شعار الموقع (Our Logo)

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

كتبوا في السينما

 

 

 

 

 

 

ثيمة غربية ساخنة برؤية شرقية

فاقد الصلاحية

للمخرج العراقي رسول الصغير

لاهاي ـ عدنان حسين أحمد

 

 

 

 

 

 

عودنا المخرجون العراقيون في بلدان اللجوء والهجرة علي تناول موضوعات لها علاقة مباشرة بحياة الجاليات العراقية أو العربية في المنافي، وما تعانيه من اشكالات، وانقسامات حادة بسبب طبيعة الحياة الجديدة، وما يرافقها من تغييرات ثقافية، واجتماعية، واقتصادية، ونفسية، غير أن المخرج المسرحي رسول الصغير قد باغتنا هذه المرة، وقفز الي الضفة الأخري لينقل لنا بأمانة المشاعر الحقيقية للمواطنين الأصليين في هولندا، ونظرتهم الي القادمين الجدد الذين اقتحموا حياتهم المترفة الهادئة، وأربكوا مزاجهم الرائق في أقل تقدير. فالنص المسرحي المعنون فاقد الصلاحية هو للكاتب الهولندي خِر تايس Ger Thijs وكالعادة، فالهولنديون لا يجدون حرجاً في اختراق التابوهات الثلاثة، ولعل الهاجس الجنسي، أو بالأحري، العلاقات المحرمة هي محور هام لا يمكن تفاديه في هذا النص تحديداً، لأن اهماله يعني اهمال ركن أساسي من أركان البنية الدرامية لهذا العمل المسرحي الجريء. فالعمل لا يحمل رؤية شرقية علي الاطلاق، بل هو رؤية غربية بحتة رصدت المتغيرات الاجتماعية والنفسية للكثير من المواطنين الهولنديين الذين اكتسحت مدنهم هجرات جماعية من شتي بلدان العالم. غير أن رسول الصغير لم يلتزم بالنص التزاماً حرفياً، وانما عالجه برؤية شرقية، وأضفي عليه بعض الرموز والدلالات، معمقاً من بعض اشاراته ومعانيه. فالأسرة التي اختارها المخرج كانت كلها من الأجانب. فالأب كان من أصول عراقية، أدي الدور الفنان أحمد شرجي، والأم مغربية، جسدت الدور الفنانة دنيا البركة، والبنت مغربية أيضاً، لعبت الدور الفنانة عليا بوشاه. بينما يكشف النص عن أناس هولنديين، يتحدرون من عائلة ارستقراطية، ويسكنون في حي مترف جله من الأطباء، والمهندسين، والتجار، بحيث تنساب الموسيقي الكلاسيكية الي سمع الناس الذين يمرون بين أزقة هذا الحي الذي بدأ يضج بالأتراك والمغاربة وسواهم من المهاجرين واللاجئين الذين يتناسلون يوماً بعد آخر . لم يبذل المخرج رسول الصغير أي جهد يُذكر لكي يُخرج المرأة الهولندية من عزلتها، فقد بدت وكأنها كائناً مستوحداً، لا تريد أن تغادر عشها بالمعني الباشلاري، فهي محتفية بأحلامها السرية، وقلقها الخاص الذي يتمحور حول الآخر أكثر من تمحوره علي زوجها المنلفت والمنغمس يومياً في البحث عن ملذاته الخاصة. واذا كان النص الأصلي يصور عزلة هذه المرأة الهولندية التي ضاقت ذرعاً باللاجئين الأجانب عن طريق تصوير أم تجلس علي كرسي لساعات طويلة أمام النافذة تتأمل الآخرين الطارئين علي الحياة الهولندية، فان رسول الصغير قد جعل منها أماً عراقية لا تختلف عن أية ربة بيت عربية منهمكة في العمل المنزلي الذي جسده من خلال غسيل الملابس الذي يحيط بها من الجهات الأربع، بل أن البنت جلبت لها ذات مرة ملابس نظيفة كانت معلقة علي حبل الغسيل لكي تجعل منها سجينة المنزل، وأسيرة لعمل لا معني له تقريباً. هل يريد رسول الصغير أن يوحي لنا بأن حياة الأثرياء الهولنديين فارغة، لا معني لها في ظل هذا الانزواء القاسي، والابتعاد الفج عن الحياة؟

