 ـ رفض المواقف التي تسهل عملية الربط الميكانيكي والتبسيطي بين الذات البيولوجية، والذات المبدعة، والتي تنقل من خلالها الاعتقادات الاجتماعية من مجال الأسرة والبيت، إلى مجال التعبير الفني. 4 ـ التشبث بالحق في تسخير كل الوسائل الفنية والتكنولوجية من أجل طرح معالجة نسائية، تعيد النظر في مسوغات مجتمعية وفكرية تجاه مسلمات تتشرب من خلال التنشئة الاجتماعية وموازين القوى ،وكل الامتيازات الممنوحة حسب الجنس وليس الكفاءة. لابد من الإقرار،أن اختراق المرأة للمجال السينمائي تمثيلا، كتابة وإخراجا،هو في حد ذاته تحديا ضد سلطة وأحقية إنتاج صور ومفاهيم ما ،عن علاقات اجتماعية وثقافية من منظور ما.القضية في تقديري ذات بعدين. البعد الأول يتعلق أساسا: ـ بمن، أي الأشخاص أو الجهة ،كانت مؤسسة أو فئة ،التي تقوم بصياغة هذه الصور. ـ ووفق أية معايير فنية وتقنية. ـ و بالنظر لأية مرجعيات ثقافية وفكرية ،واجتماعية. وقد نلمس ذلك من خلال نماذج لصورة المرأة كما يتداولها الأدب الشعبي أو الحكاية،و الإعلام عموما كما تروج لها كبريات الشركات السينمائية عربية كانت أم أجنبية كهوليود، حيث نعاين صورة المرأة كأم ،وصورة المرأة المجنونة أو الشريرة كما في أفلام الرعب ،أو المرأة التي يجب أن تموت لإسعاد الآخرين. وبالتالي،فالاشتغال من أجل خلق فيلموغرافيا نسائية محورها قضية المرأة ببعض تجلياتها وتداخلاتها،هو مطلب إبداعي مشروع ، يستمد مشروعيته من الحق في المشاركة والتعبير في المجالين الثقافي والسياسي على حد سواء. أما البعد الثاني ،فهو مرتبط بكيفية إنتاج وترويج واستهلاك صورة المرأة،ولما لا صور عن المرأة من خلال وجهة نظر ذكورية تستند في إعداد القصة والمنظور، لمقولات معلبة.صور تعزز النظام الثقافي السائد بأدواره ونمطيته،والتي غالبا ما يراد لها ملء فراغ معين،أو تكريس معايير في الحكم على أدوار المرأة وهمومها. التمييز بين التأسيس والتكريس هنا لابد من التمييز بين أمور ثلاث . ـ أولا، التمييزبين ما يمكن أن ينتجه مخرجون رجال عن المرأة،كفيلم "نساء ونساء" و"محاكمة امرأة" ،و"مصير امرأة"وفيلم "قصة وردة" ،وبين أفلام أو سيناريوهات تكتبها وتخرجها النساء بنفسهن، وعنهن.وما يلاحظ على هذه الأفلام، أنها ظلت في مجملها مرتبطة بالمحور الكلاسيكي حول بيت الزوجية،وتداعيات الخروج عن قانون الأحوال الشخصية، أو ما له ارتباط بالخيانة و الحضانة، أو الطبخ والموضة. ـ ثانيا،التمييز بين عملية التمثيل représentation التي تنطلق من موقع الرجل ومن نرجسيته في إدراك العالم ،وبين إعادة الإنتاج reproduction للنماذج السائدة داخل الوسط الاجتماعي برموزه ودلالاته. ـ ثالثا، التمييز بين العمل مع فريق نسائي في المجال السينمائي من ممثلات وكاتبات، وصحفيات للدفاع عن المرأة ،وبين التأسيس لخطاب سينمائي حول المرأة من منظور نسائي قائم بذاته، وفق رؤية شمولية مستقلة، تحمل تصورا عن امرأة مغايرة يعاكس السائد ولا يركن له. أفلام العديد من المخرجات العربيات من المغرب العربي،ومن مصر ولبنان وإيران، تأتي في صميم هذه القضايا السالفة الذكر لتثير الاهتمام،أو السؤال عن مظاهر الحيف المسلط على النساء،وبالتالي، تبرز هذه الأفلام، كمحطات أساسية في طريق خلخلة النظام البطريركي،وكذا التشكيك في قيم الفحولة الخالصة التي كرست إطارا محددا تتحرك في حدوده امرأة اختير لها التحرك وفق أدوار نسائية مصكوكة.