شعار الموقع (Our Logo)

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

كتبوا في السينما

 

 

 

 

 

 

نظرة في السينما المصرية

يوخنا دانيال

 

 

 

 

 

 

 

لو حاولنا وضع خارطة للتوطن والانتشار السينمائي في العالم في القرن العشرين، سنجد ان مصر واحدة من دول قلائل في العالم، نما فيها الإنتاج السينمائي وتطور ليغطي جمهوراً عربياً عريضاً من المحيط الى الخليج، وبدون مبالغة فانه في قارتي آسيا وأفريقيا لم يبرز سوى اسمان كبيران في الفن السينمائي؛ هما الهند ومصر -  خصوصا الى ما بعد منتصف القرن العشرين. ان كمية ونوعية الأفلام التي أنتجت في مصر تمثل كنـزا فنيا حقيقيا، بغض النظر عن تقييمنا النقدي لهذا الإنتاج، لذا يبدو من العبث إصدار الأحكام القاطعة السلبية بحق هذا الكم الضخم من الأفلام، الى حد تسفيهها او رفضها سياسيا او اجتماعيا او دينيا. واذا كانت الشعوب  والدول حريصة على تراثها الفكري وآثارها القديمة، فان رقائق وأشرطة الفن السينمائي لا تقل أهميتها بمرور الوقت بل تزداد، لانها تتحول الى نوع من التراث القومي الخاص.

لقد استطاعت السينما المصرية ان تتحول الى سينما عربية بمعنى الكلمة - بالرغم من قصورها ونقائصها الكثيرة - خصوصا في فترة المد القومي العربي بعد منتصف القرن العشرين، وفي نفس الوقت أصبحت مصر (سينمائياً)، ونقصد؛ الحارة، الريف، القاهرة، الإسكندرية : ملتقىً – خياليا وحُلميا -  لكل الناس في العالم العربي. وبهذا، فهي تحمل في طياتـها حجماً هائلاً من الذكريات الحميمة او العواطف والأحلام والطموحات، بالإضافة الى المعرفة الممتعة.

وهنا لا بد من التذكير ببعض الشروط السياسية والاقتصادية التي نمت وترعرعت السينما المصرية في ظلها. لقد ارتبط الظهور المبكر للفن السينمائي في مصر بالمحاولات الرأسمالية الوطنية المبكرة، حتى وصل الى اعلى درجات نضجه مع الاقتصادي القدير "طلعت حرب"، وتأسيس استديو مصر وما رافقه من حركة سينمائية نشيطة. وهذا يمكن اعتباره نتاجا او تعبيراً عن الدولة المصرية الأقدم في نشوئها بين الدول العربية. هذا النتاج السينمائي يكرِّس هذه الدولة ككيان سياسي محدد، متكامل اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا. هكذا كان الحال في فترة ما بين الحربين في كل العالم تقريبا, كل سينما محلية او وطنية تستمد قوتها ومشروعيتها من دولتها السياسية، ولا تطمح  إلا ان تعبر عن كياناتها السياسية كحقيقة نهائية او مطلقة.

لكن المرحلة الناصرية - بروز الفكر القومي العربي - سلّطت ضغوطاً على الفن السينمائي من اجل السيطرة عليه وتوجيهه بما يخدم أهداف السياسات القومية – الاشتراكية  داخلياً وخارجيا. لا يمكن لأحد ان ينكر تزايد الطلب على الفلم المصري في تلك الأوقات، وتماهي معظم الشعوب العربية مع ما تطرحه هذه السينما على مختلف الأصعدة - حتى وان كانت في معظمها هموماً مصرية محلية. أصبحت مصر مركز صناعة السينما في العالم العربي، وهذا هو المعادل او المكافئ الفني لكونها مركز السياسة العربية ورأس الحربة في التحرر والتقدم. وبغض النظر عن تقييمنا النقدي لأفلام تلك المرحلة، لكن الحق يقال؛ ان تلك المرحلة شهدت عشرات الأفلام المتقدمة والمتميزة من مختلف الأنواع : سياسية، واقعية، عاطفية، غنائية، كوميدية، وغيرها ... جعلت مصر قمة سينمائية حقيقية في العالم العربي وخارجه أيضا.