خرق البنية النمطية

لا شك في أن كاتب النص خر تايس متمكن من فنه، ومحترف في الكتابة المسرحية، وتتجلي هذه القدرة من خلال تخليص الجملة من طابعها الأدبي، فالمفردة في حقل المسرح والسينما والتلفاز ينبغي أن تكون بصرية أكثر منها توصيفية، وهذا ما هو متحقق في هذا العمل المسرحي الذي قدمه رسول الصغير بقراءة أخري مغايرة ربما تكون قد أسعفته بعض الشيء لأن حيلته في عدم الاشتغال علي الديكور والمؤثرات السمعية والبصرية تكمن في هذه القراءة المختلفة التي قلبت الموازين كلها في ذهن المتلقي الذي كان يتوقع أن يري أشياءً مُبهرة في بيت أسرة هولندية ارستقراطية! لا أن يري امرأة تكشف عن فخذيها المحيطين بطست الغسيل وبضعة كراسٍ متناثرة هنا وهناك، وطاولة يتيمة، وبضعة كارتونات، وأكداس من الكتب، وحبل غسيل آخر بدلت البنت وظيفته لتعلق عليه صوراً لنجوم السينما وعارضات الأزياء. ان ما ساعد علي انجاح العمل في مكان يفتقر الي الشروط الفنية، هو القراءة الجديدة التي قدمها لنا المخرج رسول الصغير. فالمكان مجرد صالة كبيرة، مستطيلة، لا يمكن ترويضها بسهولة كي تكون منزلاً أو فيلا لأسرة ثرية. فالمتلقي لا يقتنع بهذا المكان ما لم يرتكن علي تصور آخر، هو بالضرورة رمزي، ومشحون بالدلالة. ولكي يخرج من النمط التقليدي للبيت، بكل موجوداته، فقد اتكأ علي شخصيات استثنائية، مستديرة ساعدت كثيراً في اقناع المشاهد، بل وشدته أكثر الي ثيمة العمل المسرحي. فالأب هو رجل ماجن، ومدمن علي تناول الكحول، وأكثر من ذلك فهو مدمن علي الخيانة الزوجية التي تعرفها زوجته، وله علاقات واسعة مع نساء أخريات، ولكن الشيء الصادم في هذا الأمر أنه علي علاقة جنسية بابنته، الشابة، المنحرفة، والمرتبطة بعلاقة جنسية مثلية مع صديقتها نيللي . هل يريد المؤلف أن يقول بأن المجتمع الهولندي المعاصر هو مجتمع منحل، ومتفكك الي هذه الدرجة بحيث يرتبط الأب بعلاقة جنسية محرمة مع ابنته الوحيدة؟ وهل يمكن تعميم هذه الظاهرة علي المجتمع الهولندي برمته؟ الجواب هو، كلا، بطبيعة الحال، ولكن مَنْ يكشف لنا المحجوب، والمقصي، والمسكوت عنه؟ ربما تكون معالجة رسول الصغير هي الانعطافة الأجمل في العمل المسرحي، فهو لم يقدم لنا عملية السفاح بالمحارم بشكل واقعي صادم، وانما استعاض عنها بالرمز. صحيح أن البنت قبلت والدها وهو نائم، أو غافٍ علي الأصح، لكن المخرج أبقي الفكرة ككابوس في اللاوعي، بينما لو تركنا الأمر لمخرج هولندي لقدم لنا مشهد الاغتصاب أو المواقعة الجنسية من دون رتوش! ان اجبار الفتاة علي تناول الطعام بهذه الطريقة الفظة، ودس وجهها في اناء اللبن هو اغتصاب رمزي، ومعنوي أيضاً. الزوجة كانت مثالاً غريباً في الصبر وتحمل ما لا يُطاق. فهل من المعقول أن تقبل المرأة بخيانة زوجها من أجل أن توحي للآخرين بأن عائلتها مترابطة ومنسجمة؟ أراد المخرج أن يمعن في الاشارة الي تفكك العائلة الهولندية، فقدم لنا الأب الذي يعرف بعلاقة بنته المثلية مع صديقتها نيللي، ولكنه أبقي علي هذا الخبر كوسيلة للتهديد اذا ما أفضت البنت لأمها بسر من أسرارها الكثيرة. هذا الاضطراب الذي تكشف عنه المسرحية في الحياة الأسرية للهولنديين هو حقيقة دامغة بالنسبة للمؤلف، وهو موضوع ثر، وشائك، ومثير بالنسبة للمخرج العراقي رسول الصغير الذي خطف الأضواء في هذا العمل علي وجه التحديد.

جمالية الأداء الفني

لابد من الاشادة بالحضور القوي للفنان احمد شرجي في أغلب الأعمال الفنية التي قدمها للمسرح والتلفاز. وقد تألق في هذا العمل المسرحي الذي قُدِم بالهولندية، وهذه هي التجربة الأولي التي يخوضها أحمد باللغة الهولندية. ولكي نكون منصفين، فحتي لكنته كانت مقبولة، ولغته كانت مفهومة لدرجة أن الهولنديين كانوا مندغمين مع الدور، ومتفاعلين مع ما يقوله. سخرية أحمد كانت سوداء فعلاً، وحضوره كان خفيفاً، وجميلاً، وأخاذاً في العديد من المواقف. الأم دنيا البركة كانت جذابة هي الأخري، وقد أدت دورها باسترخاء تام، وبالذات حينما تحاول أن تخدعنا جميعاً بأنها لا تعرف بخيانات زوجها المتعددة، وهي تعرف بيقين لا يخالطه الشك أنه يخونها، وحينما يعود زوجها من رحلة النزوات اليومية التي لا تنتهي تتوسله زوجته أن يغير من نمط حياته، لكنه يعلق سلسلة أخطائه علي شماعة الأجانب الذين يسكنون الحي الارستقراطي، هؤلاء الطارئين، المؤرقين الذين تخافهم الزوجة، وبسببهم انزوت الي صدفة عزلتها راضية بكل الخسائر التي تتكبدها يومياً. هكذا تتواصل الحكاية بحيث تتكشف أسس العلاقة بين الأب الثمل، الباحث عن الملذات، الخائن لزوجته، والمُنتهك للمحرمات، والبنت المنحلة، والأم المنزوية في بيتها والخائفة من كل شيء. هكذا تنتهي المسرحية بمثل ما ابتدأت به وكأن كل ما أُفتُضح لم يفتضح!

القدس العربي في 26 نوفمبر 2004