وهذا ما دفع ببعض المخرجين لتقديم قوالب نسائية ظلت في معظمها بمثابة مرآة عاكسة للعقليات التقليدية .فهن إما عازبات يبحثن عن عريس،أو زوجات وربات بيوت،أو عوانس يخفين مرارة العنوسة،أو أرامل ومطلقات مرشحات للزواج مجددا.وهنا تقترح بعض الدراسات وخصوصا في الغرب،على المرأة المخرجة،أن تعمل على إنتاج سينما مضادة أي العمل على كسر الطابوهات،مع هز النظرة السكونية للواقع،ومحاولة تجاوزه لأنه منبت المؤسسات والأفكار،وذلك بجرأة في تقديم نماذج بديلة، تعيد للأشياء توازنها لكن من منظور مخالف. ماذا عن الحساسية الجديدة في الفيلم النسائي؟ من الصعوبة بمكان، الحديث عن حساسية جديدة في الفيلم النسائي إذ يعتبر ذلك في رأيي، مشروعا غير مكتمل المعالم،لم تؤسسه بعد تراكمات نوعية يمكن بتضافر جهودها وإنتاجاتها ،أن تشكل تيارا أو مدرسة تفرض نفسها على ساحة الإبداع السينمائي.إن الأمر لا يتجاوز بعض التجارب الفردية والمتفرقة على مجموع العالم العربي.وبالرغم من ظهور بعض الإرهاصات الأولية التي باتت تمتلك من الوسائل الفنية، ومن الوعي الاجتماعي ما يسمح لها بأن تحمل منظورا نسائيا يمكن أن يتبنى قضية المرأة على مستوى الإبداع السينمائي كرافعة ثقافية ذات تأثير فعال على حركية المجتمع المدني،وفي ذهنية الرجل بالخصوص ،فلا يمكننا الحديث عن خصائص ثابتة أو محددة لما يمكن أن نسميه ب "الفيلم النسائي".إلا أنه لما نكون بصدد التفكير عن نوع من الحساسية الجديدة في الفيلم النسائي ،فلا بد أن نثير مجموعة من المظاهر،التي باتت تشكل فحوى وطرق تعبيرها ومضامينها. إن الحديث عن هذه الحساسية الجديدة التي أصبح يتميز بها الفيلم النسائي، تأخذ في عموميتها طابع التحليل الموضوعاتي للقضايا المطروحة والمصورة لدور النساء كما شاءت لها القوالب الاجتماعية القائمة أن تكون ،وكما تمثلها الأمهات والجدات كحلقة ،يمرر من خلالهن الإرث الثقافي، والنمط الاجتماعي.فهي ذو حس فني متميز، وحساسية تجاه أشكال الوجود المهين،وتبتغي في نهاية المطاف، إثارة الإحساس من أجل التحسيس بقضاياها.وفي خضم هذه العراك,تظهر حساسية جديدة في الفيلم النسائي بعد أن أخذت المرأة على عاتقها صياغة القصة،وتصوير المشاهد، لتنتقل بذلك من موضوع للتصوير، لسلطة تمارس الإخراج، بما يتضمنه ذلك من رؤية للعالم، ولبنية الأشياء.من هنا، جاءت هذه الأفلام لتسلط الضوء على مناطق محظورة أو ممنوعة ،أو أنها ظلت لردح من الزمن ،حكرا على الرجل كالحرية في العمل، وفي اختيار شريك الحياة، ورفض الأدوار التقليدية، والكشف عن الخروقات والتجاوزات التي يتعرض لها النساء عموما، فيما له علاقة بالحقوق المدنية والسياسية مثلا. بالتالي، هناك نوع من التناول الجريء لأفكار ومظاهر هبت مع مناخ الحريات السائد، وتراجع الرقابة نوعا ما، عن بعض الخطوط الحمراء التي ظلت مكبلة لحرية الخيال والإبداع.