ان الفكر القومي بتعارضه - المقصود وغير المقصود - مع الدولة القطرية وما تمثله من ثقافات محلية وحدود ومصالح وطنية خاصة، أدى  في جانب منه الى ضمور السينمات القطرية الجنينية أصلا بسبب سيطرة النمط المصري المكافئ للنمط (العربي) .... هذا النمط المبني أساسا على الريادة الفنية والحرفية العالية والمتمركز على الثيمات واللهجة ونجوم التمثيل والغناء في مصر.  وبين الجماهير العريضة - في كل مكان من العالم العربي - هذا ليس فلم مصري، انه الفلم العربي، انهم النجوم العرب، بل هذا هو الغناء العربي. وفي المصالحة التلفزيونية الشهيرة بين الفنانين الكبيرين فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ؛ يقسم عبد الحليم بعروبته، بقوميته، بمصريته، بحب الجماهير ... مما يدل على مدى انغماس الفنانين في المشروع الناصري ( القومي - الاشتراكي )، اذ شكل هؤلاء الفنانون  مركزاً للإشعاع او الإعلام المتقدم : يخترق الحدود والسلطات الرقابية العربية في كل مكان، ليشيع قيما وأفكارا وأحلاما جديدة .

ان السينما العربية في حقبتي الخمسينات والستينات أعطت للعالم في كل مكان صورة للحياة العربية الجديدة او المتجددة،  بحربها على الاستعمار والصهيونية والرجعية والاستغلال، وعملت على إشاعة قيم الحب والانفتاح والتقدم وتحرّر المرأة بين الجماهير العربية …. عبر أفلام واقعية نقدية وسياسية متفوقة، وكذلك عبر رومانسيات عبد الحليم وغنائيات فريد الأطرش وغيرها من الأفلام الرومانسية والكوميدية. مع تراجع المشروع القومي، وعقد اتفاقيات "كامب ديفيد" مع إسرائيل وعزل مصر عربيا لعقد من الزمن، فان الهموم والإسقاطات القومية غابت عن السينما المصرية، كما أغلقت الأسواق العربية أبوابها بوجه الفلم المصري، مما انعكس سلبا على حجم الإنتاج ونوعيته وموضوعاته.

ان هذه العزلة الثقيلة بين مصر وباقي الدول العربية، كانت نتيجتها انكفاء السينما المصرية الى الهموم الداخلية وتحجيمها عربيا، وبالتالي انشغالها بالمشروع "الساداتي" ونقد الفترة الناصرية السابقة. في نفس الوقت، أصبحت الساحة مفتوحة تماما في كل مكان من العالم العربي أمام الفلم الأمريكي بدون منازع. عامل تقني آخر كان ذو تأثير سلبي على عموم حركة السينما العربية، هو انتشار أجهزة الفيديو المنـزلي ( VHS) تجاريا في نهاية السبعينات …  ويبدو ان الفلم الأمريكي،   بواسطة الفيديو المنـزلي او عبر الشاشة الصغيرة، هو الأكثر ملاءمة للمتطلبات السياسة – الاجتماعية في الدول العربية. بالطبع، لقد ساهم الفلم الأمريكي في إظهار المحاولات السينمائية العربية – خصوصا بغياب الفلم المصري -  كنوع من النشاط  الدعائي او النخبوي او غير المحترف. وحتى المحاولات الجادة القليلة - جدا - التي رأيناها في الجزائر وسوريا والعراق ولبنان وتونس والمغرب، لم تستطع تغيير هذه الصورة او الواقع.

الحقيقة التي لا تخفى على أحد، ان السينما المصرية تعيش حاليا على أمجادها القديمة، انها تمر في أزمة بنيوية حقيقية … هل هي سينما أصيلة ؟  هل تستجيب لاشتراطات وحاجات الواقع ؟  اين هي الروح الجهادية والمستقلة للفنان المصري المشتغل في السينما؟  هل ان انسحاب الدولة تماما هو آخر المطاف بالنسبة للسينما ؟  واذا كان البعض يعترف بان نصف المجتمع يحرّم السينما ونصفه الآخر يسخّفها او يتسلى بها، فلنا ان نتساءل لماذا هناك سينما أصلاً في مصر او العالم العربي ؟  ألم تكن صناعة السينما من البداية نوعاً من المشروع الرأسمالي الفردي لبعض المغامرين - وخصوصا غير المصريين. من المؤسف كذلك  غياب النقد او تغييبه او تسطيحه ، وكذلك غياب الدوريات والمجلات المتخصصة بالثقافة والإعلام السينمائي لسنين طويلة في حياتنا العربية . ان إحدى نتائج غياب النقد الجاد، هو التخبط في تفسير المرحلة.