وفي هذا السياق، يمكن أن نذكر فيلم نرجس النجار "العيون الجافة "والذي استطاع بجرأة غير معهودة، أن يتناول قضية الدعارة ،وأشكال التهميش التي يعاني منها النساء في منطقة من مناطق الأطلس المغربي باعتبارهن بائعات هوى، أو سلع للتفريغ الجنسي ليس أكثر. وعلى ذكر هذه الطابوهات والإكراهات الموجهة ضد المرأة ككائن إنساني، يحضر الجسد ليس باعتباره منطقة للتلذذ الذكوري، وسلعة في سوق نخاسة جديد، ولكن كمجاز لنظام اجتماعي، يروم التحرر من قيود شروطه الاقتصادية والنفسية. ملامح من خطاب الفيلم النسائي إذا أخذنا الإبداع السينمائي كممارسة شبقية من منظور فرويدي،دون التمييز بين الذكر والأنثى، على اعتبار أن الفيلم هو تصعيد لواقع القمع والكبت،فإن هذه الحساسية الفنية في الفيلم النسائي عموما، قد تصبح القناة الأمثل للعديد من الفنانات لانتزاع الحق في رد الاعتبار للمرأة ككائن مسؤول وحر.وهناك من تعامل مع المنتوج الفيلمي كخلفية لاشعورية تتناول المرأة كموضوع للرغبة أو للإثارة الشهوانية فقط.وإذا كان الإخراج السينمائي هو أصدق أشكال التعبير عن ممارسة الحرية لنقل هواجس وحاجات الذات المبدعة،فإن هذه الحساسية الجديدة تعي هذا الدور تماما، وتحاول بالتالي، الاستفادة منه إلى أبعد الحدود،وذلك بجعل المرأة ومعاناتها في بؤرة الضوء، إذ تسند لها البطولة في لعب أدوار تستأثر باهتمام المشاهدين لتكون ناطقة باسم شريحة واسعة من النساء، بحيث تؤثر في مجريات الحكاية، وتحظى بتأييد الجمهور لتصير حاملة لقضايا عادلة.لذا نلاحظ كيف تصر النساء المضطلعات بهذه الأدوار، أن يصورن بإصرار وعزيمة،وإن لم يكن ذلك غالبا، وبنجاح من ناحية التمثيل،فعلى الأقل من حيث التمثل لرمزية هذه الأدوار، وما تريد أن تفضحه. الحق في العمل،وفي الإشباع العاطفي والجنسي، المشاركة في القرار والتدبير،إعادة توزيع الأدوار كل هذه وغيرها، قضايا لابد وأن يثيرها الفيلم النسائي من منظور مغاير، يحضر فيه الآخر ـ الرجل ـ كمعادل موضوعي،ويكون بالتالي ، طرفا في معادلة يخضع توازنها وبقاؤها لسلطته المادية و الرمزية.وعندما ننظر لبعض المعالجات النسائية التي اهتمت بموضوع المرأة، الذي يظل قضية المجتمع برمته،ككائن مرهف الإحساس،وقوي الحس كما تجلى ذلك من خلال بعض النماذج الفيلمية التي أخرجتها مخرجات نساء كالفيلم التلفزيوني "الدويبة" لفاطمة بوبكدي ،وفيلم "كيد النساء" أو "باب السماء مفتوح" و"النية تغلب "لفريدة بليزيد وأخريات،فإننا نلاحظ أن هذه المعالجات حاولت أن تصور المرأة عكس ما تراه العين والذهنية التقليدية،أو من خلال تقابلات بين نموذجين واحد محافظ تقليدي، والآخر متحرر ومعاصر، حيت أظهرت ككائن ذكي ومتفطن،دائم البحث عن الحقيقة،وغير مقصر في ذلك.وهنا تبرز علاقة الجمهور ومرجعياته التقييمية في درجات الميل لإصدار أحكامه من خلال الأفكار والمشاعر التي تكونت لديه بواسطة نوعية الأفلام الرديئة والاستهلاكية، والتي تقف حاجزا أمام محاولة عزله عنها أو تغييرها. هل هناك لغة سينمائية رجالية وأخرى نسائية؟ إلا أننا ومقابل هذا الجانب الموضوعاتي في طرح القضايا ومعالجتها فنيا وثقافيا،نتساءل عن حجم هذه المعالجة الفنية وتمكنها من الخطاب الفيلمي وبعض مكوناته،وهو ما يدفعنا لإثارة بعض الأسئلة بخصوص إمكانية اختلاف اللغة السينمائية بين الجنسين. المعالجة الفيلمية هي البؤرة الأولية لطرح قضايا مرتبطة بالنساء .فالفيلم النسائي ليس منتوجا تكتبه وتسهر عليه المرأة فقط،ولكنه فوق هذا، منتوجا يحمل بصمات المرأة كذات فردية، وككائن اجتماعي يحاول أن يرى العالم من زواياه، ومن منطلقات قد تتقاطع مع الرجل أو تتناقض معه.