ان الأزمنة المتغيرة بسرعة هائلة منذ وفاة عبد الناصر والتي مرت على مصر وعموم العالم العربي، وما صاحبها من حروب وهجمات وتغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية على الساحة العربية والدولية في العقد الأخير من القرن العشرين،  شوّهت او شوّشت الصورة التقليدية للعالم، الصورة المتمثلة  في الصراع الأزلي بين الخير والشر، تلك الصورة التي تجسدت في السينما المصرية القديمة وهي تحاول ان تسجل او ترسم مشروعاً للصعود الاجتماعي او المصالحة الطبقية الشاملة. كذلك تشوّشت او تشوّهت الصورة النضالية الحالمة التي جسدتها بعض الأفلام في الفترة الناصرية. فقد اصبح العدو الاستراتيجي - الوجودي -  مشروعاً لصديق، وأبناء الأمة الواحدة أصبحوا خصوماً، اما أمريكا وحلفائها في المنطقة فقد تحولوا الى شركاء سياسيين واقتصاديين في النظام (العربي) الجديد …

لا نريد ان نعدد الأحداث التي جرت للعالم ولمنطقة الصراع العربي – الصهيوني. حقيقة انها كثيرة، كبيرة جدا، وتشوش المرء، ولنعترف انها أعادتنا الى نقطة البداية، نقطة التجريب والاختبار والاختيار، فقد تم التراجع عن أولويات ومسلمات في الحقول الاجتماعية والثقافية والسياسية، وبدأ البحث من جديد.... ان التقاليد السينمائية نفسها قد أصابها نوع من الانهيار والتفكك، ربما كرد فعل على الالتزام - شبه الإجباري - الذي  عاشه الفنانون في العهد الناصري. لا ننسى عامل مهم، هو الأموال الخليجية - والانفتاحية عامة - التي انصبت على حقول الإنتاج التلفزيوني المختلفة في مصر وخارجها ... فان كانت السينما المصرية قد قطعت أجنحتها العربية، فان التلفزيون اصبح له مخالب وورقة مرور الى كل البيوت العربية -خصوصا في دول الخليج - قبل شيوع الفضائيات.، ان التلفزيون هو الغذاء الحشوي  Pulp Food  الممتاز لإشاعة قيم الأسرة والمحافظة على النظام الاجتماعي والسياسي القائم. لقد جذبت هذه الأموال الجديدة – في ذلك الوقت - فناني السينما الكبار الى بيوتنا، بدل العناء والجري وراءهم في دور السينما. يوما بعد يوم، تعملق التلفزيون ومؤسساته المختلفة – الخاضعة  للرقابة دائما – وتقزّمت صناعة السينما التي  يصعب السيطرة عليها في ظروف الاقتصاد الحر، كما أصبحت لا تثير شهية المستثمرين في معظم الأحيان، ما خلا تجّار الخردة وحديثي الثراء الذين صنعوا أفلاما تجارية رديئة المستوى، أطلق عليها مصطلح "سينما المقاولات".

ومع هذا، فاننا نستبشر بالشركات السينمائية الجديدة، لان على  رؤوسها فنانين حقيقيين وتدعمها رؤوس أموال كبيرة مصر والعالم العربي، كما نشهد يوماً بعد يوم اعترافاً متزايداً بأهمية التوزيع مثلا - وعموم العمليات الرأسمالية - في صناعة السينما حتى من قبل النجوم والممثلين أنفسهم. هناك رغبة او إرادة في تحويل السينما من فن فردي - او تحت رعاية الدولة لأغراض تعبوية - الى قطاع صناعي/ تجاري مستقل، تحميه القوانين والتشريعات والحرص العام على ثقافة وتراث الأمة. ان تغيير شكل علاقات الملكية وعلاقات الإنتاج بما يواكب ويتلاءم مع المرحلة الاقتصادية والاجتماعية  الراهنة، ربما يكون ضروريا ومؤلماً - مثل جرعة الدواء المر - وصولاً الى بعث سينما مصرية - عربية - حقيقية.

موقع "إيلاف" في 19 نوفمبر 2004