ويلاحظ ذلك بدءا من فكرة الفيلم أو موضوعه،ثم سبل صياغة السيناريو وفق بناء وتصور محددين حول مكانة المرأة من خلال نماذج حياتية تعكس إنشغالاتها وتفاصيلها،ثم كيفية خلق وتشكيل تقابلات وتوازنات بين منظور ذكوري متسلط ،كنموذج أبوي ما،أو علاقة زوجية ما، ومنظور نسائي يحمل علاقات أخرى تكون فيها المرأة كائنا له مكانته وإمكانياته، كائنا مستقلا وليس تابعا.قلت أن المنطلق الأساس في المعالجة الفكرية يسبق المرامي الفنية لأنها تمثل كيفية تصور المرأة المخرجة للعمل الفيلمي بشتى أبعاده،وما تحمله من أفكار ومعتقدات عن سلوكيات، وثقافة مجتمعها.لذا، فإن بناء السرد الفيلمي ونسج الحكاية،والتصوير والمونتاج والإخراج كلها تمظهرات بعدية تأتي لتعكس وعي المرأة الفني والجمالي،ولا يسمح بشكل من الأشكال أن يلغي طرف ما الطرف الآخر. إن الكاميرا ليس لها جنس،فهي أداة تعبيرية محايدة كآلة تقنية.إلا أنها قد تتحول، إذا ما وظفت في خضم الصراع الاجتماعي و السياسي إلى أداة أيديولوجية بامتياز، تحدد خلفية النظر للمرأة كموضوع تابع وليس برجل،من خلال التلصص والتلذذ. وقد يبرز ذلك في الكيفية التي يعالج بها الفيلم النسائي، مقابل الفيلم الرجالي، موضوعاته ‘اعتمادا على التوجهات القيمية التي سيطعم بها عمله كخطاب فكري.كما ستأتي المكونات التقنية الأخرى والجمالية في طرق التصوير، واختيار الزوايا والمسافات، وسلم اللقطات،وكذا حجم وكثافة الأضواء،ومصداقية الأداء حسب معمارية مكانية ووتيرة زمنية لتعاضد الطرح الفكري ،وتثير المشاهد حتى تجره للتضامن مع الرؤية النسائية للكاتبة والمخرجة. ولعل نجاح هذا الفيلم أو ذاك، لا يتوقف على ثورية الشعارات التي قد يحملها ولا يتحملها الحوار،أو من خلال خلق بطلات نموذجية لا تمت للواقع بصلة، حيث تبرز كشخصيات لا وجود لها إلا في ذهن المخرجة،أو أنها نماذج نسائية تحاول أن تكون ترجمة حرفية لخطاب نسائي نظري يفتقد لسخونة التفاصيل الحياتية، والتي إن جمعت ونسجت بمهنية مبدعة، ستشكل لحمة من الحقيقة التي تصبو المخرجة إلى إبلاغها وتصويرها.هنا سيكون أمام المخرجة وكاتبة السيناريو أن لا تقودا المشاهد كرها لتبني رسالة الفيلم من خلال التعاطف وإثارة الشفقة،ولكن من خلال الاستنتاجين المنطقي والذهني.وندرك حق الإدراك ما يتطلب ذلك من جانب المشاهد الذكر من جهد نفسي وثقافي لإعادة النظر في مواقفه ومسلماته التي تشكل هويته الجنسية واللاشعورية. أمام هذا الاختيار الصعب والوجودي،يبرز التحدي القائم أمام المرأة، كاتبة كانت أو مخرجة،باعتباره تحديا مزدوجا.فهو من جهة،يأخذ على عاتقه طرح قضايا مسكوت عنها لما تتطلبه من جرأة في التفكير والمعالجة،وهذا أصعب من تكريس ما هو سائد حفاظا على الستاتيكو.ومن جهة ثانية،يتطلب تضافر الجهد والاجتهاد من أجل بلورة توجه سينمائي يحمل على عاتقه قضية المرأة دون الإخلال بالمرتكزات الفنية والجمالية.هذا مع عدم الخضوع لإغراءات التمويلات أو الإملاءات الأجنبية التي قد تفرض إكليشيهات تحول هذا النوع من الأفلام، إلى أدوات تعبيرية تشجع على استهلاك مضامين ونزعات غاية إما في السلبية أو في الإغترابية. وبالتالي، فقد يشكل هذا التوجه في شروط إنتاج وتداول هذه الحساسية الجديدة تحديا إضافيا من حيث كيفية استقبال وتأويل رموزها ورؤاها.فهو إما يسقط نفسه في شباك التغريب والدعاية المجانية لنوعية من الخطابات النرجسية حول الذات النسائية، باعتبار الحق في الاختلاف والتحرر شيء،والسقوط في الإباحية شيء آخر.وهنا مرتع الخلاف حول حدود هذا الحق وكيفية ممارسته في مجال الإبداع السينمائي.وهذا ربما يفقده العديد من المساندين والمشاهدين ،مما يحكم عليه بالتقوقع داخل مهرجانات مناسباتية،أو صالونات نخبوية،أو بالمقابل يدفعه للتنازل عن بعض الحقوق الفنية، حين يخضع لمقص الرقابة الإدارية أو الأخلاقية. ملاحظات تقييمية إلا أننا قد نآخذ على هذه النماذج التعبيرية في الفيلم النسائي بعض المآخذ مثل كونها: ـ قد تعاني من ضعف البنية الحكائية للقصة التي تتخذ من المرأة موضوعا لها ومبررا لثغراتها السردية، مكتفية باللعب على المشاعر لكسب العطف والمساندة وهذا ما يسقطها في تلك الميلودرامية البكائية كما يتجلى من خلال بعض الأفلام العربية. ـ حضور وهيمنة ما هو مرتبط بالموضوع، على حساب الخاصيات الجمالية والفنية في الأداء الدرامي والفني. ـ ارتباطها ببعض القضايا الاجتماعية المعروفة والمستهلكة، مما يبقيها حبيسة نماذج سلوكية وثقافية كلاسيكية، دون تمكينها من تجاوز ذلك لما هو سياسي وثقافي. ـ إصرارها على إعطاء أدوار بطولية للنساء،وكأنها تنتقم لدور المرأة المغيب واقعيا لتصلحه فنيا,أو وكأنها بذلك تستعيد توازن المجتمع، وتعيد ترتيب بنية فكرية وثقافية متوخاة.وذلك يتوقف على دور الفن وقدرته على التأثير في الواقع،على اعتبار أن السينما كفن لا تغير الواقع ولكن تغير وجهة نظرنا تجاهه. بشكل إجمالي،يمكن القول أن المعالم الكبرى لهذه الحساسية تتضمن مجموعة من النقط يمكن إيجازها فيما يلي: ـ ارتهان هذا التوجه الجديد إلى لغة سينمائية متميزة تخاطب الجمالي والفني ،ولا تبقى مقيدة بالمضمون الإنشائي لفكرة الفيلم ،مما يسمو بها جماليا ويجعلها تتجاوز التوثيقي والواقعي. ـ نزوعها نحو تحرير السرد الفيلمي من سطوة الأذن ،وإعطاء العين أهمية بالغة، مانحة بذلك للمشاهد فرصة التموقع والمشاركة الإيجابية . ـ إيمانها بالتطرق لمواضيع حساسة تتطلب جرأة ومخاطرة. ـ تحررها من الخطاب الأيديولوجي المخضب بالذات الجمعية، وفسح المجال للاحتفاء بالذات الفردية باعتبارها ذاتا تتوق لممارسة حقها في الحياة وفي الحرية.
*هذا نص مداخلة في ندوة تحت عنوان "الحساسية الجديدة في الفيلم النسائي" والمنظم من طرف مهرجان أزرو السينمائي للفيلم القصير بالمغرب.
موقع "كلاكيت" في 30 ديسمبر 2005 |
«ماء» تحفة سينمائية هندية جريئة أرامل حزينات وحب محرّم على ضفة نهر «الغانج» كتب إسماعيل حيدر: لم يكن اختيار »ماء« فيلم الافتتاح لعروض شبه القارة الهندية، سوى تحية حب من اللجنة المنظمة لمهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته الثانية. وهي جاءت أيضاً بعد تقدير آخر من مهرجان تورنتو السينمائي في دورته الثلاثين التي أقيمت في شهر سبتمبر الماضي. فهذا الفيلم البديع الذي تعرض خلال الإعداد له في الهند عام 2000، للعديد من العثرات والحملات المناهضة من قبل الجماعات الهندوسية الأصولية، ظهر إلى النور في العام 2005، بعد جهود متميزة قامت بها المخرجة ديبا ميهتا، حيث تمكنت مع فريق جديد من الممثلين والتقنيين وفي مقدمتهم المنتج دايفيد هاميلتون والممثلان جون إبراهام وليزا راي، والطفلة المعجزة سارلا ابنة الثماني سنوات، من تصوير مشاهد الفيلم في سيريلانكا، لكن باسم مستعار هو »full moon« أي القمر المكتمل »ماء« تحفة سينمائية بامتياز، وهو رغم التراجيديا المؤلمة التي تتوالى في أحداثه، غير أنه يشعر المشاهد بالامتلاء الروحي إلى أقصاه، لعمق فكرته، وجرأة طرحه لقضية حساسة في المجتمع الهندي، بل في صلب الديانة الهندوسية، تعتبر الأرامل حاملات لخطايا موت أزواجهن، ما يجعلهن نصف أموات أو غير جديرات بالحياة الطبيعية، وبالتالي عليهن إكمال سنوات أعمارهن في مأوى متواضع للأرامل يقام قريباً من نهر الغانج الملحمي المقدس لدى الهندوس، هناك حيث يلقى برماد جثث أزواجهن في الماء. وكان طبيعياً أن تمتلئ قاعة »ارينا« الفسيحة في مدينة جميرا مساء أول من أمس، برواد من جنسيات مختلفة، وطغى على المكان الحضور الهندي الارستقراطي، وكان بين الحضور مخرجة الفيلم ديبا ميهتا وجمع من الفنانين. هذا الحشد الذي غصت به القاعة، كان كافياً لتكوين فكرة مسبقة اننا أمام فيلم غير عادي. فيلم لم تألف السينما الهندية إنتاج مثيل له إلا في ما ندر. ولا ندري ما إذا كان الإنتاج الكندي هو ما جعل الأمر يخرج عن السياق الكلاسيكي المعهود للسينما الهندية التي غالباً ما تحمل إلى المشاهدين أفكاراً تراجيدية وبوليسية مكررة وسطحية. كنا في أمسية »ماء« مبللين حقاً، حيث اندمجت القاعة كلها، بينما العيون كانت مسمرة نحو الشاشة، حوالي الساعتين من الوقت، وهي تتابع المشهد تلو الآخر. تبدأ الحكاية في العام 1938، بينما كان الاحتلال الانجليزي يجثم على الأرض الهندية الشاسعة، الغارقة في التقاليد الصارمة المكرسة دينياً .. تقاليد متوارثة من عمر الزمن، حيث الزواج مباح منذ الطفولة. وكان المجتمع الهندي في ذلك الحين منقسماً بين أغنياء مترفين وفقراء معدمين .. بينما المهاتما غاندي الذي كان يقود حركة سلمية لإخراج الإنجليز من بلاده، يقبع في سجنه. وليس بعيداً عن مأوى الأرامل الحزينات، يلتمع على الضفة الأخرى قصر لأحد الأثرياء، يرسو بالقرب منه بين الحين والآخر، مركب صغير تستخدمه »غولابي« وهي امرأة قاسية الملامح تجلب نساء من المأوى ليقدمن المتعة للرجل الغني، رغم إقامة زوجته وابنيه الشابين اللذين تخرج أحدهما من لندن ويدعى »نارايان«، يلعب دوره الممثل جون ابراهام. يقوم الفيلم على خمس شخصيات رئيسية، تلعب الطفلة سارالا التي تجسّد شخصية الأرملة الصغيرة »شويا«، دوراً محورياً في الفيلم، بحضورها اللافت وأدائها الآسر. بينما يقوم جون ابراهام بدور »نارايان« الجامعي والمثقف والثري الذي يلتقي صدفة »كالياني« التي تلعب شخصيتها العارضة الممثلة ليزا واي، وهي الأرملة الشابة الساحرة بجمالها وهدوئها، وتدور بين »نارايان« و»كالياني« قصة حب مرتبكة ومعقّدة، حيث التقاليد الهندوسية تحظر على الأرامل الحب والزواج، وترغمهن على تمضية العمر في المأوى. وإلى هؤلاء هناك »شاكونتالا« التي تلعب دورها الممثلة سيما بيسواسي وهي امرأة غامضة هادئة الطباع وتحترم التعاليم الهندوسية. أما مادهوماتي، فهي الحاكمة في المأوى وفقاً لإرادة »الاله كريشنا« فهي تمثّل دور المرأة التي تطبق التعاليم وفقاً لأهوائها، فهي صارمة في منع الأرامل من مغادرة المأوى التزاما بالتقاليد والتعاليم الدينية، بينما تسهّل خروج الجميلات من الأرامل اللواتي يطلبهن الزبائن للمتعة. تدور المشاهد في فضاءات محددة، مراكب تعبر نهر الغانج من ضفة إلى أخرى، مأوى الأرامل، وقريباً منه قصر الثري، وضمن هذه المساحات كانت الكاميرا تلتقط المشاهد ببراعة، لكأننا أمام لوحات تنطق شعراً، بينما كانت النساء تغتسلن للتطهّر من الخطايا، كان الرجال يقومون بالفعل ذاته »ايمانا« بقدرة مياه النهر المقدسي على تحقيق أمنياتهم لدى الاله كريشنا. ثلاثة أجيال من الأرامل، بينهن من تشارف على نهاية العمر وهي تحلم بطعم الحلوى التي لم تذقها منذ الطفولة. وواحدة تتمتع بالجمال لكنها لا تحسن سوى الركون إلى قدرها، صارت أرملة، وليس لديها سوى الاله كريشنا تتضرع إليه، أما الطفلة »شويا«، فقد كانت صديقة الجميع ما عدا رئيسة المأوى، التي كانت عرضة لشتائمها كلما قامت بتصرف خاطئ مع احدى نزيلات المأوى. وكانت أيضاً ساعي البريد بين العاشقين كالياني ونارايان. في الفيلم، يحضر الماء كثيراً، من مشاهد الاغتسال في المأوى، إلي التطهّر في »الغانج«. ومثلما يحضر الماء تحضر النار، ليكونا متجاورين قرب النهر المقدس. والحزن يخيّم أيضاً في معظم المشاهد من وجوه الأرامل العجائز الحزينات، إلى النهاية المؤلمة للعاشقة كالياني التي تنهي حياتها غرقاً في النهر، بعد اكتشافها وهي برفقة حبيبها »نارايان«، انها مارست البغاء مع والده. وصولاً إلى علامات الخوف والألم على وجه »شاكونتالا«، حين تهرع للبحث للبحث عن الطفلة »شويا« لتجد أنها كانت ضحية أخرى للثري والد »نارايان«. في هذا الوقت يخرج غاندي طليقا، ويلتقي بأنصاره ومحبيه. ويدعوهم بكلمات مقتضبة إلى العيش بسلام وحرية وعدالة، ونبذ التقاليد البالية، وحين غادر غاندي بالقطار إلى مدينة أخرى، كان »ناريان« الذي رفض حياة أسرته وسلوك أبيه، وآمن بأفكار غاندي.. وكانت »شويا« بين يدي »شاكونتالا« التي سارعت باتجاه »نارايان« صارخة بأعلى صوتها: خذها إلى غاندي لتعود إلى الحياة. وتتوقف الكاميرا عند وجه شاكونتالا، وهي تتأمل رحيل القطار، بينما ظهرت على الشاشة عبارة: 33 مليون أرملة هندية مازلن يعانين قسوة الوحدة حتى يومنا هذا«! البيان الإمارتية في 30 ديسمبر 2005 جيل من العراقيين لم يعرف الطريق الى السينما! بغداد – ماجد السامرائي منذ أكثر من عقد ونصف من السنوات و«صالات العرض السينمائي» في بغداد تعيش حال انحسار متصاعد، وصل في السنوات الاخيرة ذروته... اذ لم يعد من يرتاد هذه الصالات، ولا عادت الصالات نفسها «مغرية» بالمغامرة في ظروف معقدة، لأنها لم تعد تقدم جديداً من الافلام... الامر الذي يجعلنا امام «جيل جديد» من الشباب، والدارسين في الكليات والمعاهد الفنية، لا يعرف ما يكفي لتكوين «ثقافة سينمائية»، ولو في المستوى العام من خلال عملية المشاهدة... وذلك نتيجة لسبب واضح هو: ان»صالات العرض» اضحت بعيدة... عنه، او انه ابتعد عنها، بفعل ما يعيشه البلد من وضع غير طبيعي لم يعد يتيح لطالب الثقافة من وسائل الثقافة سوى «الكلمة المطبوعة» و«شاشات الفضائيات». لذلك حينما سأل استاذ السينما (وهو العائد الى بلده من غربة سنوات) طلبته في المرحلة الجامعية الاولى عن آخر فيلم شاهدوه، صمت الجميع امام السؤال، وبدت وجوههم متسائلة عما يعنيه الاستاذ تحديداً من سؤاله، وعن اية افلام يريدنا ان نتحدث؟ واين هي الافلام؟ بل أين يجرى عرضها؟ وكانت دهشتهم اكبر من حيرتهم لحظة طلب احدهم الكلام عن اول فيلم (وآخر فيلم) شاهده هذا العام يوم كان وعائلته في «رحلة صيف» الى احد بلدان الجوار العراقي، وأخذهم والده الى «دار السينما» – التي كان زميلهم، كما قال، يدخلها للمرة الاولى، وكذلك اخوته – فشاهد فيلماً راح يحدث استاذه عنه، مازجاً في حديثه بين كلام على «صالة العرض»، التي اعجب بتصميمها، والفيلم الذي رأى شخصياته على الشاشة بحجمها الطبيعي – هو الذي اعتاد ان يرى مثل هذه الشخصيات عبر شاشة التلفاز وكأنها «نماذج مصغرة» لبشر من لحم ودم... ولغة. ساعتها أدرك استاذ السينما «عمق الفجوة» بين طلابه وهذا «الفن» الذي جاؤوا يدرسونه، وقد حرم منه جيل كامل من العراقيين – «على أهميته في تنمية الذوق وبناء الشخصية في اكثر من جانب» – كما قال الاستاذ الذي استعاد ما كان له ولجيله من «صالات عرض» متميزة تنتشر في غير حي من احياء العاصمة، وان كانت منطقة «الباب الشرقي» والطرف الاقرب اليها من «شارع السعدون» تستأثر بالابرز منها والاكثر عدداً... وكيف كانوا – والجيل التالي على جيلهم – يتابعون كل جديد في ما تقدمه من افلام عالمية، ويديرون النقاش حول ما يشاهدون... بل كان الكتاب منهم كثيراً ما يتناولون هذه الافلام بالنقد والتحليل من خلال الصحافة... بل يذكر ايضاً ان اندفاعه الى السينما تخصصاً اكاديمياً جاء بفعل ما كان يسود حقبة الستينات والسبعينات من عروض وكتابات كانت تتناول الفيلم من جوانبه المختلفة، بما في ذلك جماليات التمثيل، والاخراج، والشخصيات السينمائية الكبيرة بأدوارها المميزة... جوّ ويذكر ايضاً، وهو يجد طلابه لا يعرفون ولو شيئاً يسيراً مما كان قد عرف هو وجيله يوم كانوا في اعمارهم، ان «الجو الثقافي – الاجتماعي» لمعظم دور العرض السينمائي هذه كان جواً تسوده «تقاليد المشاهدة»: من هدوء، وإصغاء، وتأمل، الى احترام وجود الآخرين، ممن يشغلون صالة العرض معه حتى ان النساء، من الفئات المثقفة، كثيراً ما كنّ يرتدن هذه العروض على شكل مجموعات... من دون حاجة الى مرافقة رجل. ويمضي الاستاذ العائد من غربته في مسار الاستذكار هذا... حتى اذا ما جاء الى الثمانينات من القرن الماضي وجد ان الطابع العام لعروض هذه الصالات قد اتخذ منحى آخر... وان «جمهور السينما» ذاته اخذ يتغير ويتبدل، اذ اصبحت «اجواء الحرب» مهيمنة على الواقع لتقف حائلاً بين الكثيرين وبين التواصل مع ما كانت تقدمه صالات العرض من افلام جيدة... كما غابت «العائلة العراقية» عنها غياباً كلياً... فضلاً عن ان «الجو العام» الذي ساد معظم صالات العرض هذه من خلال «مرتاديها» لم يعد كما كان «جواً ثقافياً». وينقطع به «حبل الذكريات»، هو الذي غادر العراق بداية التسعينات... ولكنه كان يعرف الكثير عما فعله «الحصار» ببلده، بشراً وثقافة وحياة انسانية... الا انه لم يكن يحسب ان يكون الوضع على هذه الحال بالنسبة لمؤسسات الثقافة، ووسائلها... ومنها السينما. الحياة اللبنانية في 30 ديسمبر 2005
|